رغم أنهم شيعة...
يوغلُ التوحّش الإعلاميّ تجاه هذه الجماعة بممارساتٍ ممنهجةٍ صادمة؛ خدشاً في إسلاميّتها، وإنكاراً لدورها، وتشكيكاً في فعلها النبيل ومواقفها المشرّفة من قضيّة العدالة المدفونة تحت أنقاض غزّة.
-
المسلمون الشيعة في سياقهم التاريخي (أرشيف).
يعيش المسلمون الشيعة إحدى أقسى مراحل التهجّم الإعلاميّ والمجتمعيّ في تاريخهم المعاصر.
لم ينفكَّ الإعلامُ الموجّه ووسائله المتكاثرة اليوم يستهدفهم كمكوّنٍ ما زال يمتلك الفعالية في مواجهة الاستحقاقات السياسيّة والإنسانيّة على مستوى أمّتهم وإنسانهم.
حيث يوغلُ التوحّش الإعلاميّ تجاه هذه الجماعة بممارساتٍ ممنهجةٍ صادمة؛ خدشاً في إسلاميّتها، وإنكاراً لدورها، وتشكيكاً في فعلها النبيل ومواقفها المشرّفة من قضيّة العدالة المدفونة تحت أنقاض غزّة.
المسلمون الشيعة في سياقهم التاريخي
المسلمون الشيعة كغيرهم من الجماعات الإنسانيّة والدينيّة الطبيعيّة للغاية؛ لهم وعليهم، ويواجهون العديد من التحديات الداخلية والاستحقاقات الفكريّة شأنَ بقيّة المذاهب وألوان الطيف الإسلاميّ؛ غير أنّ محاصرتهم بهذا الشكل القاسي في زاوية الاستهداف الإعلاميّ والأمنيّ والسّياسيّ لا تتركُ عذرًا لمُنصفٍ أن يرى حجم الاستهداف واستحالة براءته، وأن يُدرك مستوى الواجب والدّور المنوط بكلّ فردٍ يحملُ في قلبه "الرّساليّة" وفي عقله "المسؤوليّة"؛ وذلك تجاه نفسه وأمّته ومستقبل أبنائه؛ فالطريق إلى المستقبل يمرُّ حصرًا عبر تكاتف الأمّة وإعادة اصطفاف بيتها الدّاخليّ بنضجٍ عند مشتركاتها الجمّة، وإتقان إدارة الاختلاف الصحيّ بين بني الإنسان أفرادًا وجماعات.
الشيعة مكوّنٌ تاريخيٌّ من الأمّة واجه ويواجه الكثير من التجنّي العقائديّ والفقهي وحتّى الفكريّ؛ وربّما يُساعد على ذلك جهودٌ حثيثة من غير جهة لإبراز شخصيات منفلتة لا تمثّله، أو طقوس مستجدّة حادّةٍ لا أصالة لها.
وكأن غيرهم من الجماعات الدينيّة قد عُصمَ من هذه الظواهر التي لم تغادر مذهبًا ولا ملّةً إلّا ومسّتها!؛ طبيعةَ الإنسان في تدينه، وما يشوبهُ من طفراتٍ وتجاوزاتٍ لا تشبه الأصل ولا تنتمي له؛ ويقوم على تهذيبها بشكلٍ مستديمٍ علماء مجدّدون وروحانيّون مخلصون.
إنّما الفارقُ اللافت؛ أنّهُ وفي شتى الحالات المذهبيّة والثّغرات المعتادة التي تشوبها؛ لا تأخذ الظواهر الشاذّة ذاكَ المقدارَ من تسليط الأضواء وإثارة الضجيج بالغةً ما بلغت (ولسنا في صدد ذكر نماذج شاذّة أو إثارة نعرات)؛ فلماذا هذا هو الحالُ تجاه الشيعة بشكلٍ خاص؟! هذا سؤالٌ مهمٌّ لدى كلّ منصفٍ ومعنيٍّ بالحقيقة؛ والحالُ أنّ جوابه مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالدور والأداء الذي يقوم به الشيعة في تحدّيات الأمّة الراهنة، لا لأصل شيعيّتهم، بل لطبيعة دورهم وأثرهم الذي يعارض الممارسات الغربيّة السلبيّة ضدّ المجتمعات المسلمة.
في المقلب التاريخيّ أيضًا؛ فإنّهُ كما قامت دولٌ سنيّةٌ على امتداد التاريخ (كالأيوبيّة والمماليك والسلجوقية والعثمانية)، قامت أخرى شيعيّةٌ (كالحمدانيّة والبويهيّة والقاجارية والصفويّة)؛ وإنّ أيًّا من هذه الدّول لا يمثّل بحالٍ من الأحوال مذهبَ التشيّع أو التسنّن؛ بل يمثل حالةً سياسيّةً عابرةً تحكّمت لمددٍ زمنيّةٍ فحسب، وعاشت مصالح سياسيّة وأمنيّة معقّدة؛ جعلتها تضع المذاهب في خدمة مشاريعها السياسيّة لا العكس. وهو ما يعيه أيُّ قارئٍ حصيفٍ للتاريخ.
ومن هنا فإنّ من أفدحِ الزّلات اختطاف الهويّات المذهبيّة لتبرير أجندات الأنظمة السياسيّة، أو توظيف ذلك في حملات التجنّي والتحريض المتبادل التي يقودها متطرّفو الطوائف بخفّةٍ ينكرها العقل. وسعيهم المستميت لجرّ الأمة إلى صراعاتهم، وتبادل السرديّات العدائيّة لتوليد اشتباكاتٍ دمويّةٍ عابثةٍ لا تنتهي.
أمّا اليوم؛ وجريًا على ذات المسار المعيب؛ فقد طالعتنا وراجَت في الإعلام الرقميّ آنفًا عبارةٌ بالغة القسوة والدّلالة: "رغم أنّهم شيعة؛ لكنّهم قدّموا الكثير لفلسطين"!، يمكن لهذه العبارة المحوريّة أن تلخّص الصّورة النمطيّة التي أنتجتها الحملات الممنهجة، وأن تعكس عمق الشرخ الذي تجتهدُ الكثير الكثير من الجهات لتعميقه في روح الأمّة المسلمة وبين أبنائها ومكوّناتها.
إنّ هذه العبارة الجارحة ترى في الانتماء المذهبي الشيعيّ عاملًا مُسبقًا للحكم، وتشيرُ بشكلٍ فجّ إلى أن الموقف الإيجابي ليس متوقَّعًا أصلاً من المسلمين الشيعة، أو أنه يشكّل استثناءً عن قاعدةٍ مفترَضة!
بهذا المعنى؛ يتحوّل المدح الظاهريّ إلى إعادة إنتاج لصورة نمطيّة، تشي بتعاطف شكليّ، وتُلمّح ضمنًا بقسوة إلى انحيازات سابقة تعتمد سلفًا الشكّ أو التحفّظ أو الاتهام.
لا يمكن فصل هذه العبارة عن تراكمات الخطاب السياسي والإعلامي والديني الذي تعامل مع "الشيعة" – كمكوّن مذهبي– بعين الرّيبة، سواء على خلفيات عقائدية، أو بسبب التموضع السياسيّ لبعض الجماعات أو الدول ذات الأكثرية الشيعية.
وقد أسهم هذا الخطاب، على مدى عقود، في ترسيخ صورة ذهنية تُختزل فيها الطائفة بأكملها ضمن قوالب سلبيّة جاهزة، غالبًا ما يتمّ ربطها بسرديات الخيانة، والعمالة، وحتّى الانحراف العقائدي.
وهو ما يجدرُ تفكيكه ضمن رؤيةٍ موضوعيّةٍ متّزنةٍ تُعنى بقراءة واقع الأمة، وتوجيهه إلى أسباب القوّة واستعادة الدّور والأثر.
الفاعليّة في زمن الانكفاء السياسي للأمة:
بعد تاريخٍ حافلٍ للأمة المسلمة في الرّيادة الحضاريّة، لا يختلفُ مسلمان على أنّ واقع الأمّة اليوم يكاد يكون الأكثر سوداويّةً في تاريخها.
فالأمّة التي "لا تُغلبُ من قلّةٍ" كما وصّفها نبيّها الكريم، تعيش أحد أقسى تجلّيات الوهن الجمعيّ في السّاحة السّياسيّة العالميّة، وتمارس أقصى شكلانيّة المواقف أمام جراح شعوبها واستحقاقاتها المصيريّة في فلسطين وغيرها.
لم تستطع مذابحُ عشرات الآلاف من أبنائها في فلسطين أن تستنهض فيها موقفاً فاعلًا، أو دفاعاً مجديًا، أو وقفًا لائقًا لإراقة الأرواح التي بُحّت من النداء أن يا للمسلمين.
العدوّ يستبيحُ بصلفٍ قلّ نظيره في التاريخ أعضاء الجسد المسلم الذي أراد له الرسول العظيم محمّد أن يتداعى بعضه لبعض بالسّهر والحمّى، ويتبجّحُ على الملأ أنهُ حيَّدَ الأمّة عن الدّور والفاعليّة، وأنه سيستفرد بالدّم الفلسطينيّ حتّى لو رسم أفدح مشاهد الوحشيّة في تاريخ الإنسان.
إنّ القتل بالصّمت كالقتل بالنّار؛ كلاهما يؤدّي النتيجة ذاتها؛ وإن اختلف الشكل أو بدا أقلّ وحشيّةً فحسب.
المسلمون الشيعة كان لهم قرارٌ وأداءٌ مختلف، من منظور الواجب لا الاستعراض، اتخذوه تحت وطأة الضريبة المهولة التي يدفعونها من دمائهم ومقدّراتهم، ورغم الممارسات اللامنقطعة للماكينات الإعلاميّة العالميّة والإقليميّة في محاولة تحجيم أو تشويه هذا الفعل التاريخيّ المشهود، استطاعت تلك البسالة والرّوح المدافعة عن المظلوم أن تثبت مبدئيّة هذه الجماعة الأصيلة في انتمائها الديني والوطني تجاه أقدس قضايا الأمّة.
يستطيع القارئ للساحة وأحداثها أن يصل إلى هذه الخلاصة بعيدًا بالفعل عن أيّ هوىً مذهبيٍّ أو انحيازٍ حزبيٍّ أو شخصيّ.
لقد عاش المسلمون الشيعةُ مظلوميّةً تاريخيّةً قلّ أن تعرّضت لها طائفةٌ أو جماعة، فأريقت دماء أئمتهم ونُكِبَ أبناؤهم وشّرّد علماؤهم، وهو ما يجعلهم يكتنزون إلى حدٍّ كبير فهماً عميقًا للمظلوميّة لدى غيرهم، ودافعاً جادًّا لنصرتهم ورفع الحيف عنهم. هذا مُحرّكٌ اجتماعيٌّ فعّالٌ بحقّ.
تمامًا كما نشاهد في الانحياز الفطريّ إلى الحق الفلسطيني لدى دولة أوروبية مثل أيرلندا؛ كونها عاشت تجربة الاحتلال البريطانيّ الجائر لما يناهز الـ700 عام؛ وتستطيع أن تتلمّس تمامًا حجم وكمّ الألم الذي يمسّ الإنسان الفلسطينيّ ووطنه المُحتلّ.
ليس ثمّة جماعةٌ إنسانيّة لا تُخطئ في بعض خطابها السياسي أو مواقفها المجتمعيّة، لكنّ المشهد العام يُثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أمام العقل المنصف أنّ هذا الثبات المشرّف على دعم القضيّة الفلسطينية بما رافقه ويرافقه من ضرائب فادحة؛ لا يُمكن إلّا أن تلحظه سنن الخالق في إدارة التاريخ، وأن يدخل إلى وعي ووجدان شرائح كبيرة من الأمة خاصّةً، والإنسانيّة عامّةً، وإن توانى عن تقديرها الزّمن.
اصطفّ المسلمون الشيعة خلف فلسطين وشعبها بالحديد والنّار، وبذلوا الدّم وضحّوا بالقادة والأبناء والمقدّرات، وعاشوا التشريد والدّمار وحملات الإعلام المتجنّية.
هذا ليسَ مشهداً عابراً في تاريخ الأمّة؛ بل مؤّشر أملٍ يكسر أسوار الطائفيّة التي أنفق عليها الأعداء طائل التخطيط والمال والإمكانات، وهي معطياتٌ يقرأها العدوّ جيّدًا؛ ويبني عليها قلقًا جادًّا من أملٍ متنامٍ في عودة الأمّة إلى اقتدار الوحدة والتكامل. وكلّما زاد شعورُه بخطر هذا التقارب؛ استشرت جهوده الحثيثة للتفرقة، والعمل على شيطنة المذاهب في وعي بعضها بعضاً.
وللمراقب أن يلتفت إلى اتجاه هذا المقياس بالغ الوضوح في شتى المناسبات، صعودًا وهبوطًا.
محوريّة التقريب في مسيرة العقل الشيعي:
عاش الشيعةُ الوحدة هاجسًا (رغمَ أيّ نشازٍ شابَ بيئتهم الداخليّة، أو تشويهٍ اعتادته صورتهم الخارجيّة). ومن نماذج العقل الشيعيّ الذي لا ينفكّ عن إسلاميّته؛ حين استقرّ السيد محسن الأمين العاملي (وهو الذي كان يُنعت بـ"الإمام المُصلح") في العاصمة دمشق بداية القرن العشرين (عام 1901 تقريباً)، وذاعَ عمله الحثيث على رفع مستوى الحياة الدينية والاجتماعية لكل المسلمين في سوريا، لا في مصلحة الطائفة الشيعيّة فحسب.
كان الرّجلُ يُؤمن أن الانخراط في الأوقاف الإسلامية العامّة (مع حفظ خصوصية الشعائر) هو الأصحّ والأَولى؛ ليكون الشيعة جزءًا من البنيان الإسلامي العام، لا كيانًا طائفيًا منفصلاً عنه.
فرفضَ بشكلٍ حازم _بعد استقلال سوريا_ تأسيس نظام أوقاف خاصّ بالشيعة؛ وأصرَّ أن تكون مرجعيّة الشيعة في ذلك هو الوقف السنيُّ نفسه، معلنًا أنّهُ لن يقبل أن يكون "الوقفُ" بابًا لخلق الصدع والشقاق، وأنّهُ من المعيب أن يُصبح العمل الإسلاميّ الجامع أساسًا للتفرقة.
وما ذاكَ العالِمُ النّموذجُ سوى امتداد لشخصيّات ومواقف لا متناهية في سياق تاريخيّ جامعٍ لدى أئمة المذهب:
· فالسيد المرتضى _منذ القرن الرّابع الهجريّ_ كان ينشر رسائل الوحدة والتقريب ويُشارك في مجالس النّقاش بين المذاهب المختلفة وهو وضع أصولًا فكريّةً رصينة للاحترام المتبادل بين المسلمين. وكان يشارك بانتظام في مجالس النقاش الكلامي التي تعقد في بغداد، ومن ذلك نقاشاته اللائقة المشهودة مع القاضي عبد الجبار المعتزلي وغيره.
· الشيخ الطوسي مؤسس الحوزة النجفيّة، والذي واجه عصر الاضطهاد ضد الطائفة الشيعيّة في زمن البويهيين ثم السلاجقة، وبعد أن أُحرقت مكتبته الشهيرة في بغداد هاجر إلى النجف ليؤسس مدرسة حرة للفكر الدّيني فيها. وقد وجّه في كتاباته إلى احترام المذاهب الأخرى وكان لهُ أصلًا طلاب من مذاهب متعدّدة، كما خصّص في كتبه ودروسه فصولًا لعرض آراء الأصوليين من المذاهب الأخرى، وناقش بإنصافٍ كامل آراء الشافعيّة والحنفيّة وغيرهم.
· الشيخ الطبرسي (صاحب تفسير مجمع البيان) الذي اعتمد منهج عرض آراء المذاهب الأخرى بأمانة مطلقة في كلّ مصنّفاته العلميّة، وكان في تفسيره الشهير يذكر آراء المذاهب السنيّة في معاني الآيات بأدبٍ علميٍّ عالٍ، ثمّ يعرض للرأي المعتمد من قبله بمنهج استدلالي واضح.
· السيد البروجردي (وهو أستاذ العلماء المعاصرين المشهورين: الخميني، السيستاني، الخامنئي، بهجت، مطهري، السبحاني،... وغيرهم الكثير)؛ كانَ معروفًا بفكره التقريبي حتى في الجانب الفقهي؛ حيث كان يرى أنّ الرجوع إلى فتاوى العلماء السنّة وفهمها هو مقدّمة من مقدّمات الاجتهاد عند الشيعة. كما أحيا العلاقة مع الأزهر؛ وشجّع تلميذه السيد محمد تقي القمّي على تأسيس "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" سنة 1947م، وكان الداعم المادّي والروحيّ لها.
· مؤسس المدرسة الفقهيّة الجعفريّة في جبل عامل _القرن الثامن الهجري_ الشهيد الأوّل محمد بن مكّي العاملي (صاحب "اللمعة الدمشقيّة" أحد أشهر كتب الفقه في الحوزات الشيعيّة) أجازه كبار علماء الشافعيّة والمالكيّة في دمشق بالتدريس والإفتاء، وكان يُدرّس فقه المذاهب الأربعة، ولديه إجازة بذلك من مشايخ السنّة الذين درس على عدد منهم، ودعا طلابه إلى أن يدرسوا على علماء المذاهب الأخرى، ولم يكن يرى في العنوان المذهبيّ حاجزًا أمام التفاعل المعرفي أصلًا.
إنّ هؤلاء العلماء وسواهم الكثيرُ من الأكابر؛ يمثّلون عقل المدرسة الشيعيّة، الوحدويّة في إسلاميّتها، الإنسانيّة في قضاياها؛ التي لا تنغلق على نفسها في إطار "الطائفة"؛ بل تنشغل باستحقاقات الأمة كلّها، وتتجاوزها إلى المسؤوليّة عن قضايا الحقّ والعدل لعموم الإنسان.
وعلى ذلك كلّه؛ تبقى العبرة في رؤية وتعويم تلك النماذج الرائدة، ووضعها في عين المشهد واستحضارها أمام أزمات اليوم؛ بدل تغييبها وإبراز شخصيّات مريبةٍ لا وزن معرفيّاً ولا اجتماعيّاً ولا جماهيريّاً لها، فضلًا عن المعطيات الواضحة بارتهانها لجهاتٍ خارجةٍ عنها؛ وهو الحالُ ذاته مع الكثير من الشخصيّات الزائفة أو القشريّة لدى المذاهب الأخرى؛ ذلك أنّها ظاهرةٌ إنسانيّةٌ عامّة، ما أجدرَ الأمّة بوعيها بدل إهراق الجهود والكرامات والحرمات المتبادلة.
- العبارة القاتمة (مراجعةٌ نقدية):
تحمل العبارة التي عَنونت المقال: "رغم أنهم شيعة" في طيّاتها بنية لغوية شائكة؛ مفادها أنّ هناك تصوّرًا مسبقًا يفترض تعارضًا بين الانتماء الشيعي والقيام بالفعل النبيل والحميد، كالانخراط في دعم فلسطين، وأنّ هذا التصوّر بحاجة إلى تصحيح ضمني عند كل حدث يُثبت العكس.
هذا التناول يعكس إخفاقًا في تفكيك الصور النمطية، ويؤشّر إلى الحاجة لإعادة بناء خطاب أكثر عدالة وتوازنًا في التعامل مع الفروقات المذهبية داخل الفضاء العربي والإسلاميّ.
إنّ هذه العبارة تمثّل التجلّي الأكبر لـ"محوريّة الظنّ" في عقل شرائحَ عريضة من المجتمع المسلم المعاصر؛ في حين أنّ القرآن الكريم أدّب مؤمنيه على نقيض هذه السمة المؤذية تجاه الآخر حين قال: يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظنّ"؛ فلا يكن محور حياتكم، ولا معيار علاقتكم بالأخ في الدّين والشريك في القضايا. كما يعارض المبدأ الدينيّ القرآنيّ في الاعتصام بحبل الله.
في الآن ذاته؛ لا نسمعُ ولا نرضى في أمّتنا أن نسمع عباراتٍ مثل: "رغم أنّهم أحناف، رغم أنّهم صوفيّون، ماتريدية، سلفيّون، حنابلة،..."؛ فهذا منهجُ شقاقٍ نبذه الله في صريح كتابه وزجرَ عنهُ بمهابةٍ قائلاً: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم". وهنا يفرض السؤال الحازم نفسه: أينَ واقعُ الأمّة اليوم من التنازع أو التكاتف؟
إنّ مخالفة هذه القاعدة القرآنيّة المحوريّة تنتج بالضرورة تجهيلاً على مستوى الفكر وصراعًا على مستوى السلوك؛ وتصير بالأمة إلى شللٍ حقيقيٍّ في الوعي والدّور بين الأمم.
بل يمثّل هذا التجهيلُ فرصةً وخاصرةً رخوةً يستغلّها العدوّ بدهاءٍ باردٍ، ويتسلل منها للفتك بحاضر المجتمعات المسلمة وتهديد مستقبلها.
"شمّاعة إيران"، متى أصبح الشيعيّ عدوًّا؟
كدولةٍ ذات أغلبيّة شيعيّة، وبلحاظ فاعليّتها الإقليميّة العالية؛ لا يخفى أنّ إيران تحوّلت في الخطاب الإعلاميّ العربيّ السّائد إلى ما يشبه "الشمّاعة الطائفية" التي تُعلَّقُ عليها أكثر أزمات المنطقة ومشاكلها (وهي ظاهرةٌ مستجدّةٌ تحتاج الكثيرَ من الحذر والتفكيك).
لقد حرصت جهات عديدة (غير إسلاميّة في أغلبها) على تظهير إيران كـ"عدوٍّ داخليّ" قادرٍ على إشغال البيئة الإسلامية وصرف نظرها عن أزماتها الفعليّة وأعدائها الحقيقيين (ممن يمارسون الاحتلال المباشر، والاستعمار الاقتصادي الجشع، والتفكيك المجتمعيّ والثقافيّ، والاستباحة العسكرية للمقدّرات والدماء،... وغير ذلك المؤسف الكثير).
الغريب أنّ هذه النزعة الاتّهامية الممنهجة لم تكن حاضرة _على سبيل المثال_ في زمن الشاه محمّد رضا بهلوي "الشيعي"، حين كانَ الحليف الأوثق للغرب و"إسرائيل" في الشرق برمّته، ورغم ما مارسه نظامه من تبعية واضحةٍ وهيمنةٍ على القرار السّياسيّ في الدّاخل الإيرانيّ والمنطقة؛ بل لم تكن تُثار آنذاك أدنى "حساسيّة مذهبيّة" حيال العلاقات معه في كلّ دول المنطقة التي كانت تبذل له التقدير وتُعلن الاحترام، بينما انفجرت الاتهامات والمخاوف الطائفية بشكل غير مسبوق بعد سقوط هذا النظام وصعود نظامٍ معادٍ للهيمنة الأميركية-الإسرائيلية؛ وفي هذا من الدلالة ما يُغني عن شروحٍ تطول.
خلال الأعوام الآنفة تكشف الكثير من الوثائق والتقارير (الصادرة عن جهات استقصائيّة رسميّة وغير رسميّة) أرقام صادمة للتّخطيط والدّعم الإعلاميّ الموجَّه باستماتة نحو "شيطنة إيران"، حيث تشير إحدى هذه الدراسات إلى أنّ ما نحو 700 مليون دولار تُخصَّص سنويًّا لمراكز أبحاث وصناديق إعلاميّة في عواصم عربيّة وغربية لإنتاج محتوى يُكرّس الصورة النمطية العدائية تجاهها، عبر مئات الوسائل الإعلامية (رقمية وتلفزيونية).
إنّ الخطر لا يكمن في نقد إيران أو غيرها (وهي كسِواها من دول الأمة تعيش مشاكل وترتكب أخطاء)، بل إنّ النقد الموضوعي ظاهرةٌ صحيّة ومطلوبة داخل الأمّة المسلمَة، إنّما الخطورة في تحويل دولة إسلاميّة إلى بؤرة افتراضية للعداء الطائفيّ القاتم، بما يعمّق الشروخ بين مكوّنات الأمة، ويحرِف وعيها الجمعيّ من العدو الخارجي إلى خلافات داخليّة مذهبيّة مرضيّة، لا طائل منها ولا نهاية لها.
وعِوضًا عن ذلك ينبغي أن تتوجه الخصومة السياسيّة نحو وجهتها الحقيقيّة: العدوّ الذي يغتصب الأرض، وينهب الثروات، ويفرض التبعية، ويُغرق شعوبنا في دوائر الضّعف والتخلّف. وهو نفسهُ الذي يقوم بكلّ تلك الجهود الفتنويّة التي يضعها في خانة فهمه لـ"التنافس الحضاريّ" الخالي من أدنى المعايير الأخلاقيّة والإنسانيّة. إنّ الغرب يستشعر خطرَ النهوض الإسلاميّ على ترفه الماديّ وتفرّده بقرار العالم، ويبذل أعتى الجهود وأسوأ الأساليب لمنع ذلك.
مجمل الأمرّ أنّ من أبسط معايير الإنصاف التي ندعو إليها؛ ألّا يُختزل مئات الملايين من أبناء الطائفة الشيعيّة في سرديّات سياسيّة معادية وظالمة، ولا تستخدم المذاهب كورقة في أروقة الصراع الجيوسياسي، فيما يُغضّ الطرف عن عشرات التحالفات المعلنة مع "إسرائيل".
في الوقت ذاته تغالي هذه الحملات في صناعة صورةٍ شيطانيّة مركّبة لإيران، تُلصَق بها فظائع وأحداث دامية في سوريا والعراق ولبنان واليمن (لتصبح بعدَ فترةٍ من مسلّمات الإعلام وبديهيّاته)، وترسم حولها سيناريوهات مرعبة تجاه دول الخليج؛ ولا سقفَ يلوح لمدى الاتهام أو الاختلاق، وهو من السهولة بمقدار صعوبة كشف زيفه والدّفاع عن الحقيقة فيه.
أخي القارئ؛ لا تستفزّنك المفردة التالية عندما تقع عينك عليها: "شيعة"؛ هؤلاء إخوة ومسلمون، هم أبناء أمتك ذاتها، قضاياك ذاتها، آلامك وأحلامك ذاتها.
وإن كانت قد طغت الجهود الإعلاميّة القبيحة لدرجةٍ جعلت مجرّد مطالعة المفردة لدى البعض سبباً للتحفّز والنّفور دونما وعي؛ فإنّ هذا تأثيرٌ إعلاميٌّ حادُّ نفهمهُ إنما لا نبرّره. وهو بكلّ تأكيد انشقاقٌ للصفّ والمشروع؛ لا يقبله الإله الواحد ولا النبيّ الكريم، ولا منهج القرآن الصريحّ بأنّ "هذه أمّتكم أمةً واحدة"، وأن "اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا".
اتساقًا مع كلّ ما سلف؛ وأنّى كان واقع الأمة اليوم وسلوكها مع أحد مذاهبها؛ لا تنفكّ الجماعة الشيعيّة بحالٍ من الأحوال عن إسلاميّتها؛ في فكرها ومعتقدها وفقهها وقراءتها للتاريخ واستشرافها للمستقبل، وإن اختلفت في بعض تفاصيل ذلك كلّه كاختلاف الجماعات الأخرى بعضها عن بعض.
هذه بسملةُ القول التي لا يصحّ القبول بأقلّ منها في أيّ نقاشٍ أو سجال، والتي تشكّل بحقّ اللبنة الأولى في مشروع بناء مستقبلٍ إسلاميٍّ جامعٍ وقادرٍ على مواكبة استحقاقاته الحضاريّة الملحّة.