من الدولة اليهودية إلى "إسرائيل الكبرى".. الجذور الفكرية للمشروع الصهيوني
المشروع الصهيوني منذ بدايته لم يكن مجرد محاولة لحل المسألة اليهودية أو حماية اليهود من الاضطهاد، بل كان مشروعاً استعمارياً توسعياً يتجاوز حدود فلسطين.
-
قسّم هرتزل الكتيب إلى قسمين رئيسيين (أرشيف).
شهدت أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تصاعد النزاعات القومية ومعاداة السامية، ما جعل من الصعب على الجاليات اليهودية الاندماج في البلدان المضيفة، خاصة في أوروبا الشرقية وروسيا القيصرية. وأمام هذا الوضع برز الصحافي تيودور هرتزل، الذي قدّم حلاً للمسألة اليهودية، حيث اقترح تأسيس وطن قومي يجمع شتات اليهود في العالم. وقد قدّم الإطار النظري والتطبيقي لهذا الحل في كتابه "الدولة اليهودية".
ولم يكن هرتزل يدرك – أو ربما كان يدرك – أن ما عرضه في هذا الكتاب سيصبح النص التأسيسي لمشروع سياسي عسكري استعماري يمتد لقرون، ويسعى لابتلاع المزيد من الأراضي العربية. واليوم، ونحن نقف أمام تصريحات بنيامين نتنياهو، يصبح من الضروري العودة إلى هذا الكتاب لفهم المنطلقات الفكرية والدينية والأطماع الاستيطانية التي قامت عليها "إسرائيل".
تيودور هرتزل وتأسيس الصهيونية:
تيودور هرتزل، أو بنيامين زئيف (1860 – 1904)، هو كاتب وصحافي نمسوي مجري، والأب الروحي للحركة الصهيونية ومؤسس الدولة اليهودية. وُلد في بودابست – المجر، في عائلة يهودية علمانية، وهو ابن جانيت ويعقوب هرتزل. بعد انتقاله إلى فيينا عقب وفاة أخته بولين عام 1887، التحق بكلية الحقوق، ثم درس الأدب، وأصبح ناشطاً في الصحافة، حيث عمل في صحيفة ألمانية.
تابع هرتزل قضية دريفوس، التي سرعان ما أصبحت قضية رأي عام مرتبطة بمعاداة السامية. وفي عام 1895، ألّف كتيب "الدولة اليهودية" الذي نشر عام 1896، وطرح فيه فكرة عملية لإنشاء دولة قومية تجمع شتات اليهود في العالم. وبرغم أن هرتزل لم يكن السبّاق إلى هذه الفكرة، فإن بساطة طرحه، والسياق الذي نشر فيه الكتيب في ظل تزايد اضطهاد اليهود وحادثة دريفوس، ساعدا على انتشار أفكاره بسرعة في صفوف اليهود.
قسّم هرتزل الكتيب إلى قسمين رئيسيين:
قسم عرض فيه المسألة اليهودية وأسباب اضطهاد اليهود، وقسم طرح فيه الخطة العملية لإنشاء الدولة القومية.
ويلاحظ قارئ الكتيب تركيز هرتزل على أدق التفاصيل المتعلقة ببناء الدولة الجديدة وتنظيم الهجرة إليها، بشكل يوحي بحنكة وذكاء وبراغماتية في التخطيط الاستعماري.
في القسم الأول، رفض هرتزل فكرة اندماج اليهود في المجتمعات، معتبراً أن هذا الاندماج مستحيل في ظل رفض هذه المجتمعات لهم، وأنه لا يوجد حل سوى إنشاء دولة مستقلة لهم، تجمع اليهود باعتبارهم أمة، لا مجرد طائفة دينية. وأرجع أسباب اضطهادهم ومعاداة السامية إلى التعصب الديني وضيق الأفق لدى "الشعوب المضيفة"، إضافة إلى المنافسة الاقتصادية الناتجة عن تفوق اليهود في التجارة والمال، واتهامهم بالسيطرة على الاقتصاد والسياسة، ما تسبب في اضطهادهم.
كانت خطة هرتزل لتفادي هذا الاضطهاد تتمثل في إنشاء دولة مستقلة بدعم من القوى العظمى، على أرض الأرجنتين أو فلسطين. فقد رأى أن الأرجنتين خيار ممكن لغناها بالموارد، وقلة ارتباطها بالصراعات السياسية، ومساحتها الشاسعة، إلا أن فلسطين كانت الخيار الأفضل لارتباطها بالخلفية الدينية في المخيال اليهودي، حيث تُعد أرض الميعاد وفق النصوص التوراتية، بوعد الرب للنبي إبراهيم. وقد حدد هرتزل حدود هذه الأرض الموعودة من نهر النيل إلى نهر الفرات وأضفت هذه الفكرة الدينية لمشروعه بعداً عقائدياً، إذ اعتُبرت فلسطين جزءاً من الوعد الإلهي في طريق إنشاء إسرائيل الكبرى وإقامة مملكة الرب بقيادة ملك من نسل داوود.
التخطيط العملي عند هرتزل:
انتقل هرتزل بعد ذلك إلى التخطيط العملي لدخول هذه الأرض عن طريق الهجرة، التي ستتكفل بتنظيمها "الشركة اليهودية". وكان هدفها تنظيم الأمور المالية وشراء الأراضي في "البلد الجديد"، من خلال بيع عقارات اليهود في الدول المضيفة وتحويلها إلى رؤوس أموال لشراء الأراضي، إضافة إلى تمويل المشاريع الكبرى، واستقطاب المستثمرين لبناء المستوطنات على النمط الحديث.
وفي ما يتعلق بالهجرة، شدد هرتزل على أن تكون جماعية، بحيث يجري نقل المهاجرين ضمن مجموعات مترابطة (عائلات، أصدقاء، سكان مدينة واحدة) لتسهيل اندماجهم. كما دعا إلى إرسال العمال والفلاحين أولاً لزراعة الأراضي وتهيئتها، ثم التجار والحرفيين لإحياء الاقتصاد، وأخيراً الكهنة لقيادة المجتمع أخلاقياً والحفاظ على الهوية الثقافية.
وأكد أيضاً ضرورة تأسيس منظمة يهودية تمثل الشعب اليهودي على المستوى العالمي، لتتولى التنسيق بين الدول المضيفة والمشروع الصهيوني، إضافة إلى أهمية وجود كفيل قوي يضمن حماية الدولة في بداياتها سياسياً وعسكرياً.
أما الاستيطان، فكان مقترحاً أن يبدأ في المناطق الزراعية والصحراوية، ثم التوسع نحو المدن. أما الملامح السياسية للدولة اليهودية، فتمثلت في دستور يضمن حقوق اليهود، وحكومة علمانية على النمط الأوروبي، وقوانين مدنية، وجيش منظم قوي. كما دعا هرتزل إلى عقد معاهدات مع الدول الأخرى، وتبادل الامتيازات الاقتصادية والسياسية، وتسليم المجرمين، لجعل الدولة اليهودية جزءاً من النظام العالمي.
والمتأمل في هذا الكتيب يلحظ بوضوح النية الاستعمارية لدى هرتزل، إذ تجاهل تماماً مسألة التعايش مع السكان الأصليين، وكأنه يتحدث عن أرض بلا شعب. كما أن هناك مفارقة واضحة في دعوته لدولة علمانية من جهة، ورفعه شعار "العودة إلى الأرض الموعودة" من جهة أخرى، وهو ما يكشف التناقض بين البعدين السياسي والديني في مشروعه.
وبعد وفاة هرتزل عام 1904، وبدعم من القوى الاستعمارية الكبرى كبريطانيا، التي منحت الحركة الصهيونية وعد بلفور عام 1917، دخلت رؤيته حيز التنفيذ. وتأسست "دولة إسرائيل" سنة 1948، بعد تطبيق العديد من المبادئ التي وردت في كتاب "الدولة اليهودية".
نتنياهو وإحياء الفكرة التوسعية:
أعاد التصريح الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فكرة "إسرائيل الكبرى" إلى الواجهة السياسية والدينية، إذ قال لقناة i24 الإسرائيلية:
"إنني في مهمة تاريخية وروحانية، ومرتبط عاطفياً برؤية إسرائيل الكبرى".
وهذا التصريح تطور لفكر هرتزل والحاخامات من بعده الذين يبررون التوسع الاستعماري بالرؤية الروحانية والدينية لليهود تجاه فلسطين، والسعي لترسيخ الهيمنة على أراضٍ عربية تحت غطاء الدين، ومزاعم تحقيق نبوءة "إسرائيل الكبرى"، بدعم أميركي غير مشروط، وانقسام عربي، وموجات تطبيع تسمح لهذه الهيمنة بالمضي قدماً من دون خشية من ردع حقيقي.
وتعتبر خطة نيون أحد الأمثلة على هذا المشروع الاستيطاني التوسعي حيث يقع نسف الدول العربية من الداخل من خلال زرع الفتن وإشعال الطائفة والحروب الأهلية وإبرام معاهدات تجعلها في حاجة دائمة إلى "إسرائيل".
وفي هذا السياق وفي ضوء ما يحدث اليوم يبدو جليًا أن احتلال غزة هو الهدف التالي للمشروع الصهيوني، ولن يكون بالتأكيد الهدف الأخير، وتصريحات نتنياهو تؤكد ذلك. بل وتؤكد أن حرب أكتوبر لم تكن دفاعاً عن النفس، بل كانت إشارة لبداية هذا المشروع الاستعماري، الذي حاولت المقاومة اجتثاثه قبل تحققه، لكنها دفعت ثمناً باهظاً ولا تزال تدفعه.
من نص مؤسس إلى سياسات يومية
عند قراءة كتاب "الدولة اليهودية" في ظل سياسات نتنياهو، نفهم أن المشروع الصهيوني منذ بدايته لم يكن مجرد محاولة لحل المسألة اليهودية أو حماية اليهود من الاضطهاد، بل كان مشروعاً استعمارياً توسعياً يتجاوز حدود فلسطين.
ولا يمكن اعتباره مشروعاً سياسياً بحتاً، فالبعد الديني التاريخي والوجودي حاضر بقوة في خطابات الساسة والحاخامات قبل حتى تأسيس "إسرائيل".
إن المشروع الذي خطه هرتزل قبل أكثر من 120 عاماً ودعمه ساسة اليمين المتطرف لا يزال حياً، يتكيف مع الظروف، ويحمله قادة مثل نتنياهو، لكن بأساليب القرن الحادي والعشرين. ويبقى السؤال المطروح:
هل نعيش اليوم الفصل الأخير من مشروع "إسرائيل الكبرى" بتوقيع نتنياهو؟ وهل الدول العربية على موعد مع احتلال مباشر مع عدوها التاريخي؟.