العراق بين صناديق الاقتراع ومشاريع الهيمنة: من يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد؟
هل سيتمكّن العراق من فرض إرادته ومستقبله في ظل هذه التحديات، أم سيظل ملعباً مفتوحاً لمشاريع القوى الكبرى؟
-
هل سيكون العراق الحجر الثاني في مشروع الشرق الأوسط الجديد؟
يستعد العراقيون في الحادي عشر من تشرين الثاني للتوجّه إلى صناديق الاقتراع، في انتخابات تشكّل واحدة من أكثر المحطات السياسية حساسية في تاريخهم الحديث.
فمن أصل 46 مليون مواطن، لا يتجاوز عدد الذين سيشاركون فعليّاً في الاقتراع 22 مليون ناخب، وهؤلاء وحدهم سيقرّرون مصير العراق، ويرسمون بأصواتهم ملامح المرحلة المقبلة، بل وربما ملامح الشرق الأوسط الجديد بأكمله.
العراق ليس مجرّد دولة في قلب المنطقة، بل هو الركيزة الأساسية في ميزان الشرق الأوسط. فهو رابع أكبر بلد عربي من حيث المساحة، ويمتلك ثروات هائلة ووزناً استراتيجياً يجعله محط أنظار القوى الإقليمية والدولية على حد سواء.
لكن ما يجري في العراق منذ عقدين ليس صراعاً داخلياً فحسب، بل هو اشتباك طويل بين إرادة شعب يسعى إلى دولة قوية ذات سيادة، وبين مشروع دولي يمتد منذ عقود تحت اسم "الشرق الأوسط الجديد".
هذا المشروع لم يولد اليوم، بدايته كانت في أفغانستان، ثم انتقل إلى العراق عام 2003، ومنه إلى لبنان وسوريا واليمن، واليوم يعود المشهد إلى نقطة البداية: العراق. لماذا؟ لأن العراق هو ميزان المنطقة.
إذا وقع اختلّت المعادلة، وإذا نهض، تغيّر وجه الشرق الأوسط بأسره.
الأرقام وحدها تكشف حجم التداخل الدولي في الساحة العراقية: 86 دولة لها وجود عسكري أو استخباري أو لوجستي داخل العراق.
رقم يثير تساؤلات لا يمكن تجاهلها: ضد من هذا الحضور الهائل؟ فعدد الإرهابيين بحسب التقارير الرسمية لا يتجاوز أربعمئة شخص!
إذاً الوجود الأجنبي لم يعد أمنياً بقدر ما هو سياسي واستراتيجي، مرتبط بمسار النفوذ الدولي وإعادة رسم خرائط المنطقة.
وسط هذا المشهد المعقّد، تأتي الانتخابات لتضع العراقيين أمام أسئلة مصيرية: هل ستبقى الفصائل المسلحة قوة ردع وطنية تحفظ التوازن الداخلي؟ هل ستتمكّن الحكومة المقبلة من فرض انسحاب كامل للقوات الأجنبية؟ وهل ستنجح في تحصين القرار العراقي من الضغوط والوصايات الخارجية؟ أم يعود العراق إلى أن يكون ملعباً مفتوحاً للقوى المتنافسة؟
الولايات المتحدة بدورها لا تنتظر النتائج، بل تتحرّك في الكواليس عبر الضغط السياسي والاقتصادي، ومحاولات لنزع سلاح الفصائل، بالتوازي مع مشاريع استثمارية كبرى يراها كثيرون أشبه "بالاحتلال الاقتصادي".
في المقابل، ترى الفصائل العراقية أن سلاحها ليس ميليشيوياً، بل هو جزء من توازن الردع الوطني في وجه أي محاولة لإعادة الهيمنة الأميركية أو فرض واقع الاحتلال المقنّع.
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أكّد أكثر من مرة أن الوجود العسكري الأجنبي يفقد مبرّره مع تحسّن الوضع الأمني، مشيراً إلى أن العراق لا يحتاج إلى وجود 86 دولة على أرضه.
لكن التحديات التي تواجه الناخب العراقي اليوم تتجاوز المعادلات الأمنية والسياسية، لتطال همومه المعيشية اليومية: فرص العمل، الكهرباء، المياه، مكافحة الفساد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
صوت المواطن العراقي يعلو في كل الاتجاهات: "نريد أن نعيش بكرامة، نريد دولة لا تكون ساحة صراع، نريد مستقبلاً لأبنائنا".
وإذا ما استطاع البرلمان الجديد إنتاج حكومة وطنية متماسكة، فإن الباب قد يُفتح أمام ورشة إصلاح اقتصادي وسياسي قادرة على وضع البلاد على سكة الاستقرار، وضبط العلاقات الخارجية وفق منطق السيادة والمصلحة الوطنية.
أما إذا انزلقت العملية السياسية إلى خلافات طائفية أو حزبية، فإن القوى الأجنبية ستجد مبرراً جديداً للبقاء، وسيستمر مشروع الهيمنة بأشكال أخرى.
في هذا السياق، تشكّل مقاطعة التيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر عاملاً مفصلياً.
غياب السيد الصدر عن الانتخابات سيترك فراغاً كبيراً في المشهد السياسي الشيعي، الأمر الذي سينعكس مباشرة على حجم الأصوات والتمثيل البرلماني للطائفة الشيعية.
هذا الفراغ سيتيح المجال للقوى السياسية الأخرى، بما فيها الأحزاب والمكونات من الطوائف المختلفة، لاستقطاب جزء من هذه الأصوات، خصوصاً في المناطق المختلطة مثل بغداد والبصرة وديالى وكركوك.
وبالتالي قد تتغير خريطة التوازنات داخل البرلمان الجديد، ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات التقليدية وإضعاف النفوذ الذي كانت تتمتع به القوى الصدرية سابقاً، ويجعل النتائج أكثر تقلباً وتحدياً للتوقعات التقليدية.
بعض المراقبين يرى أن هذا القرار قد يفتح الباب أمام تحوّلات جذرية في المشهد السياسي العراقي، وربما يُمهّد لإعادة رسم التحالفات في مرحلة ما بعد الانتخابات.
هكذا، تبدو الانتخابات العراقية أكثر من مجرّد حدثٍ ديمقراطي دوري، بل هي معركة شاملة تمتدّ أبعادها إلى السياسة والأمن والاقتصاد والوجود الوطني.
وما سيقوله العراقيون في صناديق الاقتراع سيكون أكثر من مجرد اختيار نوّاب.
إنه اختيار لمستقبل العراق وهويته، بين أن يكون دولة حرّة سيدة على أرضها، أو ساحة مفتوحة لمشاريع الآخرين.
معركة العراق لا تنفصل عمّا حدث في سوريا.
سقوط النظام السوري أعاد ترتيب موازين القوى في المنطقة، وأعاد بغداد إلى قلب الصراع الإقليمي والدولي.
فالشرق الأوسط الجديد لا يكتمل إلا عندما تُعيد القوى الكبرى رسم خرائط نفوذها بعد دمشق، وسوريا كانت المحطة التالية بعد العراق في هذا المشروع.
هذا السقوط غيّر موازين القوى في المنطقة، وترك آثاراً مباشرة على العراق، سواء في الأمن أو السياسة أو التحالفات الإقليمية.
وفي هذا السياق، يصبح صوت العراقيين في الانتخابات أكثر من مجرد اختيار نوّاب، إنه معركة لحماية استقلال بلادهم ومكانتها في قلب المنطقة.
فهل سيتمكّن العراق من فرض إرادته ومستقبله في ظل هذه التحديات، أم سيظل ملعباً مفتوحاً لمشاريع القوى الكبرى؟
وهل سيكون العراق الحجر الثاني في مشروع الشرق الأوسط الجديد بعد أن وضع سقوط بشار الأسد الحجر الأول؟