الرابحون والخاسرون من لقاء بوتين وترامب

الحديث عن سوريا الواحدة الموحدة أمر ليس باليسير تحقيقه، فالحفاظ على وحدة الدولة لن يكون من دون التفريط بشيء من السلطة، والسماح بالمزيد من المشاركة السياسية لجميع مكوّنات الشعب.

  • الرابحون والخاسرون مما يحدث في أوكرانيا.
    الرابحون والخاسرون مما يحدث في أوكرانيا.

لم يكن اللقاء بين الزعيمين الروسي والأميركي لقاء عادياً، فقد أسس لمرحلة قادمة ستكون لها انعكاسات كبيرة على الساحة الدولية كلها.

رغبة ترامب في وضع نهاية للحرب في أوكرانيا تلاقت مع رغبة بوتين من حيث المبدأ، لكنها اصطدمت بمساعي الأخير لرسم تلك النهاية وفقاً لتصوراته وأهوائه، وضمان تكريس انتصاره على الأرض.

الوضع على الأرض يعكس تقدّماً وتفوّقاً روسيَّيْن، وبالتالي فإن التفوّق في التفاوض سيكون أيضاً من نصيب بوتين الذي يدرك هذه الحقيقة، ويسعى لاستثمارها إلى أقصى الحدود.

لقد نجحت روسيا في إدارة تلك الحرب بصبر استراتيجي لدرجة أنها لم تعلن التعبئة العامة إلا بنسبة لا تتجاوز 1%، كما استطاعت مواجهة أكبر عقوبات اقتصادية تعرضت لها دولة في التاريخ، ونجحت في الحد من آثارها وبشكل كبير.

هذا الأمر قد لا يغضب ترامب الذي يميل إلى الإعجاب بـ "القادة ذوي النزعات الاستبدادية" (وفقاً للمعايير الأميركية)، وهو ما زاد من إعجابه بالرئيس بوتين منذ أكثر من 20 عاماً، وازدادت احتمالية توسع الصداقة بينهما منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية في عام 2016.

الوعي والمعرفة بالتاريخ والاستراتيجية تميل لصالح بوتين الذي يتفوّق فيهما كثيراً على ترامب، فبوتين شخصية استثنائية في التاريخ السياسي الحديث، إذ استطاع توحيد روسيا واستعادة هيبتها على الساحة الدولية.

كان بوتين داعماً لترامب في تلك الانتخابات، إذ يعدّه شخصية بارعة ويمتلك الكثير من المواهب، لذا فقد أثيرت حينها العديد من الشكوك حول تورط روسيا في التلاعب في الانتخابات الأميركية دعماً لترامب.

رداً على ذلك، وخشية أن يتمكّن بوتين من الاستفراد بترامب وإقناعه بوجهة نظره، مُنعت الاجتماعات الثنائية بناءً على رغبة البيت الأبيض، وهو ما يشير إلى مناعة المؤسسات وقوة الدولة العميقة في الولايات المتحدة في وضع حدّ لسلوكيات الرئيس عند الضرورة.

بوتين استطاع نقل النقاش من التطلع إلى وقف إطلاق النار ومن ثم التفاوض، إلى التفاوض أولاً حول اتفاق سلام شامل ومن ثم الحديث عن وقف للحرب يأتي نتيجة لذلك.

وكان ترامب قد وعد الناخب الأميركي بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وبالتالي فإن ذلك سيؤثر في شعبيته وهو الطامح إلى الفوز بولاية ثانية بكل تأكيد.

رد فعل أوكرانيا والدول الأوروبية..

سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وسبعة من القادة الأوربيين إلى الاجتماع بالرئيس ترامب للاستماع إلى وجهة نظره والانطباعات التي شكلها بعد اجتماعه بالرئيس بوتين. 

هذه القمة اختلفت كثيراً عن قمة شباط/فبراير من هذا العام، والتي شهدت إهانة تعرض لها زيلينسكي شارك فيها ترامب ونائبه جاي دي فانس.

القمة كانت بمنزلة "قمة المهزومين" في حرب مستمرة منذ أربع سنوات، لم تكن في الحقيقة حرباً روسية -أوكرانية كما يراد تصويرها، بل كانت حرباً ذات طابع عالمي دارت على الأراضي الأوكرانية شاركت فيها 54 دولة ضد روسيا فيما عرف بتحالف رامشتاين (نسبة إلى القاعدة العسكرية الأميركية الكبرى الموجودة في ألمانيا، حيث كانت تعقد غالبية اجتماعات المجموعة المعنية بتقديم الدعم لأوكرانيا في هذه الحرب). 

وقد أنفقت الدول الغربية على هذه الحرب قرابة تريليون دولار، وكان الهدف المعلن هو إنهاك روسيا واستنزافها سعياً إلى تقسيمها.

"لن تصل على طاولة التفاوض إلى أبعد مما وصلت إليه مدافعك"، هذه "الحقيقة المرة" التي أراد ترامب إيصالها إلى زيلينسكي، الذي يعيش حالة من النكران لواقعه الصعب.

جرت قمة بين ترامب وزيلينسكي، ثم انضم إليها سبعة من القادة الأوروبيين، حيث ركزت القمة على فكرة الضمانات الأمنية التي يفترض أن تعطيها أوروبا وأميركا لأوكرانيا مقابل توقيعها اتفاقية سلام تنزع بموجبها مناطق واسعة من شرق أوكرانيا، لا سيما في إقليم الدونباس.

الحديث عن "أوكرانيا الجديدة" يبدو الأقرب إلى الواقع، فلا مجال لعودة أوكرانيا إلى كامل حدودها التي كانت عليها قبل الحرب.

اتصال ترامب ببوتين والذي استغرق 40 دقيقة خلال القمة التي غادرها للتحدث إلى الرئيس الروسي ومن ثم العودة إلى المجتمعين، كشف عن الفكرة العامة التي ناقشتها القمة، التي استمرت أربع ساعات.

الحديث عن الحياد المستقبلي لأوكرانيا يعني أن لا تنضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ولا إلى أي تحالف آخر، من شأنه أن يشكل تهديداً لروسيا.

أميركا والأوروبيون طالبوا بوتين بمنح ما تبقى من أوكرانيا بعض الضمانات، بمعنى أن يصبح شرق أوكرانيا روسياً، فيما يشكل غرب أوكرانيا "أوكرانيا الجديدة".

وفي الحديث عن ضمانات القادة الأوروبيين، فقد وعدوا بإرسال قوات إلى أوكرانيا الجديدة (غرب أوكرانيا)، وهو مجرد وعد شفهي يعطى لأوكرانيا الآن، ولا ضمانات حقيقية للاستمرار في تنفيذه.

عندما انفصلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي طلب منها ضرورة التخلي عن ترسانتها النووية السوفياتية، مقابل ضمانات وتعهدات أمنية أعطيت لها، قدمتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وروسيا، بموجب مذكرة بودابست عام 1992، لكن روسيا سيطرت على شبه جزيرة القرم عام 2014، وفي الحرب الحالية احتلت روسيا ما يعادل 20% من مساحة أوكرانيا ما يعني أن فكرة الضمانات الأمنية التي أعطيت لأوكرانيا لم تنفعها في شيء. 

لقد استنزفت الدول الغربية التي أرادت أن تجعل من أوكرانيا أفغانستان ثانية للروس، لكن المؤشرات تنبئ أن أوكرانيا ستكون أفغانستان ثانية بالنسبة إلى أميركا التي خرجت من أفغانستان مهزومة ذليلة.

رغم مساعي ترامب الجادة لوضع نهاية سياسية لهذه الحرب، فإن الأطماع الدولية بأوكرانيا قد تحول دون ذلك، سعياً من قبل العديد من الدول إلى ايصال أوكرانيا إلى حالة من الانهيار ليسهل عليهم تقاسمها.

الرابحون والخاسرون مما يحدث في أوكرانيا...

من البديهي أن تكون روسيا وأوكرانيا أولى المتضررين من هذه الحرب، فيما كانت الولايات المتحدة أكبر الرابحين منها، لاعتبارات كثيرة أهمها تجارة السلاح الأميركية وزيادة عائداتها.

الدول الأوروبية بدت هي الخاسر الأكبر بعد أوكرانيا، فالاتحاد الأوروبي اليوم ليس كما كان عليه قبل الحرب، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

لم يعد الحديث عن اعتبار دول الاتحاد الأوروبي قطباً دولياً مستقبلياً أمراً محتملاً، وباتت المنافسة تقتصر على الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا. 

رغبة ترامب في التفرغ لمعركته المقبلة مع الصين أمر يثير قلق بكين، ويجعلها تتوجس من وقف الحرب في أوكرانيا، إذ شكلت استنزافاً للولايات المتحدة والدول الأوروبية، كما زادت من حاجة موسكو إلى الصين وتبعيتها لها في عدد من القضايا.

إيران ودول المنطقة ستعاني أيضاً من تداعيات وقف الحرب في أوكرانيا، لو تحقق، فانتصار المحور الغربي يعني خسارة حلفائنا، وانتصار روسيا قد يجعل دول المنطقة ورقة للتفاوض بينها وبين الغرب، على غرار ما حدث في سوريا. 

إعادة تشكيل المشرق وإعادة تشكيل سوريا بالذات...

أما سوريا فقد باتت تشكل حالة مثالية لنموذج التفكك الجغرافي والديمغرافي الذي يضع وحدة البلاد وهويتها على المحك، وهو ما نراه اليوم في السويداء ومنطقة الساحل وشمال شرق سوريا.

فما يحصل في السويداء ليس منفصلاً عما يحدث في المنطقة بشكل عام، وسوريا بشكل خاص، والتي تمثل قلب المشرق العربي، ولم تكن "سايكس-بيكو" سوى تفكيك لسوريا بالشراكة بين فرنسا وبريطانيا.

اليوم، ننتقل من تفكيك الأمة إلى أقطار (اتفاقية سايكس-بيكو)، إلى تجزئة الأقطار إلى أمم طائفية وعرقية تحت شعارات بتنا نسمعها ونرددها مثل "إسرائيل الكبرى" و"الشرق الأوسط الجديد"..إلخ.

في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، ظهرت وثيقة تسمى "وثيقة أوديد ينون" تظهر تصورات "إسرائيل" لمستقبل المنطقة، عبر تقسيم البلدان العربية إلى دويلات، وبالنسبة إلى سوريا كان التصور قائماً على تفكيكها إلى خمس دويلات، وهو ما يتطابق مع رؤية فرنسا حين كانت تحتل سوريا.

اليوم، تسعى "إسرائيل" لاستخدام ورقة الدروز باعتبارهم الفئة العربية الوحيدة في كيان الاحتلال التي تؤدي خدمة العلم في "إسرائيل" (وهناك بعض البدو في صحراء النقب يفعلون ذلك). تحت عنوان اسمه "تحالف الدم" وتحت دعاوى دينية من نوع علاقة النبي موسى بالنبي شعيب وما إلى ذلك.

مع الإشارة إلى أن وضع الدروز لا يعنيها في شيء، سوى أنها تريد لهم أن يكونوا أداة لتكريس الوضع القائم الذي خلقته "إسرائيل" في جنوب سوريا. 

تدرك "إسرائيل" أن تفكيك سوريا ستكون له انعكاسات خطيرة على أمنها القومي، لكنها لم تستطع تجاوز إغراء القدرة على إضعاف سوريا أكثر وأكثر. 

كما أن فكرة تشكيل دويلات دينية في المنطقة فكرة تدغدغ مشاعر الإسرائيليين كي لا تبقى دولتهم الوحيدة في الإقليم القائمة على أسس دينية. 

سعي الحكومة السورية للتفاوض مع "إسرائيل" يمكن فهمه باعتباره نوعاً من الواقعية السياسية، فما البديل المتاح أمامها فيما لو تعثر مسار التفاوض، خصوصاً أن "إسرائيل" باتت على مشارف دمشق.

الخطورة تكمن في التوجه إلى طاولة التفاوض من منطق المهزوم المجرد من كامل أوراقه، بدلاً من السعي إلى خلق واقع جديد على الأرض (حتى لو كان مؤقتاً) يمكن استثماره كورقة قوة في المفاوضات القادمة بين سوريا و"إسرائيل".

الحوار والشفافية بين الحكومة والشعب ضروريان في هذا الإطار، خصوصاً أن هناك الكثير من التشويش على عمل الحكومة، وازدياد حدة الانتقادات لها حقيقة لا يمكن تجاوزها.

الحديث عن سوريا الواحدة الموحدة أمر ليس باليسير تحقيقه، فالحفاظ على وحدة الدولة لن يكون من دون التفريط بشيء من السلطة، والسماح بالمزيد من المشاركة السياسية لجميع مكوّنات الشعب السوري، بمن فيهم المعارضون للسلطة القائمة.