واشنطن و"الإخوان"...حين يكون ردّ الفعل أقبح من الفعل نفسه
المرسوم الرئاسي المصمم أساساً لتحصين "إسرائيل" وخدمة مصالحها وتعزيز أمنها، أُريد به أن يكون إنذاراً وتحذيراً لعدد آخر من الدول والجماعات، في الحلقات الأبعد من "الطوق".
-
أبعد من الدول الثلاث والجماعات الثلاث.
وجّه الرئيس الأميركي وزارتي الخارجية والخزانة، لدراسة إمكانية إدراج ثلاث جماعات تنتمي إلى "الإخوان المسلمين" في قوائمها الرسمية للفصائل والمنظمات والشخصيات الإرهابية، وخصّ بالذكر الجماعات في الأردن ومصر ولبنان، غافلاً، أو بالأحرى، متغافلاً، عن جماعات أخرى، لا تقل وزناً ولا أهمية، تنتمي إلى هذه الجماعة أو تتأثر بها، في عدد من الدول العربية والإسلامية، وفي أوساط جالياتها في بلدان المهجر والشتات.
القرار مؤلم لهذه الجماعات بلا شك، إذ يضعها، كوادر وموجودات وأنشطة، في دائرة الاستهداف المالي والملاحقة القانونية، في بلدانها (حين تكون غير محظورة – لبنان مثالاً)، بيد أنه لا يقدم ولا يؤخر في الدول التي حظرت الجماعة (الأردن)، أو صنفتها مبكراً، تنظيماً إرهابياً (مصر)...لا يجوز في حال الاستخفاف بهذا المنعطف في علاقة واشنطن بالجماعة/ات، كما لا يجوز "التطيّر" والمبالغة في تقدير حجم هذا الأثر.
النص في الأمر الرئاسي-التنفيذي على جماعات بعينها، يعكس تقديراً أميركياً بأن الجماعة ليست تنظيماً مركزياً عالمياً، بخلاف "البروباغندا" العربية، التي تصور "الإرشاد العالمي" بوصفه غرفة عمليات مشتركة وهيئة أركان، تتبع لها مختلف الجماعات (يقولون الفروع)، بعد مبايعة "افتراضية" على "السمع والطاعة"... منذ سنوات طوال، رفضنا هذه "البروباغندا"، ونظرنا إليها بوصفها جزءاً من حملة "شيطنة"، ركيزتها اتهام الجماعة بالخضوع لـ"أجندات خارجية".
ولدينا العشرات من الأمثلة والوقائع والمحطات، التي تؤكد فرضيتنا، بأن الجماعة لا تتحرك كتنظيم موحد بقيادة مركزية، إذ تعددت وتباينت مواقف الجماعات حيال أحداث كبرى، من نوع غزو الولايات المتحدة للعراق، حيث رأت فيه جماعات عدة، عدواناً يستدعي المقاومة، بالرغم من انخراط "الجماعة العراقية" في "هندسات ما بعد صدام حسين"، برعاية بول بريمير... وفي الوقت الذي كانت فيه وفود إخوانية تؤم دمشق، للتضامن مع شعبها وقيادتها زمن بشار الأسد، كانت الجماعة السورية، تنخرط في "كفاح مسلح" ضد النظام.... وفي الوقت الذي هتفت فيه جماهير الإخوان وقواعدهم في عواصم عدة، لأنصار الله الحوثيين، ظل التجمع اليمني للإصلاح على مواقفه العدائية ضدهم، وبقي منخرطاً تحت رايات التحالف السعودي-الإماراتي في قتالهم على الأرض...دع عنك الخلافات والانقسامات، وتعدد الفتاوى والاجتهادات حيال المشاركة في البرلمانات والحكومات والانتخابات، في عدد من الدول العربية، أو مقاطعتها.
يشي ذلك، من ضمن ما يشي، بحقيقة أن العلاقة بين الجماعات الإخوانية، التي تستند بالطبع، إلى مشتركات فكرية وعقائدية، إنما هي علاقة "تنسيق وتعاضد وتضامن متبادل"، أكثر من كونها "وشائج وروابط تنظيمية ومالية مركزية"، وهي بهذا المعنى، تشبه إطارات عابرة للحدود، انخرطت فيها أحزاب قومية (المؤتمر القومي العربي)، أو أحزاب شيوعية (مؤتمرات الأحزاب الشيوعية العربية المتعاقبة)، أو أحزاب ديمقراطية – اجتماعية تسعى في تطوير أطر إقليمية تنظم حركتها وتعاونها المشترك.
الفارق الجوهري بين روابط الإخوان العابرة للحدود الوطنية، وروابط الآخرين، تقع في مكان آخر، وأحسب أنها تتصل أولاً؛ بالفارق الجوهري بين حجم ونفوذ الجماعات الإخوانية من جهة وبقية الأطياف والتيارات الفكرية والسياسية العربية من جهة ثانية، وثانياً؛ في المقدرات المالية والاجتماعية والاقتصادية المؤسسية المتفاوتة كثيراً، التي يتوفر عليها الإخوان قياساً بالآخرين وثالثاً؛ في فقدان التيارات الأخرى لطليعة مقاتلة تنتمي إلى مدارسهم الفكرية والسياسية، كما هي حال الجماعات الإخوانية، التي ترى في حماس، طليعتها المقاتلة ضد الكيان الإسرائيلي، وتقوم بدورها أصالة عن نفسها ونيابة عنهم، إلا في حالات استثنائية، تؤكد هذه القاعدة ولا تنفيها، كما في تجربة قوات "فجر" التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان التي أرادت أن تشارك بقسطها من الدم في ساحة النصرة والإسناد.
صحيح أن جماعات إخوانية، انخرطت، وبعضها ما زال منخرطاً، في "كفاح مسلح" ضد خصوم الداخل في عدد من البلدان العربية، لكن حماس وحدها، هي من ينخرط في صراع، بل وتقود صراعاً ضد العدو القومي والديني للأمتين العربية والإسلامية (أقله من منظور الخطاب الإسلامي)، وتلكم ميزة لحماس، أكسبتها دوراً قيادياً – أيقونياً، لدى الجماعات، وجعلت من دعمها وإسنادها شرفاً يدّعيه بعض إخوتها من الجماعات الأخرى، فيما بعضها الآخر، يستنكف عن ادعائه.
المرسوم الرئاسي
وبالعودة إلى المرسوم التنفيذي الأميركي، قلنا إن نصّه على إخوان الأردن ومصر ولبنان، ينطلق من هذا الفهم لديناميات العلاقة بين أطراف الجماعة، ويستبطن نفياً لخطاب البروباغندا العربية، أما عند تعداده الأسباب الموجبة لهذا القرار، فيتعين أن نرى جملة منها، من بينها:
أولاً؛ أنه أورد في حيثياته قيام الجماعات الثلاث، التي ليس مصادفة أنها تنتمي إلى مجموعة "دول الطوق"، بتقديم دعم وإسناد، مادي ومعنوي، عسكري وسياسي، تعبوي وتحريضي، لصالح حركة حماس...الجماعة الإسلامية انخرطت في حرب الإسناد التي أطلقها وقادها حزب الله نصرة لغزة، وإخوان الأردن، قادوا تحركاَ شعبياً كثيفاً ومستمراً إسناداً لغزة، وجمعوا الأموال والتبرعات، فيما الجماعة الأم، في مصر، لم تقف ساكنة بدورها عن فعل المناصرة والإسناد والتعبئة والتحريض.
ثانياً؛ أن المرسوم، تجاهل أدواراً مماثلة، قامت بها جماعات إخوانية، أو "مُستلّة" من الإخوان، نصرة لغزة وحماس، لكن المرسوم تجاهلها لاعتبارات سياسية غير خافية على أحد، أهمها أن واشنطن لا تريد أن تطلق النار على قدميها، فتصاب دبلوماسيتها بـ"الكساح"، وثمة حسابات ومصالح أميركية، مع هذه الجماعات، وأحياناً الحكومات المتعاطفة معها، أو القريبة منها، لا تريد إدارة ترامب أن تخسرها أو أن تقامر بها، وإلا لكانت فرضت عقوبات على حواضن الجماعات الإخوانية العربية والإقليمية المعروفة.
ثالثاً؛ أن واشنطن، وهي تخرج مرسومها الرئاسي إلى العلن، كانت تدرك أن الجماعة الأردنية، محظورة في الأردن، وقد جرت أوسع عمليات مصادرة لمؤسساتها وبنيتها التعليمية وأذرعها المالية والاجتماعية والتربوية والخدمية، والمسألة لم تبدأ بالقرار القضائي بحلها، والقرار الإجرائي بترجمته، بل سبقت ذلك، منذ أن بسطت الحكومة سيطرتها على جمعية المركز الإسلامي...والجماعة المصرية، محظورة منذ "ثورة يونيو 2013"، ومصنفة "إرهابية"، وقادتها في المنافي والسجون، وأول رئيس مصري مدني منتخب من بين صفوفها، مات في محبسه، فما الذي سيضيفه المرسوم الرئاسي، سوى ملاحقة بين مؤسسات وشخصيات الجماعتين في الخارج، والأهم، إن إدراج الجماعتين الأردنية والمصرية، في قوائم الإرهاب، لن يستحدث أي مشكلة من أي نوع، مع حكومتي البلدين.
رابعاً؛ أن إدراج الجماعة الإسلامية (لبنان) في المرسوم، برغم أنها تاريخياً ليست فاعلاً مؤثراً ونافذاً في المشهد اللبناني، إنما هو "عقاب بأثر رجعي" للجماعة التي تجرأت على الانخراط في الحرب مع "إسرائيل"، ودفعت في سياق "الإسناد" و"أولي البأس"، أثماناً فادحة من قادتها ومؤسساتها وكوادرها... هنا يبرز العامل الإسرائيلي في أوقح وجه، وهنا يندرج الهجوم على الجماعة بالهجوم على حزب الله وسلاحه، وهنا رسالة ضغط إضافية على الرئاسات اللبنانية لـ"إسرائيل" في ترجمة قرار"حصرية السلاح" و"تأميم قرار الحرب والسلم".
أبعد من الدول الثلاث والجماعات الثلاث
المرسوم الرئاسي المصمم أساساً لتحصين "إسرائيل" وخدمة مصالحها وتعزيز أمنها، أُريد به أن يكون إنذاراً وتحذيراً لعدد آخر من الدول والجماعات، في الحلقات الأبعد من "الطوق"، سيما تلك التي انتهجت طريقاً احتوائياً للجماعات الإسلامية، كما استبطن العديد من "جوائز الترضية"، لحكومات وأنظمة لطالما ناصبت الإسلاميين، أشد العداء، وتكشفت عن استعدادات مذهلة للمقامرة بمصائر دول وأوطان وشعوب ومجتمعات، على مذبح هذا العداء كما في التجربة السودانية الراهنة، وأحياناً للتعاون مع الكيان الإسرائيلي، وميليشيات عميلة تابعة له، من أجل الخلاص من حماس والمقاومة، كما في التجربة الفلسطينية الراهنة.
وإذا كانت مشاعر الحفاوة والاحتفاء بالمرسوم الأميركي، قد فاضت على شاشات فضائيات عربية، "هللت وكبرت" للقرار الأميركي، وذهبت بعيداً في شرح مراميه وتداعياته، إلا أن الدول المستهدفة برسائل التهديد والوعيد تجهد في "إنكار" أنها المعنية بهذه الرسائل، مع أنها من دون ريب، تجهد أيضاً في الاحتفاظ بمسافة تفصلها عن الإخوان والإسلام السياسي عموماً.
على أن ردة الفعل الأغرب (الأوقح) إنما صدرت عن أوساط فلسطينية، مقربة من السلطة، احتفت بالقرار، رهاناً منها، أنه يصب القمح في غير طاحونة حماس، وأنه جاء مصداقاً لمواقفهم المعادية من المقاومة وداعميها، من قوى شعبية، وحكومات على قلة عددها.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن ثمة نصف دزينة على الأقل، من الفصائل الفلسطينية، ما زالت مدرجة على اللائحة ذاتها، التي يراد لها أن تستضيف ثلاث جماعات إخوانية، من بينها فصائل مؤسسة في منظمة التحرير الفلسطينية، كالجبهتين الشعبين والديمقراطية، وجبهة التحرير الفلسطينية، والقيادة العامة، وكتائب شهداء الأقصى التي انبثقت عن حركة فتح، ولطالما عُدّت ذراعاً عسكرية لها.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن فتح ومنظمة التحرير، وإن كانتا غير مدرجتين على قوائم الإرهاب، إلا أنهما سبق أن كانتا هدفاً لقوانين مكافحة الإرهاب طيلة سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته، وأنهما إلى جانب السلطة، ما زالتا مستهدفتين بقانون تايلور فورس (2018) الذي يفرض قيوداً مشددة في قضايا التمويل والدعم المالي المباشر، فلماذا الحفاوة فيما هذه الأطراف، شربت وما تزال تشرب، بهذا القدر أو ذاك، من الكأس نفسه؟
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن اللائحة الأميركية للإرهاب، ومنذ أن جرى تصنيفها واعتمادها من الخارجية في عام 1997، تحولت مع مرور الزمن، إلى "محطة ترانزيت"، تدخلها قوى وفصائل وتخرج منها، وفقاً لتقلبات السياسة الأميركية واحتياجاتها، وأنها لم تمنع واشنطن، ولا البيت الأبيض زمن بايدن، من تسليم أفغانستان لطالبان على طبق من فضة، وأنها في عهد دونالد ترامب، لم تمانع في تسليم سوريا إلى "هيئة تحرير الشام"، وأن تفتح أبواب المكتب البيضاوي أمام أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، وحتى قبل إزالة المنشور الذي يرصد عشرة ملايين دولار ثمناً لرأسه.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن أنصار الله الحوثيين، سجلوا "سابقة" من حيث دخول اللائحة والخروج منها والعودة إليها، وأن ذلك لم يمنع إدارة ترامب، التي أعادت تسميتهم منظمة إرهابية، من إبرام اتفاق معها، لتحييد السفن الأميركية العابرة لباب المندب والبحر الأحمر، حتى مع بقاء السفن الإسرائيلية وتلك المتجهة إلى "إيلات"، عرضة للاستهداف، ما حدا بإسرائيليين للقول، إن واشنطن باعتهم للحوثي عند بروز إرهاصات أول صفقة من نوعها.
أحد المتذاكين، من معسكر الشامتين بالإخوان، واستتباعاً حماس، من المحسوبين على رام الله، كتب مطولة يشرح فيها مغزى إدراج الجماعات الثلاث على لوائح الإرهاب (قبل إدراجهم بالطبع)، والامتناع عن إدراج حماس على اللائحة ذاته، نسي هذا المتذاكي، أن حماس مدرجة منذ عام 1997 على لوائح الإرهاب الأميركية، وذهب بالتحليل إلى حد القول، إن استثناء حماس، إنما يستهدف إدامة الانقسام، وتعريض السلطة الوطنية للتهميش.
نسي هؤلاء أو تناسوا أن استقرار حماس في قائمة الإرهاب الأميركية، لما يقرب من ثلاثة عقود، وقبلها استهدافها بقوانين مكافحة الإرهاب الأميركية أيضاً، لم يمنع واشنطن من التواصل مع الحركة، وإجراء المحادثات رفيقة المستوى بين إدارة ترامب وقيادة حماس، وأن "مسار الدوحة" الذي أنجز اتفاقاً بين طالبان وواشنطن، ومسار إسطنبول الذي أنجز اتفاقاً بين الشرع وواشنطن، قد يفضيان، إلى شق مسار ثالث، تسير عليه حماس هذه المرة، لتلاقي واشنطن في نقطة ما على الطريق.
والخلاصة، أننا قد نمضي قدر ما نريد في هجاء الفعل الأميركي القبيح، لكن ردود أفعال البعض الاحتفالية، وأحياناً الغبية، على القرار، جاءت أقبح منه بكثير، فالمرسوم وإن كان يثير بعض المتاعب للجماعة والجماعات المستهدفة، بيد أنه هيهات أن ينجح في استئصال شأفة هذه الحركات والجماعات، إن لم نقل، بأن تأثيرات عكسية للمرسوم، قد تصب القمح صافياً في طاحونتها.