"معاداة السامية" وصناعة الأسطورة
اللغة والثقافة عاملان مهمان في أيّ معركة، وتكتسبان في معركتنا مع المشروع الاستعماري أهمية زائدة، لأنّ هذا المشروع يقوم على صناعة أسطورة جديدة، بلغة جديدة ويحاول فرضها على ثقافة المنطقة.
-
تطابقت أحلام الحركة الصهيونية مع أطماع القوى الاستعمارية.
في خبر لقي بعض الاهتمام الإعلامي استدعت الخارجية الفرنسية السفير الأميركي في باريس لتوبيخه على تصريحات أدلى بها، تتهم الرئيس الفرنسي ماكرون بعدم اتخاذ إجراءات كافية لمكافحة "معاداة السامية" في بلاده. فرنسا مثل معظم الدول الأوروبية، لديها حزمة من القوانين التي تجرّم معاداة السامية وإنكار "الهولوكوست" منذ عام 1990 من خلال قانون جيسو، وكذلك تعتبر الدوافع المعادية للسامية ظرفاً مشدّداً في جرائم الكراهية من خلال قانون لوبير (2003)، كما تجرّم إنكار حقّ "دولة إسرائيل" بالوجود، وكذلك تشبيه السياسات الإسرائيلية الحالية بالسياسات النازية.
المطلوب أميركياً إذاً ليس إطاراً قانونياً فرنسياً، ولكن الضغط على السياسة الفرنسية الحالية والتي أعلنت توجّهها للاعتراف بدولة فلسطين في أيلول/سبتمبر المقبل. وتأتي تصريحات السفير الأميركي متناغمة مع ما أدلى به أكثر من مسؤول ومستوى سياسي في الكيان الصهيوني حول اعتبار قرار فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية الاعتراف بدولة فلسطين خطوة تعبّر عن سياسة "معادية للسامية".
هل مدى 22 شهراً من المجزرة الصهيونية خسر الكثير من الناس وظائفهم، وطُردوا وشوّهت صورهم أمام الجمهور، وتعرّض العديد منهم للمطاردة والاعتقال، من بينهم رياضيون وشعراء وفنانون وسياسيون. كلّ هذا التاريخ من التشدّد بشأن هذا المصطلح، يدفع للبحث الجدّي عن مصدره، وأسباب ووسائل توظيفه وهل كان تعبيراً عن قضية حقيقية أم أنه جزء من المشروع الاستعماري الذي أعدّته القوى الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر.
تاريخياً ظهر مصطلح السامية للمرة الأولى عام 1781 على يد المستشرق الألماني لودفيغ شولستر في سياق تصنيفه للغات في الشرق، إذ اعتبر اللغات العربية، والآرامية، والعبرية لغات سامية نسبة إلى عرق ينحدر من سام ابن النبي نوح. لكنّ استعمال هذا المصطلح للتعبير عن معاداة السامية تأخّر لأكثر من مئة عام عندما استعمله العالم النمساوي اليهودي موريس شتاين شنايدر في ردّه على أفكار الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان حول كون الأعراق السامية أدنى مرتبة من الأعراق الآرية، واستعمل مصطلح "التحامل المعادي للسامية". وكان الصحافي الألماني فيلهلم مار أول من استعمل مصطلح السامية مرادفاً لليهودية وذلك في كتابه "انتصار الروح اليهودية على الروح الجرمانية" الذي نشر عام 1879، وعاد مار في سنة 1880 ليؤسّس "رابطة معاداة السامية".
تفيد هذه العجالة التاريخية أنّ "معاداة السامية" مصطلح حديث نسبياً، وقد استعمل سياسياً من قبل النظام الرأسمالي بصفته تعبيراً عن أفكار مناهضة للتحرّر والليبرالية. جاء المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 ليشهد بداية وجود تنظيم يهودي اسمه الحركة الصهيونية، يسعى لإقامة دولة لليهود. واجهت هذه الفكرة عائقاً مهماً تمثّل في تحويل الديانة اليهودية إلى قومية لتكون أساساً للدولة المنشودة. برزت هنا أهمية "معاداة السامية" كإطار يجمع اليهود، فيسمح بتوحيد اليهود الأتراك من شعب الخزر مع اليهود الأوروبيين، واليهود الشرقيين على أنهم يجتمعون في عرق تاريخي هو العرق السامي، ويوحّدهم تاريخ مشترك (مصطنع) من المعاناة.
تطابقت أحلام الحركة الصهيونية مع أطماع القوى الاستعمارية بتركة الدولة العثمانية، والحريصة على عدم استبدال الإمبراطورية المتهالكة بدولة عربية كبرى ذات سطوة إقليمية تقف في وجه المشروع الاستعماري الطامح للسيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها. في هذا السياق جاء وعد بلفور ليشكّل اللبنة الأولى في المشروع الاستعماري، لتتبعه اتفاقية سايكس ـــــ بيكو لتظهر تفاصيل هذا المشروع، ويأتي مؤتمر سان ريمو ليضع المشروع قيد التنفيذ.
أدّت مقاومة أهل البلاد للمشروع الاستعماري وقيام الثورات في سوريا والعراق وفلسطين إلى تأخير تنفيذ الالتزام البريطاني في مؤتمر سان ريمو بإقامة وطن قومي لليهود بحسب وعد بلفور. لكنّ وصول النازيين إلى الحكم والإعلان الرسمي من وزير الدعاية النازي غوبلز عام 1938 بأنّ "الشعب الألماني معادٍ للسامية" وما رافقه من مذابح بحقّ اليهود سرّع من وتيرة الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين بدعم من الدول الأوروبية وبشكل خاص بريطانيا. وأصبحت "معاداة السامية" مادة للدعاية السياسية الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وتحوّل الالتزام بإقامة دولة لليهود من التزام سياسي إلى التزام أخلاقي ضمن المعايير الليبرالية الأوروبية.
نجح الجزء الأول من المخطط بإقامة "إسرائيل" عام 1948، وتوسيعها عام 1967، وأصبح الاهتمام منصبّاً على دعم فرص هذه "الدولة" بالبقاء وسط محيط عربي رافض لوجودها. استدعي التاريخ مرة أخرى وأصبح التركيز منصبّاً على مفاهيم مثل الكراهية والتحريض في مواجهة كلّ المشكّكين بحقّ هذه "الدولة" في الوجود، وصدرت قوانين في معظم الدول الغربية تعتبر هذا التشكيك شكلاً من أشكال "معاداة السامية" تعاقب عليه بالحبس والغرامة، وتمّ تجنيد قطاع واسع من المثقّفين والفنّانين والسياسيين لمواجهة هذه العداء المفترض داخل المجتمعات الغربية وخارجها.
تتصاعد الحملات على الجهات المتهمة بالعداء للسامية مع تصاعد السياسات العدوانية الصهيونية تجاه شعوب منطقتناـ وأصبحت هذه الصفة ملتصقة بحركات المقاومة العربية، وجميع الحركات المؤيّدة لفلسطين في أوروبا وأميركا الشمالية، وتقرن هذه التهمة بمناصرة الإرهاب ليصبح جميع المنتمين إلى هذه الحركات مهدّدين بالاعتقال والطرد وفقدان الوظائف.
جاءت المجزرة الصهيونية في غزة لتشهد واحدة من أقسى الحملات على المنظّمات المؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطيني، يحتاج حصر حالات مطاردة المعترضين والمستنكرين للجرائم الصهيونية إلى كتاب ضخم، من منع الدكتور غسان أبو ستة من دخول ألمانيا، ومحاكمة مغني فرقة "نيكاب" الأيرلندية بتهمة رفع علم حزب الله، وكذلك حظر منظّمة "فلسطين أكشن" في بريطانيا، واعتقال 523 من مؤيّديها في أكبر عملية اعتقال جماعي في تاريخ العاصمة البريطانية، وإعلان أنّ 60 شخصاً منهم سيواجهون المحاكمة بتهمة دعم الإرهاب، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى السجن 14 عاماً.
اللغة والثقافة عاملان مهمان في أيّ معركة، وتكتسبان في معركتنا مع المشروع الاستعماري ممثّلاً بالكيان الصهيوني أهمية زائدة، لأنّ هذا المشروع يقوم على صناعة أسطورة جديدة، بلغة جديدة ويحاول فرضها على ثقافة المنطقة، وقد نجح في ذلك جزئياً بتسليم معظم النظام السياسي العربي (سلطة ومعارضين) بفكرة "حقّ إسرائيل في الوجود" ولولا بروز ظاهرة المقاومة لأصبحت هذه الفكرة جزءاً من الثقافة الشعبية السائدة.
لقد أدّت المقاومة دورها في الميدان، والكرة اليوم في ملعب المثقّفين والإعلاميين لتعميم خطاب المقاومة، ونشره على أوسع نطاق لسدّ الثغرة التي فتحها مثقّفو الليبرالية في جدار ثقافتنا الوطنية.