ماكرون.. الجواد الخاسر؟

ماكرون لم يكتفِ بتكييف لغته السياسية استجابة لضغوط اليمين المتطرّف، بل ذهب أبعد من ذلك عبر محاولة منافسته في ملعبه، مستثمراً في المزايدات القومية والشعبوية.

  • يعترف ماكرون ضمنياً بضعفه حتى وإن كانت نيّته استخدام خصمه كأداة سياسية بيده.
    يعترف ماكرون ضمنياً بضعفه حتى وإن كانت نيّته استخدام خصمه كأداة سياسية بيده.

تقبع العلاقات الجزائرية الفرنسية اليوم في مربّع جمود ثقيل يسير ببطء نحو شفير قطيعة معلَنة. وقد اختارت الجزائر، في خضمّ هذا الانسداد، أن تتعامل بخطاب واحد وسلوك ثابت لا يحيد عن قاعدة صلبة: المعاملة بالمثل، بحزم وصرامة لا تشوبها مواربة أو تردّد.

أمّا في الضفة الأخرى، فيبدو المشهد الفرنسي مشوّشاً متذبذباً؛ إذ يرى المراقب ارتباكاً واضحاً في المقاربة، تتنازعها مواقف الرئاسة ووزارة الخارجية من جهة، واندفاعات وزارة الداخلية من جهة أخرى. 

بيد أنّ هذا الصراع الخفيّ لم يطل كثيراً، إذ سرعان ما آل في النهاية إلى رجحان كفّة وزير الداخلية، الذي استطاع أن يفرض رؤيته على مؤسّسة الرئاسة والحكومة معاً، في لحظة كشفت حجم الارتباك الذي بات يعتري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ماكرون يغيّر نبرته.. نحو تقارب مع خطاب اليمين المتطرّف

فمن خطاب الاستعطاف المموَّه بعبارات الاحترام والثقة تجاه الرئيس الجزائري، انتقل ماكرون تدريجياً إلى مربّع خطاب يقترب من خطاب اليمين المتطرّف الفرنسي، وبعد أن حرص على تقديم نفسه كشريك موثوق للجزائر، ضنين بتجاوز الأزمات المتكرّرة معها، ها هو اليوم يتخلّى عن النبرة التصالحية منزلقاً إلى مقولات تضاهي أطروحات خصومه السياسيين في أقصى اليمين بل ولاجئاً إلى ترديد الأكاذيب نفسها التي تؤثّـث حملاتهم ضدّ الجزائر. 

أوّل ما يؤكّد هذا التحوّل دعوة ماكرون إلى ضرورة "فرض الاحترام" على الجزائر، وتوجيهه الحكومة للتحرّك بـ "مزيد من الحزم والتصميم" في التعامل معها في رسالة له إلى رئيس وزرائه، ثمّ إقراره لاحقاً تعليق اتفاقية "الإعفاء من التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية وجوازات السفر لمهمّة" الموقّعة بين الجزائر وفرنسا عام 2013 المنشورة في الجريدة الرسمية الفرنسية بتاريخ 19 آب/أغسطس 2025. 

لا يعدّ قرار ماكرون مجرّد إجراء قانوني محدود الأثر، بقدر ما هو إيذان بتحوّل في خطابه وسلوكه السياسي إزاء الجزائر، فقد جاء ليؤكّد انزياحه نحو جبهة الداعين إلى نهج "القبضة الحديدية" في إدارة العلاقات معها التي يتصدّرها وزير داخليته، برونو روتايو، المعروف بنزعة التشدّد في العلاقة مع الجزائر وقضايا المهاجرين الجزائريين.  

بهذا، يتّضح أنّ ماكرون لم يكتفِ فقط بتكييف لغته السياسية استجابة لضغوط اليمين المتطرّف، بل ذهب أبعد من ذلك عبر محاولة منافسته في ملعبه، مستثمراً في المزايدات القومية والشعبوية التي باتت تجد صدى متزايداً لدى الرأي العامّ الفرنسي. 

ممّا يعزّز هذا التوجّه أنّه، في رسالته الموجّهة إلى رئيس وزرائه والمنشورة في صحيفة لوفيغارو بتاريخ 06 آب/أغسطس، لم يتردّد في التطرّق إلى ملف ما يُسمّى "ديون المستشفيات" الفرنسية المستحقّة على الجزائر.

يجب التنويه في هذا السياق بأنّ أوّل من أثار قضية ما يسمّى بديون الجزائر تجاه المستشفيات الفرنسية في 05 شباط/فبراير 2025 كانت سارة كنافو، النائب الأوروبية عن حزب "الاستعادة" الفرنسي اليميني المتطرّف. غير أنّ كنافو تعمّدت التضليل حينها، مقدّمة رقماً مضخّماً زعمت فيه أنّ الجزائر مدينة لفرنسا بـ 100 مليون يورو. 

والحقيقة التي سرعان ما أعلنتها وزارة الصحّة الفرنسية نفسها مفنّدة كلام كنافو، هي أنّ إجمالي المتأخّرات المستحقّة والقابلة للتحصيل لا يتجاوز 2.85 مليون يورو، رقم مقارب لما نشرته وكالة الأنباء الجزائرية (2.537.194,23 يورو) مؤكّدة أنّ الجزائر هي من بادرت منذ البداية إلى المطالبة بعقد اجتماع للجنة مشتركة تـُعهد إليها تسوية ما تبقّى من متأخّرات. 

إنّ مجرّد إقحام هذا الموضوع في رسالة رئيس الجمهورية الفرنسية إلى وزيره الأول يشي برغبة في تضخيمه سياسياً وإعلامياً، وكأنّ الأمر يتعلّق بملفّات مالية كبرى أو مستحقّات بالمليارات، بينما الواقع مختلف تماماً.

ومثلما يعكس هذا الخطاب نزعة إلى تبسيط القضايا المعقّدة في العلاقات الجزائرية ــ الفرنسية لتقديمها في شكل عناوين مثيرة، فإنه يكشف أيضاً استشعار ماكرون لتراجع شعبيته وسعيه إلى انتزاع بعض من رصيد اليمين المتطرّف في استمالة الفئات الساخطة، عبر إبراز نفسه كمدافع عن "المصلحة الوطنية" في مواجهة الجزائر في ظلّ تراجع شديد في نسبة الرضى الشعبي عنه مقارنة بوزير داخليته الذي لا يتوانى عن الاستثمار في ملف الجزائر لتعزيز حظوظه الانتخابية. 

رئيس بلا أغلبية

هذا ما تشي به أرقام مؤشّر إيبسوس ــ بي في آي (Ipsos-BVA) الصادر في 12 تموز/يوليو 2025. فبينما لم يتجاوز ماكرون رقم 24% كنسبة رضى شعبي على سياساته، حصد وزير الداخلية برونو روتايو نسبة 36% من التأييد الشعبي متصدّراً قائمة الوزراء المفضّلين لدى الفرنسيين، في تقدّم لافت يضعه في مرتبة أعلى من رئيسه ويؤكّد أنه بات خياراً بديلاً يلامس تطلّعات فئة واسعة من الفرنسيين. 

من الواضح إذاً أنّ الفارق بين الرجلين لم يعد مجرّد تفصيل إحصائي اعتماداً على مؤشّر إيبسوس، بل تحوّل إلى إيذان بولادة توازنات سياسية جديدة تدفع روتايو إلى تأدية دور المنافس الداخلي غير المعلن لرئيس الجمهورية، وواحد من المرشّحين الأقوياء في سباق الرئاسيات المقبلة.

والحقيقة أنّ تراجع ماكرون هذا الذي استحال ضعفاً ليس إلا انعكاساً للانحدار السياسي الذي عانى منه منذ ما يربو عن ثلاث سنوات. فمنذ الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية في حزيران/يونيو 2022 تغيّرت موازين اللعبة السياسية الفرنسية بعد أن فقد الرئيس الغالبية المطلقة في الجمعية الوطنية واضطرّ مراراً إلى استخدام المادة 49.3 لتمرير القوانين، ووجد نفسه محاصراً بنسب شعبية لا تكفّ عن الهبوط، وبأرضية سياسية رخوة تتطلّب صفقاتٍ يوميّة مع خصومه، فكانت تلك اللحظة كاشفة لحدود قوّته، وتبدّى ضعفه لا أمام الشارع فحسب، بل في قلب بنية الدولة الفرنسية نفسها.

ثمّ جاءت مغامرته في تموز/يوليو 2024 بالدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة عقب هزيمة حزبه في البرلمان الأوروبي، لتزيد ضعفه حدّة. فقد أفرزت تلك الانتخابات برلماناً معطّلاً منقسماً بين الجبهة الشعبية الجديدة (NFP) في الصدارة، تليها كتلته، ثم الجبهة الوطنية (RN)، من دون أن يحقّق أيّ طرف الأغلبية المطلقة (289 مقعداً من أصل 577). 

عطّل هذا الانسداد الحسم التشريعي، أفرز حكومات قصيرة الأمد، وأخّر الإصلاحات والميزانيات، فكان سبباً آخر من أسباب ارتفاع معدلات الاقتراض وتراجع ثقة الأسواق في الاقتصاد الفرنسي الذي جسّده تخفيض وكالة S&P تصنيف فرنسا من AA إلى AA-، ثمّ التحذيرات من هشاشة الوضع المالي الفرنسي التي أطلقتها وكالة التصنيف الائتماني موديز (Moody’s). 

في غضون هذا، تجاوزت نفقات خدمة الدين العام في فرنسا 50 مليار يورو عام 2024 مع توقّع تضاعفها بحلول 2027، لتتحوّل إلى عبء يفوق في قيمته موازنة فرنسا الدفاعية ويخنق بشدّة فرص الاستثمار. ومع عجز في الميزانية مرشّح لتجاوز 6% من الناتج المحلي الخام، ارتفعت عوائد سندات الـخزينة الفرنسية واشتدّت ضغوط الأسواق، فيما حذّر البنك المركزي من أنّ أيّ تأخير في الإصلاح سيجعل الصدمات المقبلة أشدّ وقعاً على فرنسا. 

أمام كلّ هذه التعقيدات، اضطرّ ماكرون مجدّداً إلى استخدام المادة 49.3 لفرض قوانينه، ودفعته الأزمة إلى اقتراح خطط تقشّفية مثيرة للجدل تتضمّن إلغاء عطلات رسمية وتجميد إنفاقات اجتماعية زادت من مستويات غضب الشارع وكرّست صورته كرئيس محاصر بديون متفاقمة وشرعية متآكلة. 

حين يبتلع الوزير رئيسه

في هذه اللحظة من ضعف الرئيس، برز اسم برونو روتايو كصوتٍ يسعى إلى تقديم نفسه باعتباره الوزير الأكثر وضوحاً في التعبير عن فرنسا المُثقلة بهواجس الهوية، والخائفة من الهجرة، والمأسورة في سرديات ماضيها الاستعماري. وبدل التصدّي له، آثر ماكرون ترك مساحة لروتايو للضغط والتأثير، بل واستعان بخطابه كلـّما احتاج إلى غطاء داخلي أو ورقة تفاوض خارجية. 

وهذا ما يبدو واضحاً بقوّة في سياق العلاقة مع الجزائر على سبيل المثال، إذ يصبح روتايو بمثابة "السيف" الذي يشهره ماكرون قائلاً بلسان غير معلن: "ساعدوني على تهدئة هذا الرجل وتياره، حتى أتمكّن من حماية جسور الحوار بيننا".

هكذا، يعترف ماكرون ضمنياً بضعفه حتى وإن كانت نيّته استخدام خصمه كأداة سياسية بيده. فالرئيس الذي كان يفترض أن يقود، أصبح هو نفسه يُقاد؛ تارة بحسابات البرلمان، وتارة أخرى بضغط المزاج الشعبي الذي يمثّـله روتايو.

في النتيجة، يتضح أنّ انتقال ماكرون من خطاب التهدئة والتقارب إلى خطاب التصعيد والتشدّد مع الجزائر ليس مجرّد تغيّر تقتصر آثاره على العلاقة الثنائية بين البلدين بقدر ما هو انتقال يعبّر عن تحوّلات في البنية السياسية الفرنسية الداخلية، ومن دونها لا يمكن فهم كيف بات ماكرون الجواد الخاسر في المعادلة السياسية الفرنسية الراهنة التي يعتبر استثمار ملف العلاقات مع الجزائر فيها ورقة انتخابية تستخدم لشدّ عصب القاعدة الشعبية واسترضاء المزاج القوميّ المتشدّد.