كيف يُهزَم هؤلاء؟
ارتفعت البنادق وقالت كلمتها، وهيهات أن يستلّ الأبطال سيوفهم من أغمادها دون قتالٍ حتى الرمق الأخير، فإمّا النصر أو الشهادة.
-
في لبنان، لم يتأخر أهل المقاومة يوماً عن نصرة المظلوم وأصحاب الحق.
في الحروب، وما بعدها، ثمة مشاهد لا تحتاج إلى تحليلاتٍ سياسية وقراءات. هي مشاهد ناطقة بذاتها.
وكذا كانت صبيحة السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
لم تكن الحرب الأخيرة على لبنان كسابقاتها، هي حربٌ أُريدَ بها طحن المقاومة وإحالتها رماداً، وبغض النظر عن أن هذه المقاومة تنهض من تحت رمادها مهما حصل، فإن العدو لم ينجح في إتمام مهمّته.
لا معنى للتحليل السياسي هنا، وعبارة "فشل العدو" لا يُراد بها تضخيم نصرٍ لـ"حزب الله" أو "اختلاقه" كما يوصّف البعض، العبارة هنا حقيقةٌ صنعها أهل المقاومة ورسّخوها.
الزمان: الرابعة فجراً من 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
المكان: كل الطرق المؤدية إلى جنوب لبنان وبقاعه، وضاحية بيروت الجنوبية.
الحدث: عادوا.
هذا ما كان ببساطة. وهذا ما لم يُرد له العدو أن يكون، ببساطةٍ أكثر.
المشاهد التي حفظها التاريخ منذ عام 2000، تُكرّر نفسها حتى اليوم، بصورةٍ أكثر ألقاً، ويفشل العدو كل مرة في حجبها وتخريبها.
الصغار قبل الكبار، الشيوخ قبل الشباب، حزموا أمتعة العودة قبل بزوغ الفجر: "آن أوان العودة إلى الديار".
هو رحيلٌ لم يختاروه عن ضعفٍ وجبن، هاتان صفتان لا يعرفهما أهل المقاومة، ففي تلك القرى/القلاع، كان شبّانٌ/أسود يحرسون الأرض ويستميتون دفاعاً عنها وأهلها.
أمّا من كان في بقائه خطر عليه من دون ضرورة، فالرحيل كان واجبه، لأن العقل يدلّ على الصواب، وحين ينوي عدوّك إبادتك من دون تردد، فإن خيار المقاومة يأخذ أوجهاً عدة، منها القتال والمواجهة، ومنها الحفاظ على الحياة وضمان البقاء.
والرحيل الذي كان تحت وطأة الليل الثقيل، كُتِبَت له النهاية مع فجرٍ عرفوا جميعاً أنه آتٍ لا محالة.
ولعلّ من أعاب على أهل المقاومة حزنهم ودموعهم وخوفهم على أحبّائهم، أغفَل، أو تغافل متقصّداً، أنّ الطبيعة البشرية واحدة، وأن الحزن، أو الخوف، أو القلق، حين يلفّك الموت والدم من كل صوب هي مشاعر إنسانية طبيعية، وهي تفاعل طبيعي مع الأحداث الدموية، ولا يلغي أيٌ منها ثبات هؤلاء على مواقفهم، وإصرارهم على بذل ما يبذلونه في سبيل الأرض والأمان والكرامة.
في كتابه "حرب الثلاثين سنة: الانفجار" يقول الصحافي والكاتب الراحل محمد حسنين هيكل إن الهزيمة تعني تسليم طرفٍ بالكامل لطرفٍ آخر، وإذا رفض هذا الطرف أن يسلّم وهو مالك لإرادته، فهو إذاً غير مهزوم. ويذهب هيكل أبعد من هذا، ليؤكد أنه في حال تصميم هذا الطرف على المقاومة وإعطاء نفسه إمكانية العودة باقتدار إلى ميدان الصراع، فهو يكون قد استعاد لقوّته فرصتها من جديد حتى إحراز النصر.
ويفصل هيكل بهذا بين نوعين من الهزيمة: هزيمة السلاح، وهزيمة الإرادة. وهما فعلياً الهدفان اللذان تقوم من أجلهما أي حرب، فهو يستشهد بآراء "أساتذة الحرب" أمثال ماكيافيللي وفوللر، الذين يقولون إن أي حربٍ لها هدفان، هدف ابتدائي وآخر نهائي؛ أمّا الابتدائي فهو تحطيم القوة المسلّحة للطرف الآخر، وأمّا النهائي فهو تحطيم إرادته.
الإرادة، هي إذاً ما سعت "إسرائيل" لكسره ولم تستطع. وهي الهدف الصعب المنال منذ أكثر من أربعة عقود. هي القوة التي يملكها أهل المقاومة، وتجعلهم حتى اليوم، وبعد كل استهدافٍ جديد، يشيّعون شهداءهم، ويرفعون ركام منازلهم، ثم يواصلون حياتهم في قراهم غير آبهين بعدوٍ يتربّص بهم في كل لحظة.
دمّرت "إسرائيل" آلاف النقاط التابعة للمقاومة، ومئات المخازن التي كانت تحوي مختلف أنواع الأسلحة، وفجّرت في لحظةٍ واحدة وجوه وأيدي آلاف الشبّان والشابات والأطفال، لكنّها، على الرغم من كل هذا، فشلت في إرغام فردٍ واحدٍ من سكان قرى الحافة على التخلّي عن بيته وأرضه، ومشاهد دخول الأهالي القرى الحدودية، بعد انتهاء فترة الستين يوماً، صبيحة السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2025، خير شهادة على ذلك.
أصحاب الأرض فقط هم من ينطلقون فجراً نحو منزلٍ يعلمون مسبقاً أنه سُوّي بالأرض. هم يتوجّهون إلى "البيت" الذي لا يحدّه سقفٌ ولا جدران، فأرض الجنوب على اتساعها هي بيتهم، وترابه مفرشٌ لهم ووسادة.
وثمة ما هو أقسى من العودة إلى بيوتٍ مهدّمة: العودة إلى أحبّاء غادروا من دون رجعة.
"طالع شوف حمودي" قال شابٌ طبيب ارتقى أصغر إخوته شهيداً، وأُصيب الآخر بجروحٍ خطرة. أنهى الشاب الطبيب مهمّةً مُنهكةً تولّاها في المستشفيات خلال الحرب، وانطلق عند الرابعة فجراً نحو أخيه، هو يعلم أنه لن يكون بانتظاره على الشرفة، ويعلم أنه لم يعد من فرصةٍ للقاءٍ وأحضان، لكنه، مسرعاً، انطلق. ووصل إلى قبرٍ من دون شاهد، وبيتٍ بلا نوافذ، وأرضٍ لا تنفكّ تنتظر أهلها أبداً، لافظةً كلّ دخيل.
عاد الجنوبيون والبقاعيون وأهل الضاحية، وصوت السيد حسن نصر الله يظلّلهم "ستعودون إلى الديار هاماتكم مرفوعة.."، عادوا بهاماتٍ مرفوعة وقلوبٍ تبكي غيابه وتعاهده على إكمال الطريق. وهذا شعبٌ لم يعتد أن ينحرف عن دروبٍ اختارها وتحمّل وعورتها.
هذا الشعب، عرفَ العزّة وكره المذلّة منذ عقودٍ بعيدة، وما طاب له نومٌ يوماً وأرضه مستباحة، لهذا يُدرك قيمة السلاح جيداً، ويُدرك أنه الحلّ الوحيد أمام المعتدي.
منذ مئة عامٍ تحديداً، وقف بطلٌ حفظه التاريخ اسمه سلطان باشا الأطرش، ووجّه رسالةً يُسمع صداها حتى اليوم: "الحق يؤخذ ولا يُعطى"، وكان مدركاً أن الطريق إلى هذا الحق هو طريق واحد فكان نداؤه "إلى السلاح، والله معنا، والإنسانية معنا".
وفي لبنان، لم يتأخر أهل المقاومة يوماً عن نصرة المظلوم وأصحاب الحق، مهما كانت الأثمان، وحسبهم أنّ صوت الشهيد محمد الضيف حين وصل إليهم لم يتلاش في الفضاء من دون أثر، "يا إخواننا في الجهاد، اليوم كل من عنده بندقية فليخرجها فقد آن أوانها"، وصل الصوت، فتلقّفوه، وحوّلوا النداء إلى معركةٍ تليق بالأبطال.
ارتفعت البنادق وقالت كلمتها، وهيهات أن يستلّ الأبطال سيوفهم من أغمادها من دون قتالٍ حتى الرمق الأخير، فإمّا النصر أو الشهادة، وهؤلاء قومٌ تخرّجوا من مدرسة حفيد رسول الله (ص) الحسين بن علي (ع)، فكيف يُهزَم قومٌ شعارهم "هيهات منّا الذلّة"؟