من قال إنّ العالم يُدار بـ «نظام قائم على القواعد»؟
بالنسبة للغرب، لا يهم إن كنت الثورة الإسلامية في إيران، أو مصر الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، أو كوبا الشيوعية، أو فنزويلا البوليفارية؛ المهم أنك خارج إطار الليبرالية، وهذا وحده يكفي لتُعتبر تهديدًا يجب تحييده.
-
قواعد لا تنطبق على الجميع (أرشيف).
في الخطاب الرسمي للغرب، تتكرّر منذ سنوات عبارة سحرية: «النظام القائم على القواعد» (Rule-Based Order). ترسم هذه العبارة صورةً لعالم منظم، محايد، ومتساوٍ للجميع. لكن يكفي أن نطرح سؤالًا بسيطًا: من كتب هذه «القواعد»؟ ومن يقرّر من انتهكها؟
الجواب واضح: القوى التي تستخدم هذا المصطلح أكثر من غيرها الولايات المتحدة وحلفاؤها هم المؤلفون والحكّام في الوقت نفسه. وهذه القواعد، على الرغم من مظهرها المحايد، تقوم على أيديولوجيا محددة.
يطالبنا الغرب نحن في الشرق الأوسط والجنوب العالمي بالابتعاد عن «الأيديولوجيا»، بحجة أنها خطيرة وتؤدي إلى التطرّف والحروب. لكن هذه القوى نفسها هي أكبر منفّذ للأيديولوجيا في العالم: من الأيديولوجيا الدينية للصهيونية التي تفترض حقًا حصريًا لليهود في حكم فلسطين، إلى الأيديولوجيا الليبرالية السياسية والاقتصادية التي تعتبر أي نظام فكري أو اقتصادي بديل غير شرعي.
قواعد لا تنطبق على الجميع
اليوم، نسمع في بيروت أصواتًا تدعو إلى نزع سلاح حزب الله. في بغداد، يتصاعد الضغط لـ «إصلاح» الحشد الشعبي. في غزة، يُطرح موضوع القضاء التام على حماس. وفي اليمن، تعرّض أنصار الله لسنوات من القصف والحصار السعودي.
في الظاهر، المسألة جيوسياسية: أمن «إسرائيل»، توازن القوى، والسيطرة على طرق الطاقة. لكن في العمق، الهدف هو إزالة أي قوة يمكن أن تقدّم بديلاً عن النظام الليبرالي الرأسمالي سواء جاء هذا البديل في شكل إسلام سياسي، أو قومية يسارية، أو حتى اشتراكية علمانية.
بالنسبة للغرب، لا يهم إن كنت الثورة الإسلامية في إيران، أو مصر الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، أو كوبا الشيوعية، أو فنزويلا البوليفارية؛ المهم أنك خارج إطار الليبرالية، وهذا وحده يكفي لتُعتبر تهديدًا يجب تحييده.
هذه ليست المرة الأولى التي يُعاد فيها تعريف «الحقوق العالمية» أو «القواعد الموحّدة» لخدمة أقلية قوية. الفيلسوف الليبرالي جون لوك كتب عن «حق الحياة، الحرية، والملكية»، لكن هذه الحقوق لم تكن تعني شيئًا لغير الإنكليز أو غير المسيحيين في إمبراطورية بريطانيا آنذاك. الاستعمار الكلاسيكي سار بالمنطق نفسه: القانون للمركز حرية، وللمستعمرة خضوع.
واليوم، المنطق ذاته مستمر: دعم كامل للأيديولوجيا الصهيونية «الإسرائيلية»، وفي الوقت نفسه تصنيف أي شكل من الإسلام السياسي أو الاشتراكية على أنه تهديد أمني. الأيديولوجيا إذا كانت منسجمة مع الغرب تُسمّى «هوية ثقافية»، وإذا كانت معارضة تُوصَف بأنها «تطرّف» و«مزعزعة للاستقرار»
لماذا هذا مشروع أيديولوجي وليس جيوسياسيًا فقط؟
لو كانت المسألة جيوسياسية فقط، لخفّ الضغط مع تغيّر الظروف أو تحقيق بعض المطالب. لكن التاريخ يروي العكس. بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، لم تغادر أمريكا بل عززت نفوذها. وبعد إسقاط القذافي في ليبيا، لم تأتِ ديمقراطية ولا أمان، بل حرب أهلية وفوضى.
هذا الإصرار على الضغط لا يفسَّر إلا بمنطق واحد: الهدف النهائي هو توحيد شكل العالم وفق أيديولوجيا مهيمنة، أيديولوجيا إمّا تستوعب الصوت المختلف أو تزيله. واليوم، يستخدم الغرب أدوات الدبلوماسية، والوعود الخادعة بالأمن والرفاه، أو حتى الحرب المباشرة، لمحاولة إزالة المقاومة.
حزب الله في لبنان: يُطرح نزع سلاحه تحت عنوان «تعزيز الدولة المركزية» و«حفظ الاستقرار»، لكن الواقع أن إزالة قدرته الدفاعية تعني جعل لبنان بلا حماية أمام أي عدوان «إسرائيلي» كما أثبتت تجربة 1982 و2006.
الحشد الشعبي في العراق: يُسوَّق الضغط لـ «إصلاحه» أو دمجه بالجيش على أنه «توحيد أمني»، لكن النتيجة العملية هي تقليص قدرة العراق على المقاومة في وجه الضغط الأمريكي و«الإسرائيلي».
حماس في غزة: يُقدَّم مشروع القضاء عليها كـ «إنهاء للإرهاب»، بينما حذفها من المعادلة، من دون معالجة جذور الاحتلال والحصار، يعني فرض الاستسلام الكامل.
أنصار الله في اليمن: سنوات الحرب والحصار بُرِّرت بـ «إعادة الحكومة الشرعية»، لكن الهدف الحقيقي كان إزالة قوة رفضت أن يتحوّل اليمن إلى قاعدة أمنية-عسكرية تابعة للرياض وواشنطن.
لماذا المقاومة ضرورة وجودية
جزء من النخب السياسية العربية يظن أن التخلّي عن المقاومة أو الانضمام إلى المعسكر الغربي سيجلب الأمن والرفاه. هذا الخطأ تكرّر في اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو، وكانت النتيجة تعميق التبعية وتقليص هامش القرار المستقل، لا تحقيق السلام أو التنمية.
بالنسبة للغرب، إمّا أن تنخرط في سلسلة القيمة الليبرالية الرأسمالية، أو تُصنَّف كعدو يجب عزله. هذا الاختيار لا يقوم على الأخلاق أو القواعد المحايدة، بل على المكاسب الأيديولوجية والاستراتيجية.
المقاومة ليست فقط سلاحًا وصواريخ، بل موقف فكري: حقنا في تعريف العالم من منظورنا، والدفاع عن هذا الحق في مواجهة فرض رواية أحادية. إذا فقدنا هذا الحق، سنفقد هويتنا واستقلالنا، حتى لو لم يُحتل ترابنا.
تجاهل هذا البُعد تبسيط مخل. حرب الجولان، حصار غزة، الضغط على اليمن أو العراق، كلها أجزاء من لوحة أكبر: إعادة هندسة فكرية وهوياتية للمنطقة لإزالة أي بديل.
عندما يتحدث الغرب عن «النظام القائم على القواعد»، فهو في الحقيقة يتحدث عن تثبيت أيديولوجيته أيديولوجيا دينية (في حالة الصهيونية) وعلمانية (في حالة الليبرالية السياسية والاقتصادية). ما يُقدَّم لنا كخطر الأيديولوجيا، هو بالنسبة له أداة شرعنة السلطة.
في هذه الظروف، المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد للحفاظ على حقنا في الاختيار ورسم مستقبلنا. من دونها، لن يكون للقواعد أو القوانين معنى لنا، بل ستبقى أوامر الأيديولوجيا المهيمنة هي الحاكمة.