الهند قلب اللعبة الجديدة

قمة شنغهاي تمثّل إعلاناً صريحاً بأنّ الزمن الأميركي المنفرد يقترب من نهايته، ويسير في انحدارٍ مستمر منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وأنّ العالم يتّجه نحو تعددية في قلب الفوضى الدائرة الآن.

  • التحوّل الهندي إلى
    التحوّل الهندي إلى "التعدّدية المرنة".

دخل المشهد الدولي مرحلة جديدة من التحوّلات البنيوية، تجلّت بوضوح في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين. لحظة فارقة دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إطلاق تصريح غير مألوف على منصته "تروث سوشل": "لقد خسرنا الهند، وروسيا أمام الصين الأكثر عمقاً وظلماً".

تصريح يعكس الغضب والإدراك في آن واحد. غضبٌ من ميلٍ شديد الخطورة يشهده الموقف الهندي باتجاه مزيد من التعاون مع روسيا والصين، وإدراك بأنّ واحدة من ركائز استراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادي تنزلق نحو الضفة الأخرى. مشهد تلخّصه صورة جمعت شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، ناريندرا مودي، وكيم يونغ أون، وقد بدت في المخيّلة الأميركية كابوساً استراتيجياً مكتمل الأبعاد.

هذه اللحظة شكّلت مؤشّراً على أنّ الهندوباسيفيك ـــــ الذي راهنت عليه واشنطن لاحتواء الصين ـــــ قد بات اليوم مسرحاً لإعادة توزيع الأدوار، وانبثاق معادلات جديدة تضع الهيمنة الأميركية أمام تحدٍ غير مسبوق.

التحوّل الهندي إلى "التعدّدية المرنة"

الهند التي لطالما اعتُبرت في واشنطن "الحاجز الديمقراطي" أمام الصين، أظهرت في تيانجين وجهاً آخر. خطاب رئيس الوزراء ناريندرا مودي حمل عبارة مفتاحية: "لن نسمح بأن نُستخدم أداة في صراعات الآخرين". هذه الجملة تكثّف فلسفة نيودلهي الجديدة: توازن المصالح لا توازن الولاءات.

الهند تجد نفسها بين ثلاثة محاور:

- الإرث التاريخي لحركة عدم الانحياز، حيث رفضت منذ عقود أن تكون جزءاً من محاور صلبة.

- الحاجة الحيوية لموارد الطاقة الروسية، التي لا يمكن الاستغناء عنها في مرحلة النمو الاقتصادي المتسارع.

- الانفتاح على الصين كشريك تجاري واستثماري ضخم، رغم التوترات الحدودية والتنافس الجيوسياسي.

هذا التوازن لا يُترجم حياداً، بل ما يمكن تسميته بـ "التعددية المرنة"؛ أي إدارة دقيقة لعلاقات متشابكة، تسمح للهند بأن تظلّ لاعباً مستقلاً لا تابعاً، وقوةً تصوغ معادلاتها الخاصة في ظل النظام العالمي المتحوّل. وهذا يقود الاستراتيجية الأميركية إلى مأزقٍ حقيقي.

واشنطن في مأزق الهندوباسيفيك

الاستراتيجية الأميركية التي بُنيت على ثنائية "احتواء الصين عبر الهند"، وتحالفات اقتصادية وعسكرية جديدة، تواجه تصدّعاً بنيوياً. فكرة التحالف الطبيعي بين "ديمقراطيات آسيوية" ضد "الاستبداد الشرقي" بدت في الواقع تصوّراً سطحياً لم يصمد أمام تعقيدات المصالح.

اليوم، واشنطن التي اعتادت على هوامش مناورة واسعة في أوراسيا ــــ عبر الناتو غرباً وأوكوس والهند شرقاً ـــــ تجد نفسها أمام شبكة متشابكة:

- شراكة روسية ـــــ صينية آخذة في الترسّخ.

- ميل هندي واضح نحو الانفتاح على هذين العملاقين.

- إيران وكوريا الشمالية تواصلان بناء سياسات سيادية متحرّرة من الضغوط الغربية.

- تركيا تبتعد تدريجياً عن الانضباط الغربي بسبب إدراكها خطورة التطابق الأميركي ـــــ الإسرائيلي في الإقليم. والأولى أثبتت خلال حرب حزيران/يونيو 2025 قدراتٍ فتّاكة بوجه "إسرائيل" والولايات المتحدة نفسها.

إنه مشهد استراتيجي يُعاد رسمه، حيث لم تعد واشنطن الممسكة الوحيدة بخيوط اللعبة.

قمّة منظمة شنغهاي: إعلان ولادة التعدّدية القطبية؟ أم محطة من محطاتها؟

قمة تيانجين كانت من منظار الصراع الجيوسياسي أكثر من اجتماع دوري نمطي. لقد تحوّلت إلى مسرح رمزي يعكس تحوّل ميزان القوى الدولي. أكثر من نصف سكان العالم مُمثَّلون في قاعة واحدة، بعيداً عن حضور الغرب. الرسالة كانت صريحة: النظام الدولي الجديد يُكتب في آسيا.

الرئيس الصيني شي جين بينغ قدّم خطاباً رصيناً: "لا نريد عالماً ضد أحد، بل عالماً يتسع للجميع". إنها دعوة مشروطة: الغرب مدعو للمشاركة إن تخلّى عن الهيمنة، وإلا فهناك نظام بديل يُبنى ليكون قادراً على الاستغناء عنه.

في المقابل، بوتين أعاد تأطير الأزمة الأوكرانية بوصفها "نتيجة انقلاب مدعوم من الغرب"، لكنه أبقى الباب مفتوحاً لتفاهمات كبرى مع ترامب، مستعيداً أجواء "مخادعة ألاسكا": ضربة بيد ومصافحة بالأخرى.

أما الرئيس الكوري الشمالي كيم يونغ أون، فحضوره وحده رسالة سياسية عميقة: بيونغ يانغ لم تعد ورقة ضغط أو دولة منبوذة، بل شريكٌ داخل شبكة الحماية الشرقية. ظهوره إلى جانب بوتين وشي في عرض عسكري ببكين جسّد رمزياً تكوّن محورٍ جديد لا يخضع لشروط الغرب.

الهند قلب اللعبة

لكنّ الحدث الأبرز كان أداء مودي. ليس فقط عبر تصريحاته، بل عبر لغة الجسد والرموز: ابتسامات موجّهة لبوتين وشي، غياب متعمّد عن واشنطن، وموافقة على زيادة واردات النفط الروسي بنسبة 20% في أيلول/سبتمبر.

هنا تتجلّى ملامح استراتيجية هندية جديدة:

- رفض الانحناء أمام الرسوم الجمركية الأميركية.

- التمسّك بالأمن الطاقوي السيادي عبر روسيا.

- الابتعاد عن أن تكون رأس حربة في حرب الغرب ضدّ الصين.

إنها إعادة تعريف لدور الهند كقوة صاعدة ترفض أن تُختزل في "شريك صغير" داخل مشروع أميركي أكبر.

وإلى جانب الهند، مثّلت إيران وتركيا بُعدين متكاملين في مشهد تيانجين.

إيران، عبر الرئيس مسعود بزشكيان، دخلت القاعة كعضو كامل في منظمة شنغهاي، مكتسبة شرعية إقليمية ودولية لم يمنحها لها النظام الغربي. خطابها عن أنّ "العقوبات عزّزت التعاون" لم يكن سوى غطاء لحقيقة أعمق: طهران باتت جزءاً عضوياً من محور أوراسي متكامل.

تركيا، بلسان رجب طيب إردوغان، أكدت أنها "جسر بين الشرق والغرب" لكنها "ترفض أن تشعر بالابتزاز". أنقرة التي ترى الخطر في المشروع الإسرائيلي جنوب سوريا، وفي محاولة واشنطن تقويض نفوذها، تنفتح على شراكات شرقية من دون أن تُغلق الباب على الغرب. بالنتيجة تتولّد هندسة توازنات جديدة تجعل من تركيا لاعباً متأرجحاً، لكنها بالضرورة جزء من التعددية الصاعدة.

أوروبا في غيابها

الغرب كان الغائب الأكبر. قاعة تيانجين أوحت أنّ القرار الدولي بات يُصنع بعيداً عن بروكسل وواشنطن. حتى أرمينيا ـــــ رغم اقترابها الأخير من الغرب ـــــ حضرت لتقول إنّ أمنها لا يُبنى في عزلة عن الفضاء الأوراسي. أذربيجان تحاول تثبيت دورها بورقة الطاقة كعامل حاسم في معادلة المستقبل. أما بيلاروس، فترى أنّ "الغرب فقد حقّه الأخلاقي في قيادة العالم". إنها رسالة قاسية إلى أوروبا التي تعيش ارتباكاً داخلياً في إدارة الحرب الأوكرانية، وشروخاً متزايدة في صفوف الناتو.

ترامب: اعتراف ضمني بالوزن الجديد

المفارقة أنّ تصريحات ترامب زادت القمّة وزناً. حين يقول رئيس أميركي: "هؤلاء القادة يتآمرون على أميركا"، فهو يعترف ضمناً بأنهم قادرون على ذلك. والأخطر أنّ عبارته الشهيرة عن "تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب" تكشف عن وعي بانتقال أميركا من موقع الهيمنة المريحة إلى موقع الدفاع القلق.

لكنّ الأكثر إيلاماً لترامب كان موقف مودي. فقدان الهند، في نظره، ليس مجرّد تراجع تكتيكي، بل انهيار ركيزة أساسية لاستراتيجية "احتواء الصين". ولهذا بدا خطابه مرتبكاً، بين البحث عن جائزة نوبل للسلام، والتحذير من "مؤامرة كونية" تستهدف أميركا.

من المهم إدراك أنّ هذه التكتّلات ليست خالية من التناقضات. بريكس تفتقر إلى انسجام سياسي كامل، والتنافس بين أعضائها على القيادة أمر لا يمكن إنكاره. لكن رغم ذلك، يشكّل الإطاران (بريكس وشنغهاي) منصتين واقعيتين لتقويض الهيمنة الغربية:

- عبر توسيع المبادلات بالعملات المحلية وكسر احتكار الدولار.

- عبر إرساء نموذج شراكة تشاركية بين قوى صاعدة تتعرّض جميعها لضغوط غربية.

- عبر إنتاج خطاب عالمي بديل يتحدّث عن استقلال استراتيجي، سيادة تكنولوجية، وتعددية قطبية.

إنها معالم نظام عالمي لا يرفض الغرب بالضرورة، لكنه يرفض أن ينتظر إذنه أو يخضع لهيمنته.

وهكذا يشكّل التحوّل الهندي جوهر اللحظة. أن تخرج نيودلهي من معادلة "الاحتواء الأميركي للصين"، فهذا يعني أنّ واشنطن تفقد إحدى أوراقها الأشدّ وزناً. وبذلك تُعلن مرحلة جديدة، تصبح فيها التعدّدية القطبية واقعاً يتراكم وربما يُفرض يومياً.

وقد أكدت ذلك الرسالة التي أوحت بها صورة تيانجين، وهي "إما أن تكونوا شركاء متساوين، أو سنمضي وحدنا". انقلاب ناعم على قرن من الهيمنة الغربية القائمة على الدولار والأساطيل.

ترامب ختم إحدى تغريداته بجملة مشحونة: "هناك شيء كبير مقبل، العالم سيفهم ولن يستطيع أحد منعه". تفسيرات ذلك ذهبت باتجاه خطوة مرتقبة في فنزويلا، أو في موضوع صراعه مع المهاجرين، لكنّ الحقيقة أنّ "الشيء الكبير" قد بدأ بالفعل، في تيانجين.

قمة شنغهاي تمثّل إعلاناً صريحاً بأنّ الزمن الأميركي المنفرد يقترب من نهايته، ويسير في انحدارٍ مستمر منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وأنّ العالم يتّجه نحو تعددية في قلب الفوضى الدائرة الآن، مدعومة بتشابك مصالح أوراسية، وانقسام غربي متزايد.

واشنطن تجد نفسها للمرة الأولى في موقع من يحاول اللحاق بالتاريخ، لا قيادته. أما النظام العالمي الجديد، فالاتجاه الحالي يؤكّد أنه بدأ يُكتب فعلاً، بأقلام ملوّنة، لا غربية فقط.