هل بات محور المقاومة في مواجهة "تحدٍ وجودي"؟ وكيف سيردّ؟

في الفترة الأخيرة ظهرت نوايا محور الشرّ كما لم تظهر في أيّ مرحلة سابقة، وبات هذا المحور بقيادة أمّ الإرهاب والإجرام في العالم الولايات المتحدة الأميركية، وبرأس حربته الصهيونية.

  •  محور المقاومة في المنطقة يواجهه واحداً من أخطر التحدّيات في تاريخه.
    محور المقاومة في المنطقة يواجهه واحداً من أخطر التحدّيات في تاريخه.

الكثيرون ونحن منهم يرون أنّ محور المقاومة في المنطقة يواجه خلال المرحلة الحالية واحداً من أخطر التحدّيات في تاريخه، ربما تصل بحسب بعض المتابعين والمختصين إلى درجة التحدّي الوجودي، الذي يمكن أن تنتج عنه تداعيات شديدة الخطورة على كلّ أطراف هذا المحور في جبهاتهم كافة، بداية من قمّة الهرم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مروراً بجبهات اليمن والعراق ولبنان، وليس انتهاء بجبهة قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، والتي تدفع خلال الشهور الاثنين والعشرين الأخيرة ثمناً باهظاً نتيجة انخراطها في هذا المحور، ونتيجة خياراتها التي دشّنت من خلالها معركة "طوفان الأقصى" البطولية، والتي قلبت الأمور رأساً على عقب في كلّ المنطقة، ومن المرجّح أن تترك بصمات واضحة على مجمل جغرافيا الإقليم، وليس فقط على جبهات محور المقاومة.

في الفترة الأخيرة ظهرت بما لا يدع مجالاً للشكّ نوايا محور الشرّ كما لم تظهر في أيّ مرحلة سابقة، وبات هذا المحور بقيادة أمّ الإرهاب والإجرام في العالم الولايات المتحدة الأميركية، وبرأس حربته الصهيونية، وبدعم وتأييد من كثير من دول العالم والإقليم، يعلن من دون أيّ خجل أنه يسعى لفرض سيطرته على كلّ دول المنطقة، سواء بشكل مباشر من خلال التوسّع الإسرائيلي الذي أعلن عنه نتنياهو على رؤوس الأشهاد، أو عن طريق تغيير حكومات، وإسقاط قوى، وصناعة أحزاب وجماعات على الطريقة الأميركية والإسرائيلية.

فيما يخصّ الجمهورية الإيرانية، والتي تنظر إليها قوى الشرّ في العالم بأنها التحدّي الأساسي الذي يواجه مشروعها للهيمنة والاستعمار، تبدو النوايا الأميركية والصهيونية واضحة كالشمس في رابعة النهار، وقد عبّر عنها العدوان الصهيو-أميركي الذي شُنّ عليها في حزيران/يونيو الماضي، والذي شهد مشاركة أميركية مُعلنة بهذا الشكل السافر للمرة الأولى في تاريخ الصراع الأميركي-الإيراني.

بعد انتهاء العدوان العسكري الذي ردّت عليه إيران بشكل غير مسبوق، وكبّدت فيه "الدولة" العبرية خسائر فادحة، ما زال الجزء الأكبر منها محجوباً بقرار من الرقابة العسكرية في الكيان الصهيوني، أخذت الهجمة تأخذ أشكالاً متعدّدة، سواء من خلال فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية، والتي بدأت منذ انتصار الثورة الإسلامية قبل أكثر من أربعة عقود ونصف العقد، واستمرت فصولها حتى يومنا هذا، أو من خلال محاولات لا تنتهِ لضرب الاستقرار الداخلي للجمهورية الإيرانية، والتي يُعتبر السلم الأهلي فيها ركناً أساسياً من أركان قوة الدولة، ومن أهمّ عوامل صمودها وقدرتها على مواجهة التحدّيات والأزمات.

على المستوى السياسي أيضاً تواجه إيران تحديّات جمّة، وما زال التضييق عليها سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي مستمراً، وهناك محاولات حثيثة لتقليص دورها في الكثير من الساحات، ولا سيّما تلك التي تشكّل تهديداً للكيان الصهيوني، والتي كانت تنشط فيها إيران وما زالت رغم التحريض والتضييق.

في اليمن إحدى أهمّ جبهات المقاومة في الوقت الحالي الصورة لا تحتاج إلى كثير من التعليق، فالاستهداف العسكري والسياسي، إلى جانب الحصار الاقتصادي يبدو في أوضح أحواله، وهو يتمّ بتنسيق ومشاركة مباشرين من الكثير من الأطراف في المنطقة والعالم، يقف على رأسهم الكيان الصهيوني، والذي يهاجم بين الفينة والأخرى في قلب العاصمة اليمنية صنعاء كما جرى قبل أيام، مسنوداً بدعم عسكري واستخباري وإعلامي لا يتوقّف من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وغيرهما، إضافة إلى مشاركة ودعم لا ينضبان من دول عربية وإسلامية قريبة من جغرافيا اليمن العزيز.

الهجوم على اليمن لم يكن فقط نتاج مشاركته في إسناد غزة، والذي بات يشكّل ضغطاً هائلاً على العدو الصهيوني، وإنما نتيجة تحوّله إلى ساحة مهمة للغاية من ساحات محور المقاومة والممانعة في الإقليم، ونتيجة تموضعه الجغرافي الذي منحه فرصة التحكّم بواحد من أهمّ الممرات المائية في العالم، حيث استخدم هذه الميزة لفرض حصار مُطبق على السفن التجارية التي تتعاون مع "إسرائيل"، بل ومنحه أفضليّة مواجهة المدمّرات الأميركية التي كانت تهاجم أراضيه ومنشآته المدنية والاقتصادية، ما اضطرّ الأميركيّين بعد ما حصدوه من فشل في مواجهة البأس اليمني إلى استجداء وقف لإطلاق النار يجنّب سفنهم وبوارجهم حمم الصواريخ والمسيّرات والزوارق اليمنية.

لبنان بشقّه المقاوم والممانع هو الآخر يواجه هجمة مسعورة من أعداء الداخل والخارج، فبعد توقّف القتال على الجبهة الجنوبية قبل عدّة أشهر، والتي فشل فيها العدو الصهيوني رغم كلّ ما استخدمه فيها من إمكانيات، ورغم كلّ ما قُدّم له من دعم وإمداد عالمي وإقليمي، في تحقيق أيّ إنجاز يُذكر، بل أنّ كلّ أهدافه التي رفعها لهجومه الكبير على المقاومة وشعبها قد سقطت تحت أقدام المقاومين الأبطال في عديسة وبنت جبيل ومارون الراس وباقي قرى الجنوب، ما اضطرّه هو وحلفاؤه لتغيير استراتيجيته الهجومية من القتال في الميدان، إلى الضغط من الداخل، محاولاً استغلال العداء الشديد وغير المبرّر من قبل بعض الأحزاب اللبنانية لحزب الله وباقي قوى المقاومة في الدولة، ورغبة البعض من تلك القوى في تأدية أدوار أكبر من حجمها وتاريخها طمعاً في عطاء بعض السفارات العربية والأجنبية، والتي تؤدّي دوراً مكشوفاً في محاولة ضرب السلم الأهلي، وإسقاط ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، والتي نجح لبنان من خلالها في تجاوز الكثير من المراحل الخطرة التي مرّ بها خلال تاريخه الحديث خصوصاً بعد الاندحار الصهيوني في العام 2000.

على الجبهة العراقية وإن بدت الأمور أكثر هدوءاً من باقي الجبهات، إلّا أنّ هناك الكثير من النار تحت الرماد، وربما تشهد المرحلة المقبلة العديد من التطوّرات التي يمكن أن تصبّ في خانة استهداف قوى المقاومة العراقية، والتي أدّت هي الأخرى خلال العدوان على غزة دوراً مهماً في استهداف العمق الصهيوني، وفي تشتيت جهوده التي كان يحاول تركيز الجزء الأكبر منها لحسم حربه ضدّ غزة.

أخيراً وليس آخراً تأتي جبهة غزة، والتي يقترب العدوان الهمجي الذي يُشنّ عليها من دخول عامه الثالث، مع عدم ظهور مؤشرات حقيقية عن قرب انتهائه، أو حتى التوصّل إلى صفقة جزئية تمكّن الفلسطينيين في القطاع من التقاط أنفاسهم. 

في جبهة غزة تأخذ الحرب أشكالاً أكثر عدوانية، ينتج عنها المزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية غير المسبوقة، والتي تجاوزت حتى يومنا هذا السبعين ألف شهيد، ناهيك عن عشرات آلاف المفقودين والمصابين، إلى جانب دمار هائل في البنى التحتية على اختلاف أنواعها، والتي حوّلت القطاع الصغير والمُحاصر إلى منطقة غير صالحة للسكن، وهو ما يرفع من خطر نجاح مخطّطات العدو القديمة الجديدة الساعية إلى تهجير أهالي القطاع، أو الجزء الأكبر منهم، بما يمكّن في مرحلة لاحقة بحسب الرؤية الإسرائيلية من عودة المستوطنات إلى أراضي القطاع، ولا سيّما إلى المنطقة الشمالية منه.

في الأسابيع الأخيرة وبعد فشل ـــــ إفشال ـــــ الجهود الرامية لوقف إطلاق النار ارتفعت حدّة التهديدات الإسرائيلية، وتمّت المصادقة على عملية "عربات جدعون 2"، والتي تهدف بحسب الإعلان الإسرائيلي إلى السيطرة على كامل مدينة غزة، كبرى مدن القطاع، وأكثرها سكّاناً، بعد القيام بتهجير كلّ سكّانها قسراً كما حدث سابقاً في مدينة رفح وخان يونس، وفي جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا أيضاً.

في غزة تبدو الأمور مرشّحة لتصعيد كبير، على الرغم من كلّ ما يتمّ الحديث عنه من مفاوضات في دولة جديدة، تشير معظم التقارير إلى انخفاض إمكانية تحقيقها لاختراق حقيقي، بسبب الموقف الإسرائيلي المتعنّت، والذي رفض كلّ المبادرات حتى الآن، وبذل كلّ ما في وسعه لإفشالها بحسب ما تقرّ وتعترف الصحافة الإسرائيلية والأجنبية.

أمام هذا الواقع الذي يهدّد كلّ ساحات محور المقاومة، وأمام هذا الإصرار الواضح والمكشوف في فرض محور الشر لشروطه وأجنداته على كلّ مناوئيه، مستغلاً ما يعتقد أنها كبوة يمرّ بها المحور المقابل، تبدو خيارات محور المقاومة محدودة وصعبة، وهي لا تتجاوز من وجهة نظرنا ثلاثة خيارات ليس أكثر، جميعها محفوفة بمروحة واسعة من العقبات والمخاطر، ويمكن أن تهدّد بتعرّض ساحات وجماعات هذا المحور لخسائر إضافية يحاول تقليصها إلى حدّها الأدنى، وتخفيض تداعياتها إلى أقلّ درجاتها.

الخيار الأول هو تقديم محور المقاومة في أربع جبهات على الأقل لتنازلات واضحة وصريحة، وهذه الجبهات هي إيران ولبنان واليمن وغزة، تتمحور في الأساس حول الملف النووي الإيراني وبرنامج الصواريخ البالستية، إلى جانب القبول بنزع السلاح والاختفاء من المشهد السياسي والميداني في كلّ من لبنان وغزة واليمن.

هذا الخيار "الانتحاري" لا يبدو واقعياً من وجهة نظرنا ونظر الكثيرين، وهو سيكتب في حال حدوثه لا سمح الله نهاية فصل وبداية آخر، نهاية فصل من المقاومة والممانعة والنضال والكفاح، وسقوط لآخر جبهات المقاومة في الإقليم، وبداية فصل جديد من التبعيّة والاستسلام لقوى العدوان والاستعمار، ودخول كلّ المنطقة بأنظمتها وشعوبها في الزمن الإسرائيلي إمّا طوعاً أو قسراً.

الخيار الثاني هو استمرار حالة المراوغة ومحاولة تبريد الجبهات ونزع المبرّرات إلى أطول فترة ممكنة، بما يقلّل من فرص الاحتكاك العسكري والميداني، وبما يجنّب المنطقة مزيداً من التوتّر الذي قد يصل في بعض الفترات إلى مواجهة مباشرة يحاول معظم الأطراف ما عدا الأميركي والإسرائيلي تفاديها.

حتى وقتنا الحالي قد يبدو هذا الخيار واقعياً ولا سيما فيما يخصّ الجبهات الإيرانية واللبنانية واليمنية، إلّا أنّ هذا الحال لا ينطبق على قطاع غزة، والذي تملك "إسرائيل" معظم مفاتيحه بفعل تفوّقها العسكري والميداني، وبفعل الموقف العربي والدولي الهشّ وغير الفعّال.

 هذا الحال قد لا يدوم طويلاً في ظلّ رغبة أميركية وإسرائيلية في حسم كلّ الجبهات قريباً، وهو ما قد يجعل من فرضيّة اشتعال المواجهة الكبرى مسألة وقت ليس أكثر كما قال مستشار المرشد الإيراني عبد الرحيم صفوي.

ثالث الخيارات هو اتخاذ محور المقاومة قراراً بالمبادرة نحو مواجهة واسعة مع قوى الشرّ ولا سيّما في ساحات لبنان وإيران واليمن، وهو الأمر الذي سيترك آثاراً مباشرة على المواجهة في غزة، ويمكن أن ينسحب أيضاً على الساحة العراقية التي تشهد وجوداً أميركياً عسكرياً واستخبارياً وسياسياً واضحاً.

في حال ذهب محور المقاومة نحو هذا الخيار، خصوصاً في ظلّ عدم رغبته في تلقّي المزيد من الضربات المفاجئة كما حدث في عملية البيجر واغتيال قيادات حزب الله في لبنان، أو كما حدث في الهجوم الغادر على قادة أركان النظام وعلمائه النوويين في إيران، فإنّ المنطقة ستدخل في مرحلة جديدة كليّاً، يكون عنوانها المواجهة المباشرة على جغرافيا واسعة ومتعدّدة، وتُستخدم فيها كلّ الإمكانيات والمقدّرات ذات الوزن الثقيل، بما يمكن أن يُفرز واقعاً جديداً قد يؤدي إلى تغيّرات جيوسياسية فريدة من نوعها.

على كلّ حال قد يكون الخيار الأخير متطرّفاً وغير مُتوقّع، لما يُحيط به من مخاطر ومعوّقات، إلا أنه يبقى مطروحاً ومُتاحاً خصوصاً في حال امتلاك محور المقاومة معلومات استخبارية عن نيّة قوى العدوان فتح المزيد من الجبهات، واستهداف العديد من القوى والجماعات وحتى الدول والأنظمة.

الأيام والأسابيع المقبلة حُبلى بالكثير من التطوّرات، والتي يمكن أن تُغيّر من وجه المنطقة كما لم يحدث من قبل، مع بقاء احتمال تبريد الجبهات وارداً وإن بمقدار منخفض نسبياً، فنوايا قوى الشرّ واضحة وباتت مُعلنة، ولا يمكن أن تُخفيها بعض العبارات أو الضحكات التي نراها ونسمعها هنا أو هناك.