العراق بين والولايات المتحدة وإيران
تسعى الولايات المتحدة لضرب النفوذ الإيراني في العراق، ويحاول المسؤولون الأميركيون صياغة سياسة واضحة لتأمين المجال الجوي العراقي بطريقة تحافظ على حرية العمل الأميركية في أي أزمات مستقبلية.
-
الأميركي يستعيد المبادرة في العراق؟
ركّزت الإدارة الأميركية سياستها منذ 2003 في العراق، بشكل شبه كامل على إيران. ولم يجنِ العراق سوى الأزمات، وكان من أبرز أشكال التضييق منع استيراد الكهرباء من إيران تحت ذريعة العقوبات، رغم التصريحات الأميركية التي تزعم استثناء القطاعات الإنسانية من العقوبات. كانت سياسة الولايات المتحدة داخل العراق فاشلة بحيث إنه لم يكن لها مسار خاص بها.
عندما انسحب الرئيس ترامب عام 2018 من "خطة العمل الشاملة المشتركة" أصرّ على إجراء مفاوضات جديدة مع إيران ترمي إلى إيقاف طموحاتها النووية وتغيير "سلوكها التوسّعي" في الشرق الأوسط. انتهجت إيران سياسة واضحة إزاء العراق، فالجمهورية الإسلامية تعتبر العراق مهماً جداً لأمنها القومي وهي تتعامل مع العلاقات الثنائية كما لو أنّ العراق امتداد وثيق وطبيعي لبلدها.
مما سمح لها بالمضي قدماً في مسارها من دون انقطاع خلال العقد الفائت. فقد أبدت إيران رغبتها في مساعدة العراق في حربه ضدّ "داعش" وكان لها موقف في استفتاء إقليم كردستان العراق للحصول على الاستقلال، وسعت الى إنجاح جهودها الرامية إلى ضمان الخروج الأميركي من العراق.
طوّرت إيران علاقات سياسية وأمنية واقتصادية أكثر فعّالية في العراق. لجأ الإيرانيون إلى حلفائهم في القطاعين السياسي والأمني من أجل تقليص النفوذ الأميركي في العراق والتخلّص منه في النهاية.
كانت إيران تتعامل رسمياً مع مؤسسات الدولة في العراق، لكن كانت تتعامل مع رؤساء منظمات سياسية تعامل معها الجنرال قاسم سليماني بشكل جدّي الى جانب الجماعات والتنظيمات العراقية القريبة منها. في تلك الفترة خسرت الولايات المتحدة الكثير من نفوذها في العراق وتراجعت عموماً.
الأميركي يستعيد المبادرة في العراق
اعتبرت إيران اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في العراق القائد العسكري والسياسي البارز في هيئة الحشد الشعبي هجوماً مباشراً من الولايات المتحدة بعد تحشيد الشارع العراقي وتشجيع الاحتجاجات المناهضة لها التي سادت شوارع العراق 2019.
كان عام 2020 عاماً حاسماً لمصالح الولايات المتحدة في العراق، لكن كان هناك تعاطف وتحالف من المكوّنات الاجتماعية السياسية والفصائل العراقية مع إيران.
قدّم اغتيال قاسم سليماني لإيران زخماً كبيراً وفرصة لتصعيد أزمة، إلا أنها لم تندفع. لم تدخل قط في مواجهة مباشرة مع أيّ قوة عالمية أو إقليمية نافذة حتى ذلك الوقت، بل فضّلت استخدام وسائل أكثر أماناً وفعّالية تقوم على إخلال التوازن.
قصفت قاعدة عين الأسد، حقّقت طهران ما تريده من القصف، إذ أخبرت بغداد بداية بأنها ستوجّه ضربة صاروخية، وأوصلت رسالة بهذا المعنى لواشنطن.
ولهذا لم يقع ضحايا أميركيون بشكل بارز للأعلام أو عراقيون، وهو ما أرادته إيران حتى لا تعطي ترامب مبرّراً لضربها، وكرسالة لتخفيض التصعيد، لم تظهر الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً في التخفيف من وطأة سياسة الضغط القصوى التي انتهجتها، مع إبقائها جنودها في حالة تأهّب. لكنّ إيران استمرت في مساعيها الرامية إلى إخراج الجيوش الأميركية، ومارست ضغوطاً سياسية متنامية إما من خلال الحكومة أو في البرلمان العراقي.
كان ترامب قد حاول خلال أيار/مايو 2017 مطالبة الدول العربية والإسلامية أثناء قمة الرياض التحريض على مواجهة "التهديدات الإيرانية"، وفي عام 2019، كشف أنّ بلاده تعمل مع شركائها في المنطقة العربية لتكوين تحالف استراتيجي إقليمي يضم مجلس التعاون الخليجي، الأردن ومصر من أجل ازدهار المنطقة من دون التطرّق إلى التفاصيل، واعتبر أنّ "الزعماء الإيرانيين لا يحترمون جيرانهم ولا حدودهم، ولا حقوق سيادة الدول".
تضمّنت رؤية واشنطن لردع إيران وجود نحو 35 ألف جندي أميركي في دول الخليج بصورة شبه دائمة، لكن فكرة الناتو العربي ذهبت أدراج الرياح.
كرّر ترامب بعد عودته الى البيت الأبيض أنّ طوفان الأقصى لم يكن ليحدث لولا إيران. اتخذ الرئيس الأميركي سلسلة إجراءات لإجبار إيران على التفاوض على اتفاق نووي جديد، ملوّحاً بالتصعيد العسكري عند الضرورة.
ووقّع مذكّرة رئاسية للأمن القومي أعادت حملة "الضغط الأقصى" ضدّ إيران، إضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية صارمة استهدفت صادراتها النفطية.
أما دبلوماسياً، فبعث في آذار/مارس 2025 رسالة إلى السيد علي خامنئي المرشد الأعلى الإيراني، من أجل التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد محذّراً من عمل عسكري محتمل إذا فشلت المفاوضات. وافقت إيران بعد رفض إجراء محادثات غير مباشرة بوساطة عُمان، وعقدت بالفعل 5 جولات، مع ستيف ويتكوف صديق ترامب ومبعوثه الخاص.
الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران فوق سماء العراق
استخدم ترامب التهديد بالقوة العسكرية للضغط على إيران، وحذَّرها من قصف "لم تشهد مثله من قبل" إذا لم تبرم صفقة. وبعد مهاجمة "إسرائيل" أهدافاً إيرانية فجر 13 حزيران/يونيو، وتدمير أجزاء من المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، ومقتل عدد كبير من المسؤولين العسكريين والعلماء النوويين، أشاد ترامب بالعملية الإسرائيلية وساهم بحصته من القصف، وكرّر ترامب اعتقاده بأنّ إيران يجب أن "تبرم اتفاقاً الآن" بشأن برنامجها النووي لتجنّب تصعيد أكبر.
وبالرغم من أنّ المواجهة العسكرية الأخيرة بين إيران و"إسرائيل" والولايات المتحدة لم تشمل العراق فقد حرصت بغداد على التأكيد بأنها غير مشمولة، إلا أنّ المجال الجوي العراقي استُخدم بشكل واسع كممر للعمليات العسكرية من الجانبين، تماماً كما حدث خلال جولتين كبيرتين من الضربات المتبادلة بين إيران و"إسرائيل" في عام 2024.
تسعى الولايات المتحدة لضرب النفوذ الإيراني لدى الحكم العراقي والطاقة العراقية، ويحاول المسؤولون الأميركيون صياغة سياسة واضحة لتأمين المجال الجوي العراقي بطريقة تحافظ على حرية العمل الأميركية في أيّ أزمات مستقبلية.
خلال الحرب الأخيرة، لم تتدخّل المجموعات والفصائل العراقية مع أنها إبّان مساندة غزة شاركت في عمليات، لكن بعد قصف الولايات المتحدة لإيران، أشير إلى ضربة رمزية واحدة فقط على هدف أميركي.
كانت علامات التحفّظ كالاحتجاجات نشطة على شبكات التواصل الاجتماعي ولم تعقد الجلسة البرلمانية المقرّرة في 17 حزيران/يونيو حول إدانة الهجمات الإسرائيلية في تحقيق النصاب القانوني؛ حلّقت الطائرات الإسرائيلية فوق العراق وأجوائه في هذه الأثناء، لكنّ عدداً كبيراً من الطائرات المسيّرة وصواريخ كروز أطلقتها إيران خلال الصراع ومرّت عبر المجال الجوي العراقي، أما بالنسبة للطائرات الأميركية، فمرّت عبر أجواء العراق في 22 حزيران/يونيو في طريقها لضرب البرنامج النووي الإيراني.
مع اقتراب الحرب من نهايتها في 23-24 حزيران/يونيو، دُمّر رادارا مراقبة عراقيان على الأقل بهجمات طائرات مسيّرة غامضة في معسكر التاجي وقاعدة الإمام علي الجوية، بينما قد يكون آخران قد استُهدفا من دون نجاح في قاعدة بلد الجوية وقاعدة الأسد الجوية.
كانت بغداد قد دعت لاقتناء رادارات اعتراض ومعترضات دفاع جوي غير أميركية قبل الحرب إلى أنها ستصبح الآن أكثر إلحاحاً. لكنّ الولايات المتحدة تحاول الضغط على المورّدين البدلاء لضمان أن لا تشكّل أيّ دفاعات جوية عراقية تهديداً للمصالح الأميركية أو حرية العمل.
ترى الولايات المتحدة الأميركية أنه لم يقصف أيّ فصيل عراقي المرافق الأميركية خلال الحرب أو جدد الدعوة لطردها. وتعتقد أنّ إضعاف إيران في العراق بعد الحرب إضافة الى الجهود المستمرة لإزالة النفوذ الإيراني من داخل قطاع الطاقة العراقي يمكن أن ينجح في إضعاف العلاقة مع إيران.
إلّا أنّ إيران تملك نفوذاً في العراق بحكم العلاقات التاريخية ووجود القوى الشيعية والفصائل المقرّبة منها، بينما تتدخّل الولايات المتحدة بشكل مباشر في قرارات الدولة العراقية.
كان العراق قد أُجبر على إلغاء الإعفاءات الأميركية لاستيراد الغاز الإيراني، والتزم بعدم دفع الأموال المحجوبة لطهران وقد تلجأ واشنطن إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على العراق، في محاولة لعزله عن إيران.
الضغوط الأميركية على العراق موجّهة ضدّ العلاقة الإيرانية العراقية
تضغط واشنطن على "الحكومة العراقية لإعادة ترتيب علاقتها مع إيران بما يتوافق مع النفوذ الأميركي، محاولة تفكيك الحشد الشعبي، الذي يُعدّ مؤسسة أمنية رسمية بموجب القانون والدستور، تطلق حملات إعلامية ضد فصائل المقاومة العراقية، عبر توجيه المؤسسات الإعلامية الأميركية لتشويه صورتها، وتحاول منع مشاركة الفصائل مثل بدر، النجباء، وكتائب الإمام علي في أي مؤسسة حكومية، مع المطالبة بتصنيفها كـ"منظمات إرهابية أجنبية" وفرض عقوبات على مسؤولين وشركات عراقية يُعتقد أنها تسهّل النفوذ الإيراني داخل البلاد بهدف فرض قيود على استيراد الغاز الطبيعي المسال، وإلى ضرب النفوذ الإيراني في قطاع الطاقة العراقي.
تضغط واشنطن بشكل متزايد على بغداد لقطع العلاقات مع طهران. في الوقت الذي أشرف فيه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، على توقيع مذكرة تفاهم أمنية مشتركة بين مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، "بشأن التنسيق الأمني على طول الحدود المشتركة بين البلدين".
اعترضت الولايات المتحدة على مذكّرة التفاهم إلّا أنّ السفارة العراقية اعتبرت أنها ملتزمة بتعزيز علاقاتها الودية مع مجموعة واسعة من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، "على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة"، مؤكّدة أنّ بغداد "ليست تابعة لسياسة أي دولة أخرى، وأنّ قراراتها تسترشد فقط بإرادتها الوطنية المستقلة".
وأشار بيانها أنّ مذكّرة التفاهم "تندرج في إطار التعاون الثنائي الهادف إلى الحفاظ على الأمن وإدارة الحدود المشتركة"، وتساهم في استقرار وأمن البلدين والمنطقة ككلّ.
كذلك عارضت الولايات المتحدة بشدّة مشروع قانون في البرلمان العراقي يسعى إلى تنظيم قوات الحشد الشعبي على غرار أجهزة أمن الدولة العراقية الأخرى، قائلة إنّ مشروع القانون يقوّض السيادة العراقية.
النهج الأميركي المزعزع لاستقرار العراق يثير التساؤل حول كلام مسؤوليها عن اهتمامهم بسيادتها بينما يضغط عليها اتجاه علاقتها مع دول المنطقة، أما تصريحات مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية حول مشروع قانون الحشد الشعبي فيعتبر تهديداً مبطّناً لاستقلالية قرارها.
تكمن أهمية العراق بالنسبة للمسؤولين الأميركيين في تعاونه لضرب الأمن الإيراني، وهذا ما يجعل العراق في موقع خطير . إيران لم تدعُ العراق أو فصائله للمشاركة في حربها لأنها تصرّ على أمن العراق على عكس محاولة واشنطن الهيمنة على قراره واستعماله ضدّ جيرانه.