سوريا من الجنوب إلى الشمال: غرباءٌ ودوائر نار
"تل أبيب" تعمل على خلق "بيئة أمنية" جديدة شبيهة بما كان قائمًا في جنوبي لبنان قبل أكثر من عقدين، وتريد أن تفرض واقعًا جديدًا يجد السكان أنفسهم فيه أمام السيطرة الإسرائيلية المطلقة.
-
تتوالد الأزمات بشكل يومي في سوريا.
تتوالد الأزمات بشكل يومي في هذه البلاد، وتضعف معها اطرادًا قدرة المواطن السوري على استيعاب كل ما يحدث له وحوله. فبعض تلك الأزمات والأخطار والمخاوف، لم يعهدها السوريّ أو يعتد عليها من قبل، وذلك على الرغم من تجربته المريرة مع الحرب التي استمرت لـ /14/ عامًا، والتي كانت مُتخمة بالأزمات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والمعيشية عمومًا.
ولعلّ المراقب لنقاشات وحوارات السوريين على أرض الواقع أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، سيدرك بسهولة مدى التخبّط والتشويش الذي يختبره الإنسان السوري المُنهَك، وكذلك مدى الانقسام الاجتماعي الحادّ حول معظم تلك القضايا المستجدة.
فمن ارتفاع أسعار الخبز السياحي لأكثر من ضعفين، إلى صدمة ارتفاع أسعار الكهرباء المنزلية والصناعية لأكثر من /70/ ضعفًا، وسط غلاء فاحش وحرمانٍ لعشرات الآلاف من العائلات من معاشات مُعيليها، التي انقطعت منذ سقوط النظام السابق في كانون الأول / ديسمبر من العام الفائت.
وصحيح أنّ الهمّ المعيشي يأتي على رأس كل الهموم، لكنّ المخاوف المنافِسة لا تنتهي على أي حال، ومنها المخاوف الأمنية التي تحرم الناس من مزاولة أعمالهم أو السعي لكسب أرزاقهم بشكل طبيعيّ.
وكذلك ملفّات السياسة التي تزداد تعقيدًا في عقل هذا المواطن يومًا بعد يوم، خصوصًا أنّ لا شيء واضحاً لديه حتى حول شكل خريطة بلاده المستقبلية ذاتها، وذلك في ظلّ تنافس "دول النفوذ" التي تتصارع على اقتسام الحصص السورية، وكلّ ما يخلّفه هذا الصراع من ضغوط هائلة على المجتمع الذي تحولت مكوّناته المختلفة إلى أدوات للاستخدام من قِبل تلك القوى الخارجية، وكذلك على السلطة القائمة التي تحاول تثبيت أركان حكمها، والتي ترى أنّ ذلك لا يمكن أن يحدث إلّا من خلال موازنة مصلحتها مع مصالح تلك القوى الفاعلة.
ولعلّ أزمة "كتيبة الغرباء" (المقاتلون الفرنسيون) التي حدثت الأسبوع الماضي، قد جاءت لتعطي مثالًا صارخًا عن المعضلة التي تختبرها هذه الجغرافيا وأهلها، سواء لجهة المقدمات أو النتائج المحتملة وما قد يحدث بينهما.
فالمقاتلون الأجانب (الذي يُعدّون بعشرات الآلاف) وعائلاتهم قد باتوا أمرًا واقعًا في قلب هذا المجتمع، ولديهم أنصار كثر يحملون لهم "جميلًا" باعتبار أنهم جاؤوا "لنصرتهم" وبالتالي فقد بات لهم "حقوق" في هذه الأرض بنظر هؤلاء. وهو أمر يخيف شرائح اجتماعية سورية أخرى، باتت تجد نفسها غريبة في بلادها وعلى أرضها.
لكنّ الأمر لا يتوقف هنا، فالدول التي ساعدت وسهّلت لهؤلاء القدوم إلى سوريا، باتت تريد الخلاص منهم بعد تحقيق الأهداف الأولى، لكي لا تتحول هذه البلاد إلى بؤرة مصدّرة للتطرف، وقد كان هذا الشرط على رأس المطالب التي وضعتْها تلك الدول (وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأميركية) في وجه السلطة الحالية في دمشق. وكانت فرنسا ذاتها من أكثر الدول التي ضغطت في هذا الملف مؤخّرًا، وقد ربطته بأي مساع أو جهود ستقوم بها بهدف رفع العقوبات الدولية عن سوريا، وعن السلطة الحالية وشخوصها.
لذلك، جاءت "أزمة كتيبة الغرباء" قبل موعد جلسة الأمن الأخيرة بأيام، والتي كانت مخصصة لموضوع رفع العقوبات وإزالة بعض الأسماء السورية من "لائحة الإرهاب" الدولية.
وصحيح أنّ السلطة وإعلامها قد عرضوا الأمر داخليًّا، باعتباره "حدثاً جنائياً" بحتاً، يتعلق بمسؤولية قائد المقاتلين الفرنسيين عمر الديابي (المعروف بـ "عمر أومبسن"، والذي يقيم مع /150/ مقاتلًا، بينهم /70/ من المواطنين الفرنسيين وآخرون من الناطقين بالفرنسية، في مخيم "فردان" قرب مدينة "حارم" في الريف الإدلبي) عن خطف فتاة من والدتها، لكن حقيقة الأمر تتجاوز أي حدث جنائي، لتصل حدّ "الاختبار" المباشر الأول للسلطة وقدرتها على التعاطي مع هذا الملف الشائك والخطير.
وقد جاءت النتائج الأولية لمصلحة المقاتلين في الحقيقة، إذ بادر هؤلاء إلى مواجهة القوى الأمنية والعسكرية التي حاصرت المخيم، وأوقعوا بينهم عددًا من الضحايا، واستولوا على عربات عسكرية بعد اتّهامهم السلطة بالانصياع لمطالب باريس.
والخطير هنا أيضًا، هو تداعي المقاتلين الأجانب من جنسيات أخرى (خصوصًا الأوزبك والشيشان) وإعلانهم الوقوف إلى جانب "إخوانهم"، معتبرين أن ما يحدث للفرنسيين الآن، سيحدث للجميع لاحقًا، إن لم يتعاضدوا ويواجهوا هذه الخطط المرسومة في الخارج برأيهم. ومعلومٌ أن الحدث انتهى مؤقّتًا "على الطريقة الشرعية"، حيث اجتمع عدد من قادة الفصائل والمجموعات الأجنبية والمحلية، مع مندوب لوزارة الدفاع، وتوصلّوا إلى اتّفاق يمنع تدحرج الحدث باتّجاه مواجهة عسكرية أكبر، لكنّ الحدث بحدّ ذاته، جاء مثالًا صغيرًا، لكنه بالغ الدلالة" لما قد يحدث لاحقًا في هذا الملف المرشّح للاشتعال في أي لحظة، الأمر الذي زاد من مخاوف السوريين وعزّز إحباطهم من أي استقرار أمني على المدى المنظور.
وعلى صعيد أشدّ خطورة أيضًا، تعمل "إسرائيل" ليل نهار على اقتناص ما يرى قادتها المتطرفون أنّه "فرصة تاريخية" لا تُعوّض على الجبهة السورية، إذ على الرغم من إبداء السلطة الحالية في سوريا، استعدادها الدائم للحوار والتوصل إلى تفاهمات واتفاقيات، وعلى الرغم من التصريحات الأميركية والأوروبية التي تؤكّد أن المباحثات في هذا الشأن قد بلغت مراحل متقدمة، وأن الطرفين على وشك التوقيع، يواصل "الجيش" الإسرائيلي توغلاته اليومية في الأراضي السورية من جهة الجنوب، وصولًا إلى مشارف العاصمة السورية دمشق. وقد بدأت تلك التحركات تأخذ أشكالًا جديدة وذات دلالات خطيرة وغير مسبوقة منذ توقيع اتفاقية "فصل القوات" في عام 1974، ليس على مستوى السيادة الجغرافية السورية وحسب، بل على المستوى الاجتماعي المتعلق بسكان الجنوب السوري، كما على المستويين البيئي والاقتصادي.
فهذا الأسبوع، أقدمت القوات الإسرائيلية على التوغل في العمق السوري في ريف محافظة القنيطرة، حيث اقتحمت قرية "الصمدانية الشرقية" وقرية "أوفانيا" ونفّذت عمليات مداهمة للمنازل واعتقال لبعض السكان، ثم أقامت حاجزًا عسكريًّا على "أوتوستراد السلام" على بُعد أقل من /40/ كيلومترًا من العاصمة دمشق.
اللافت في التحركات المتزايدة مؤخّرًا، أن قوات الاحتلال باتت تتقدّم بشكل أكبر باتّجاه ريف العاصمة دمشق، وصولًا إلى منطقة "قطَنا" التي تبعد أقل من 20 كيلومترًا عن العاصمة، وتتحرك بحرية تامة وتنصب الحواجز على الطرقات، وتقتحم القرى وتفتش البيوت وتمنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم، كما تقوم بعمليات تجريف وقطع للغابات في ريف القنيطرة خصوصًا، حيث أقدمت تلك القوات على قطع الأشجار المعمّرة في محمية "جباتا الخشب" ونقلتها إلى الداخل الإسرائيلي، وقامت بهدم بعض القرى القريبة من المحمية وتهجير سكانها الذين رفضوا التعاون وامتنعوا عن استلام أي مساعدات، في محاولة واضحة لإحداث تغيير ديمغرافي وبيئي في تلك المنطقة، ما يجعلها غير قابلة للسكن.
ولمثل هذه الأهداف أيضًا، قامت القوات الإسرائيلية بإغلاق مدخل مدينة القنيطرة بسواتر ترابية عالية وأقامت نقطة عسكرية ثابتة داخل المدينة، كما وضعت بوابة شبكية غرب قرية "رسم الرواضي" القريبة، يمكن من خلالها إغلاق المنطقة وفصل قرى ريف القرى الشمالي المحاذية لشريط فض الاشتباك، عن قرى الريف الأوسط، وتلك إجراءات تسهم في تقسيم المحافظة جغرافيًّا وتحويلها إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض، وتحويل آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والمراعي إلى مناطق عسكرية مغلقة ومحظورة، وهي خطوات تُضاف إلى ما أقدمت عليه تلك القوات عقب سقوط النظام السابق على طول شريط وقف إطلاق النار، وخصوصًا عند ما كان يُعرف بـ "خطّ برافو" و"خطّ ألفا"، حيث أقيمت قواعد عسكرية جديدة من الجانب السوري المحاذي لهما، ونُصبت بوابة صفراء كبيرة تُعلِن أن كل ما خلفها هو منطقة عسكرية محظورة يُمنع على أي سوري الاقتراب منها. وهناك بين جميع القرى، تتمركز أو تتنقّل دوريات الاحتلال التي تُفتّش المسافرين والمارة وتُدقّق في هوياتهم وتعتقل بعضهم بشكل يومي، الأمر الذي جعل حياة السكان هناك غاية في الصعوبة، ما قد يدفع الغالبية منهم إلى النزوح بالفعل.
ومن جهة مقابلة، تحاول تلك القوات التي يرافقها أمنيون إسرائيليون استمالة السكان في بعض القرى الأبعد عن الشريط، من خلال تقديم بعض المساعدات للأهالي الفقراء والمرضى، والهدايا للأطفال الصغار الذين تبث الدعاية العسكرية الإسرائيلية مقاطع مرئية لهم وهم يلعبون مع الجنود الإسرائيليين الذين يبدون "لطفاء" معهم.
والواضح هنا من خلال المعلومات التي ترد من الجنوب حول طريقة العمل الإسرائيلية الجديدة، أنّ "تل أبيب" تعمل على خلق "بيئة أمنية" جديدة شبيهة بما كان قائمًا في جنوبي لبنان قبل أكثر من عقدين، وتريد أن تفرض واقعًا جديدًا يجد السكان أنفسهم فيه أمام السيطرة الإسرائيلية المطلقة، ما قد يدفع بعضهم إلى التعامل مع هذا الواقع والانخراط فيه لتوفير سبل الحياة والمعيشة.
كما تريد من خلال ذلك البقاء على قيد الاستطلاع الدائم بواسطة دورياتها الدائمة بين القرى وفي داخلها، ومن خلال النقاط والقواعد التي تراقب كل شيء في المنطقة وصولًا إلى العمقين السوري واللبناني، كما من خلال بعض السكان المحليين الذين قد تتمكن أجهزتها من دفعهم للتعامل معها على هذا المستوى.
ووسط كل ما يحصل هناك، تقوم الدولة السورية بإصدار البيانات التي تشجب وتستنكر الاعتداءات الإسرائيلية والتوغلات المستمرة وإقامة القواعد والنقاط وتسيير الدوريات، وتطالب المجتمع الدولي بالتدخل والمساعدة لكبح جماح الإسرائيليين.
وفي هذا السياق، حثّ المندوب السوري الجديد لدى الأمم المتحدة، ابراهيم عُلبي، الأمم المتحدة ومجلس الأمن خلال جلسة الخميس الفائت، على "التحرك الحازم لوقف ممارسات إسرائيل في سوريا ووضع حدّ لاعتداءاتها"، وطلب عُلبي من المجموعة الدولية "إلزام السلطات الإسرائيلية سحب قواتها من الأراضي السورية، بما فيها الجولان المحتل والمناطق التي توغلت فيها مؤخّرًا" مؤكّدًا رفض سوريا "للذرائع التي يُسوّقها الاحتلال لتبرير جرائمه التي تهدف إلى تقويض الأمن والاستقرار في البلاد".