بين التأطير والغرس الثقافي: كيف يروّج الإعلام اللبناني للتفاوض مع "إسرائيل"؟

تسعى بعض وسائل الإعلام اللبنانية إلى إعادة صوغ الخطوط الحمراء الوطنية لتكون مواضيع "إسرائيل" والتفاوض والتطبيع ونزع السلاح أحد أبرز العناوين الانتخابية القادمة.

0:00
  • تتزايد محاولات بعض السياسيين ترويج فكرة
    تتزايد محاولات بعض السياسيين ترويج فكرة "التفاوض مع إسرائيل" كخيار واقعي في الإعلام!

تتزايد محاولات بعض السياسيين اللبنانيين ترويج فكرة "التفاوض مع إسرائيل" كخيار واقعي في وسائل الإعلام اللبنانية، باستخدام آليات إعلامية محترفة، وذلك عبر الجمع بين نظرية التأطير الإعلامي (Framing Theory) ونظرية الغرس الثقافي (Cultivation Theory) وذلك لصوغ تصورات الرأي العام وتهيئته لقبول ما كان يعدّ سابقاً خطوطاً حمراء لبنانية يتفق عليها معظم اللبنانيين.

1-  نظرية التأطير الإعلامي

تركز نظرية التأطير الإعلامي على أن وسائل الإعلام لا تنقل الوقائع بشكل محايد، بل تقدمها من خلال "أطر تفسيرية" تختار الجوانب التي سيجري إبرازها وتهمش جوانب أخرى، وعلى هذا الأساس، فإن هذه الأطر تحدد كيفية فهم الجمهور للحدث وتؤثر في تفسيره له.

تعمد تلك الوسائل إلى تكرار هذه الأطر بشكل يجعل التفسيرات الإعلامية تبدو بديهية وطبيعية، وتخلق تصورات ثابتة لدى المتلقين. لاحقاً، يمتد التأطير ليشمل اختيار اللغة والمصطلحات، وتسليط الضوء على بعض القضايا، وإهمال قضايا أخرى بما يحقق أهدافاً سياسية أو اجتماعية محددة.

على سبيل المثال، تُصوّر وسائل الإعلام التفاوض مع "إسرائيل" على أنه حلّ عملي وضروري في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، بينما يُقدّم أي رفض للتنازل على أنه عائق أمام "الاستقرار" و"الإنقاذ الاقتصادي".

 ويجري تأطير المفردات على هذا الأساس، فيتم استخدام "البحبوحة الاقتصادية"، "الازدهار" كنواتج مع تغييب الكلفة السياسية والاقتصادية وإغفال إقامة المقارنات مع دول أخرى، فمثلاً يُشار إلى "الانفتاح الدولي" على سوريا بسبب قبولها مبدأ التطبيع مع "إسرائيل" فيما يُغفل القصف الإسرائيلي المستمر للأراضي السورية، ورفض التخلي عن الجولان وجبل الشيخ والأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعد سقوط النظام.

2-  نظرية الغرس الثقافي

تركّز نظرية الغرس الثقافي على التأثير التراكمي طويل المدى لوسائل الإعلام في تشكيل تصورات الجمهور وقيمه، إذ يؤدي التعرض المستمر لرسائل إعلامية متشابهة إلى تبني الأفراد والمجموعات رؤية للواقع تتوافق مع الصورة المقدمة، حتى لو تعارضت مع تجاربهم الشخصية المباشرة.

ولذلك، فإن قوة الغرس الثقافي تكمن في تأثيره البطيء والمتراكم، الذي يغير الثقافة والسلوك الاجتماعي تدريجياً دون أن يشعر الأفراد بالتغيير الفوري.

وهكذا، تُكرّر وسائل الإعلام فكرة أن "التفاوض هو الحل" في مختلف البرامج والتحليلات، ما يجعلها أقرب إلى البديهية لدى الجمهور المتلقي. هذا التكرار يخلق ما يعرف بـ "تأثير الحقيقة الوهمية"، حيث يميل الناس إلى تصديق المعلومات التي يتعرضون لها باستمرار.

وفي مجال الغرس الثقافي، تُقدّم "إسرائيل" على أنها "شريك سلام" و"جارة طبيعية"، مع تجاهل الإبادة في غزة، والقصف المستمر وجرائم الحرب في لبنان واحتلال الأراضي اللبنانية، وانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين الخ... ويُركّز على التطور الاقتصادي والانفتاح الدولي، ما يخلق صورة إيجابية جزئية تُطمس المخاطر الحقيقية.

وتُبث تقارير عن التعاون الاقتصادي في دول عربية أخرى لترويج فكرة أن التطبيع "حتمي" و"ليس تنازلاً"، ويتم استهداف الشباب عبر منصات التواصل الاجتماعي وبرامج الشباب، لتشكيل جيل يرى "إسرائيل" واقعاً يمكن التعامل معه بدلاً من كونها "عدواً وجودياً".

وعليه، يعمد التأطير الإعلامي الى تحديد زاوية العرض واللغة، وأي الجوانب يجب إبرازها وأيها يجب إخفاؤها، أما الغرس الثقافي فيعمل على تثبيت هذه الرسائل على المدى الطويل، ليصبح الجمهور متأثراً بشكل تدريجي بتلك العناصر المؤطرة.

يمكن اعتبار التأطير مرحلة فورية واستراتيجية لتقديم الفكرة، بينما الغرس الثقافي يمثل تأثيرًا بطيئًا ومستدامًا يغير الثقافة والسلوك الاجتماعي تدريجيًا. وهكذا، ومن خلال الجمع بين هاتين النظريتين، تسعى بعض وسائل الإعلام اللبنانية الى إعادة صوغ الخطوط الحمراء الوطنية تدريجيًا، تمهيداً للانتخابات النيابية القادمة حيث سيكون موضوع "إسرائيل" والتفاوض والتطبيع ونزع السلاح أحد أبرز العناوين الانتخابية القادمة.