المسكوت عنه في علاقة جنوب السودان بـ"إسرائيل"

ما الذي يدفع وزير خارجية جنوب السودان للتضحية بعلاقات بلاده الأفريقية والعربية والإسلامية والدولية ليقوم بزيارة "إسرائيل" وفي هذا التوقيت؟

0:00
  •  المسكوت عنه في علاقة بين جنوب السودان بـ
    المسكوت عنه في علاقة جنوب السودان بـ"إسرائيل" هو استقواء الأولى بالثانية.

نفت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في جنوب السودان "بِشِدة" التقارير الإعلامية الأخيرة التي تتحدث عن إجراء محادثات مع "إسرائيل" بشأن توطين الفلسطينيين من غزة في جنوب السودان، وتقول القاعدة أن نفي النفي إثبات، ولست هنا بصدد إثبات أو نفي صحة ما زعمته التقارير الإخبارية ونفته جنوب السودان، ولكن السؤال الأعمق والأدق والمُعلن من دون نفي هو: ما المصلحة المتحققة الآن في هذا التوقيت من قيام وزير خارجية جنوب السودان بزيارة تل أبيب وبدء زيارته من مستوطنات الضفة الغربية تحديداً؟.

قد تنفي جنوب السودان حدوث مباحثات بينها وبين "إسرائيل" بخصوص توطين الغزيين، لا لأن هذا لم يحدث، ولكن لأن أهل غزة وسكانها لا يمكن أن يتركوا غزة بتلك السهولة المتخيلة في عقيدة صناع القرار في "إسرائيل". لكنها لا تستطيع أن تنفي وجود علاقات وتقارب على وقع المذبحة والتطهير العرقي وجرائم الحرب المُرتكبة في قطاع غزة بإقرار المجتمع الدولي ودول العالم.

بينما تتمدد التظاهرات والاعتصامات في عواصم العالم رفضاً وإدانة لجرائم الحرب التي ترتكبها "إسرائيل" في قطاع غزة؛ قفز وزير خارجية جنوب السودان "سيميا كومبا" وقام بزيارة هي الأولى من نوعها إلى مناطق الضفة الغربية المحتلة والمُهددة علناً بالضم، وشملت الزيارة أيضاً مستوطنات في شمال الضفة الغربية.

ولأن الفوقية سمة رسمية في محددات السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه أفريقيا، على غرار حليفتها الولايات المتحدة الأميركية، يتبين أن زيارة وزير جنوب السودان جاءت استجابة لدعوة، وللدقة، تلبية لاستدعاء وزير الخارجية الإسرائيلي "جدعون ساعر"، ما يعني أن الإفلاس الإسرائيلي بلغ مبلغ البحث عن منقذ لتآكل الرواية الإسرائيلية ومحاصرتها دولياً أن قررت ترميم روايتها وصورتها من خلال استضافة وزير خارجية جنوب السودان، قطعاً لم يكن هذا هو السبب الوحيد للزيارة، لا تعوّل "إسرائيل" إطلاقاً على جنوب السودان لترميم وتحسين صورتها الإجرامية أمام العالم، لكنها تبحث عن مخرج وحل لورطتها في قطاع غزة، وبالتالي النفي بأن الزيارة لم تتناول التوطين فيه تقزيم لفهم المحددات الإسرائيلية في القارة الأفريقية عموماً وجنوب السودان على وجه التحديد. 

وعليه فإن بعض المسكوت عنه في الزيارة هو ملف توطين الغزيين في جنوب السودان وهذا ليس سراً فإثيوبيا وأرض الصومال وليبيا والآن جنوب السودان كلها دول أفريقية موضوعة على طاولة البحث والمحاولات الإسرائيلية لنفي وتهجير سكان غزة.

ما الذي يدفع وزير خارجية جنوب السودان للتضحية بعلاقات بلاده الأفريقية والعربية والإسلامية والدولية ليقوم بزيارة "إسرائيل" وفي هذا التوقيت، ولماذا بدا سعيداً بالزيارة وتجاوز الدبلوماسية الحذرة واصطف بجانب "إسرائيل" في قوله: "نصلي من أجل نجاحكم واستقراركم وسلامكم. جنوب السودان صديق مقرب لإسرائيل، وسنظل كذلك".

دعمت "إسرائيل" انفصال جنوب السودان، ما كان يُعرف بسياسة واستراتيجية "شد الأطراف" ليس مخفياً، كُتبت في ذلك كتب ورفعت الرقابة العسكرية محاذير النشر على وثائق الموساد، وأول دولة اعترفت بجنوب السودان عام 2011 كانت "إسرائيل"، والعلاقات والزيارات وتبادل السفارات أمر واقع ومُتحقق ومُعلن.

 ولكن ماذا حققت جنوب السودان من علاقاتها بـ"إسرائيل"؟، التي وعدت جنوب السودان بالدعم الفني والتقني والزراعي والتنموي واليوم بعد 14 عاماً تقف جنوب السودان على قارعة الفقر؛ فمن بين حوالي 10.000 كيلومتر من الطرق، هناك 2٪ فقط معبدة، ويعيش ثلثا السكان في بلد نفطي وبه ذهب وموارد طبيعية غنية، على أقل من دولارين في اليوم، ومياه الشرب نادرة، و فقط 2٪ من السكان يمكنهم الوصول إليها. 

من حق أي دولة البحث عن مصالحها وفق محدداتها وتطلعاتها، فُتقيم علاقات وتحالفات مع ما تشاء من الدول ولكن مع مراعاة ألا يكون تحقيق هذه المحددات على حساب الدم والضحايا وجرائم الإبادة والتطهير العرقي وتجاوز القانون الدولي وقراراته.

 وبالتالي في دلالات زيارة وزير خارجية جنوب السودان لـ"إسرائيل" في هذا التوقيت إضفاء نوع من الشرعية على دولة تمارس الإجرام والإبادة والتطهير العرقي، وهذا فخ وقعت فيه جنوب السودان، التي تقف على شفا اقتتال وصراعات وتحديات ومشكلات عرقية وقبلية وسياسية واقتصادية قطعاً لن تستطيع "إسرائيل" إنهاءها وإخراج جنوب السودان من أزماتها، وتحديداً في هذا التوقيت، وبالتالي استقواء النظام السياسي لجنوب السودان بـ "إسرائيل" والآن خطيئة أخرى وسوء تقدير تبعاته وتداعياته داخلياً وخارجياً ستكون أكبر من إيجابياته وعائداته.

يحضرني تصريح شهير لـ"ديفيد بن غورين" يقول فيه: " نحن شعب صغير وإمكاناتنا محدودة، ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها، وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية، حتى نضخّم هذه النقاط إلى درجة التحول إلى معضلة يصعب حلها أو احتواؤها". والسؤال: هل تدرك نخبة جنوب السودان هذه المقولة وتستحضرها في قرارات اقترابها من "إسرائيل" وتوسيع التعاون والانفتاح عليها.

إن المسكوت عنه في علاقات جنوب السودان بـ"إسرائيل" تسهيل الاختراق الإسرائيلي للقارة الأفريقية شرعنته وتمريره ولا سيما في هذا التوقيت، وابتزاز السودان للمرور في للبحر الأحمر ثم الانتقال لابتزاز باقي الدول الأفريقية، ثم قلب واحدة من أهم المعادلات ومقومات العلاقات العربية الأفريقية، وهي الموقف الرسمي والشعبي الأفريقي من القضية الفلسطينية.

 من دون مبالغة أو مواربة وتجميل زيارة وزير خارجية جنوب السودان لـ"إسرائيل"، في هذا التوقيت طعنة وخذلان للشعب الفلسطيني عموماً ولأهل قطاع غزة على وجه الخصوص، وستسجل هذه الزيارة في محطات التاريخ كوصمة عار.

المسكوت عنه في زيارة وزير خارجية جنوب السودان أن الزيارة ليست عابرة ولا طارئة، وقد استمرت لعدة أيام ومدتها تعني أنها ناقشت قضايا كبيرة وخطيرة وكثيرة، وهي أبعد من مجرد علاقات ثنائية وتعاون دبلوماسي، والأهم أن الوزير حمل معه رسائل رسمية من رئيس جنوب السودان "سلفاكير ميارديت" إلى كل من الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ" ورئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة.

المسكوت عنه في علاقات جنوب السودان بـ"إسرائيل" هو الاستقواء بتل أبيب لمواجهة أعداء الداخل، النظام الحاكم يُراهن على دعم أمني وعسكري ولوجستي إسرائيلي، وهذا ليس سراً؛ وهو موثق في تقارير الأمم المتحدة الصادرة بهذا الخصوص، والتي تكشف أن "إسرائيل" زوّدت أطراف الصراع في جنوب السودان أنواعاً مختلفة من السلاح، ووثقت التقارير الأممية بأن جيش التحرير السوداني تلقى دعماً من قبل تل أبيب، وما زالت "إسرائيل" مستمرة في تزويد جنوب السودان بالسلاح في الصراعات الداخلية. 

وتعيش جنوب السودان ما يشبه الحرب الأهلية منذ 2013 بين القوات الموالیة للرئيس "سالفا كير، ومتمردين تابعين لنائبه السابق "رياك مشار".

 تفسير التقارب المسكوت عنه بين جنوب السودان و"إسرائيل" يوجد في خلفية الجرائم الإنسانية التي ارتكبها كلا النظامين، وقد اتهمت وسائل إعلام إسرائيلية رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، بتمكين حكومة جنوب السودان من ارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية، من خلال دعم حكومة جوبا بالسلاح الذي تستخدمه ضد خصومها في المعارضة بقيادة "رياك مشار". 

ختاما المسكوت عنه في علاقة بين جنوب السودان بـ"إسرائيل" هو استقواء الأولى بالثانية في ارتكاب الجرائم وقتل الخصوم وهذا مُحدد مشترك لن تجده جنوب السودان إلا في"إسرائيل" التي قامت وتستمر على عقيدة التوحش والقتل والإبادة والتطهير العرقي.