الصين والهند... دبلوماسية جديدة لرأب الصدع ومواجهة سياسات ترامب
على الرغم من التقارب الملحوظ بين نيودلهي وبكين، فإنَّ عملية استقرار العلاقات بينهما وتحولها إلى شراكة استراتيجية قد تكون بعيدة المنال، حتى إن هناك بعض العقبات التي تعتري العلاقات بين البلدين.
-
زواج المصلحة هو الوصف الذي يمكن أن يطلق على التقارب الصيني الهندي حالياً.
تسير العلاقات بين الدول بحسب المقولة المشهورة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق وينستون تشرشل: "لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة".
هذه المقولة تنطبق على العلاقات الهندية الصينية، إذ تسعى بكين ونيودلهي حالياً إلى إعادة ضبط العلاقات بينهما، والتي توترت على خلفية الاشتباكات التي دارت عام 2020 في المناطق المتنازع عليها على طول الحدود بين البلدين.
بدأ التقارب بين الصين والهند قبل عدة أيام من اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي العام الماضي على هامش قمة البريكس التي عقدت في قازان في روسيا، حيث توصل البلدان إلى اتفاق بشأن الحدود المتنازع عليها عبر تسيير دوريات مراقبة.
سياسات ترامب تجاه البلدين، ولا سيما الرسوم الجمركية التي فرضها عليهما، سرعت وتيرة التقارب بين الصين والهند، إذ اتخذ الطرفان سلسلة من الخطوات التي تشير إلى تخفيف التوتر بينهما؛ فقد حضر وزيران صينيان رفيعا المستوى حفل استقبال لمناسبة عيد الاستقلال الهندي في السفارة الهندية لدى بكين في 15 آب/أغسطس الحالي.
كما يزور وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الهند لعقد المحادثات بشأن مسألة الحدود واستئناف التجارة الحدودية بعد توقفها 5 سنوات. ومن المتوقع أن يزور الزعيم الهندي ناريندرا مودي الصين أواخر الشهر الحالي لحضور قمة منظمة شنغهاي للتعاون، وسيعقد قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وفي إطار آخر، استؤنفت الرحلات الجوية المباشرة ومنح التأشيرات السياحية لكلا البلدين. كما وافقت الصين على إعادة فتح حدودها أمام الحجاج الهنود الراغبين في زيارة الأماكن المقدسة في التيبت.
الصين هي الشريك التجاري الأكبر للهند، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما عام 2024 نحو 118.4 مليار دولار أميركي. ويسعى العملاقان الآسيويان إلى زيادة التبادل التجاري بينهما وفتح أسواقهما بهدف التخفيف من تأثير الرسوم الجمركية الأميركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على كل منهما، ولا سيما الهند، التي يصب جام غضبه عليها، إذ قام بفرض رسوم جمركية على البضائع الهندية وصلت إلى 50%، وهو يهدد دائماً بفرض رسوم جمركية إضافية عليها.
وكما يبدو، فإن الرئيس ترامب يستخدم ببساطة مشتريات الهند من النفط الروسي كذريعة لفرض الرسوم الجمركية، إذ إن فرض الرسوم الجمركية في الواقع لا يتعلق بروسيا بقدر ما يتعلق برغبة ترامب في إجبار نيودلهي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتوقيع اتفاقية غير عادلة تفيد الولايات المتحدة الأميركية على حساب الهند، كما فعل مع العديد من دول العالم، كالاتحاد الأوروبي مثلاً الذي وافق على توقيع اتفاقية تفرض بموجبها الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 15% على الصادرات الأوروبية، فيما لن يفرض الاتحاد الأوروبي أي رسوم جمركية على السلع الأميركية.
من المحتمل أن يحصل التقارب الاقتصادي بين الصين والهند، ويرتفع التبادل التجاري بينهما، وتزيد الاستثمارات في كلا البلدين، إلا أن عملية بناء الثقة بين بكين ونيودلهي قد تستغرق وقتاً، ذلك أن الثقة مفقودة بينهما بسبب العديد من الأمور، ولا سيما الاشتباكات التي حصلت على الحدود، وأيضاً بسبب التنافس الاستراتيجي في المنطقة ورغبة كل منهما في أن يكون القوة الإقليمية المسيطرة .
وعلى الرغم من التقارب الملحوظ بين نيودلهي وبكين، فإنَّ عملية استقرار العلاقات بينهما وتحولها إلى شراكة استراتيجية قد تكون بعيدة المنال، حتى إن هناك بعض العقبات التي تعتري العلاقات بين البلدين. وقد يكون من الصعب إيجاد الحلول لها إلا بالتنازل من كلا الطرفين.
مثلاً، مسألة الحدود المتنازع عليها بين الصين والهند ما زالت بحاجة إلى المزيد من المفاوضات والمباحثات، وخصوصاً بعدما عززت الدولتان مواقعهما، إذ نشر كل منهما ما بين 50 إلى 60 ألف جندي على جانبه من الحدود وطور بنيته التحتية المدنية والعسكرية. كما أن قيام الصين ببناء أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في العالم على نهر يارلونغ تسانغبو أثار قلق الهند التي عبّرت عن خشيتها من حجز المياه أو تحويل مساراتها بعيداً عن أراضيها.
ومن ملفات الخلاف أيضاً بين الصين والهند التقارب الصيني الباكستاني والدعم العسكري الذي تقدمه بكين لإسلام آباد، إذ أظهرت الاشتباكات الأخيرة بين باكستان والهند قدرة الصواريخ الصينية على إسقاط طائرات رافال الفرنسية التي تملكها الهند. ونتيجة لفاعلية الأسلحة الصينية، يدور الحديث عن أن باكستان تسعى إلى عقد صفقة أسلحة مع الصين تحصل بموجبها باكستان على 40 طائرة من الجيل الخامس J-35، وأنظمة الدفاع الصاروخي الباكستانية HQ-19. وتُعد الصين مورداً رئيسياً للجيش الباكستاني، إذ تشكل 81% من واردات الأسلحة في البلاد.
من جهة أخرى، تصاعدت المنافسة بين الهند والصين في منطقة المحيط الهندي. على سبيل المثال، أجرت الهند في الأشهر الأخيرة مناورات بحرية إلى جانب العديد من الدول، بما في ذلك جنوب أفريقيا وتنزانيا وموريشيوس وسيشل في المحيط الهندي، كما أبرمت اتفاقية دفاعية مع سريلانكا لتعزيز التعاون في التدريب العسكري والاستخبارات والتكنولوجيا. وتهدف نيوديلهي من وراء ذلك إلى توسيع نفوذها لكي تكون الشريك الأمني المفضل في منطقة المحيط الهندي، متجاوزة الصين التي سعت هي أيضاً إلى تعزيز حضورها في المنطقة.
من ناحية أخرى، تعززت العلاقات بين الهند والفلبين التي توترت علاقاتها مع الصين على خلفية السيادة على الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي؛ فقد أسفرت زيارة الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس إلى الهند الشهر الجاري عن رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى شراكة استراتيجية، وتم تعزيز التعاون في مجال الدفاع، كما عملت الهند على تعزيز تعاونها مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان).
إضافة إلى ذلك، فإن الهند من ضمن مجموعة الكواد، أو الحوار الأمني الرباعي، التي تضم الولايات المتحدة الأميركية واليابان والهند وأستراليا، والتي ترى الصين أنها تهدف بالأساس إلى احتوائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومن المقرر أن تستضيف نيودلهي قمة قادة الكواد في وقت لاحق من هذا العام، وهذا يدل على أنها ما زالت عضواً فاعلاً فيها.
وإذا كانت الهند قد نأت بنفسها عن الأبعاد الأمنية الصارمة للمجموعة، إلا أنها انضمت مؤخراً إلى مبادرة المعادن الأساسية الرباعية التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين بشكل كبير في إمدادات المعادن الأسياسية، والتي تم إطلاقها في الاجتماع الذي عقد لوزراء خارجية الكواد في واشنطن مطلع شهر تموز/يوليو الماضي لضمان استقرار وتنويع إمدادات المعادن النادرة.
أيضاً، ما يؤرق الهند في علاقاتها مع الصين هو الميزان التجاري الذي يميل لمصلحة الصين، إذ أظهرت بيانات تجارية أن الهند سجلت عجزاً تجارياً قدره 99.2 مليار دولار أميركي مع الصين في السنة المالية 2024/2025. لذلك، ستدفع الهند نحو تقليل العجز التجاري.
زواج المصلحة هو الوصف الذي يمكن أن يطلق على التقارب الصيني الهندي حالياً؛ فمما لا شك فيه أن الهند فقدت الثقة بالرئيس ترامب. لذلك، هي بحاجة إلى الصين، كما أن الأخيرة بحاجة إلى الهند. لذلك، يعمل الطرفان على تهدئة الأجواء بينهما بقدر الإمكان ووضع خلافاتهما جانباً حفاظاً على مصالحهما، ولكن هذا لا يعني أن إعادة الثقة بين البلدين أمر سهل.