عربات جدعون: حرب بلا أفق ونصر مستحيل

هل تتجه "دولة" الاحتلال فعلاً إلى اجتياحٍ بري شامل لمدينة غزة بهدف فرض وقائع ديموغرافية وعسكرية؟ أم أنّ الإعلان عن العملية ليس أكثر من ورقة ضغطٍ تفاوضية لانتزاع تنازلاتٍ أكبر؟

0:00
  •  لماذا قد تُقدم
    لماذا قد تُقدم "إسرائيل" على العملية الجديدة؟

يعيش سكان مدينة غزة حالةً من التوتر الشديد بعد إعلان الناطق باسم "جيش" الاحتلال الشروع في عملية "عربات جدعون 2"، والتي يحاول نتنياهو تسويقها باسم "القبضة الحديدية" لإضفاء طابع الحسم والإرهاب عليها. الهدف المعلن هو إعادة الدفع بالسكان مجدّداً نحو الجنوب، استكمالاً لما جرى خلال "عربات جدعون 1" حين دُفع سكان الشمال قسراً باتجاه مدينة غزة.

وعلى الورق تبدو الأهداف "كليشيهاً" متكرّراً: "القضاء على حماس، استعادة الأسرى، تحييد خطر قطاع غزة على أمن "دولة" الاحتلال، وتحقيق ما يسمّيه نتنياهو بـ "النصر المطلق". غير أنّ الوقائع الميدانية تعاكس هذا الخطاب؛ فحتى اللحظة لم يتمكّن الاحتلال من تدمير شبكة الأنفاق أو تفكيك المقاومة، بل تلقّى ضرباتٍ مركّبة، كان أبرزها الكمين الجديد في خان يونس ضدّ لواء كافير، بما عرّى هشاشة الرواية العسكرية المبشِّرة بالحسم.

منذ مطلع أيار/مايو، تواصل عربات جدعون مسيرها بلا مآلاتٍ واضحة. لم يحقّق نتنياهو نصره الموعود، ولم تصدق تصريحات رئيس الأركان أيال زامير حول دفع أكثر من 75% من سكان القطاع إلى مواصي خان يونس. الواقع على الأرض أنّ المنازل تُدمَّر والبنى التحتية تُسحق، والسكان يُحشرون قسراً نحو غرب مدينة غزة، من دون الاقتراب من الهدف القديم/ الجديد: تهجير جماعي دائم يفضي إلى دفعهم جنوباً ثمّ بعد ذلك إلى سيناء. وبين تهويلٍ إعلاميّ وخطابٍ انتخابيّ داخلي، تتبدّى الفجوة بين الشعارات والقدرة الفعليّة على التنفيذ.

وهنا يتقدّم السؤال الجوهري: هل تتجه "دولة" الاحتلال فعلاً إلى اجتياحٍ بري شامل لمدينة غزة بهدف فرض وقائع ديموغرافية وعسكرية؟ أم أنّ الإعلان عن العملية ليس أكثر من ورقة ضغطٍ تفاوضية لانتزاع تنازلاتٍ أكبر؟ ويتعزّز هذا السؤال على ضوء موافقة حركة حماس مؤخّراً على المقترح المصري القطري، مقابل تعنّت الحكومة الإسرائيلية التي تحسن استثمار الوقت لإطالة عمر ائتلافها.

هذه المماطلة ترتدّ غضباً في الداخل الإسرائيلي؛ حيث خرجت تظاهرات واسعة مطالبة بإنهاء الحرب واستعادة الأسرى، وسجّل الاقتصاد خسائر كبيرة في الإضراب الأخير، قُدّرت بأكثر من مليار شيكل، وسط مخاوف من شلل أوسع لو انخرط الهستدروت بشكل كامل.

كما يحاول نتنياهو إدارة التناقضات من خلال أوراق ضغط تدفع نحو العملية، وأخرى تكبحها. بين هذه وتلك يوازن بما يضمن بقاءه السياسي لأطول فترة ممكنة، مستفيداً من ضوءٍ أخضر أميركي ومزاج يميني متشدّد داخل حكومته، ومن سرديةٍ تسوِّقه بطلاً في زمن الحرب. لكنّ المؤسسة الأمنية لا تتحدّث بصوتٍ واحد؛ تصريحات متناقضة تخرج بين حين وآخر عن قادةٍ عسكريين ووزير الدفاع كاتس، بينما تشير تقديرات بحثية إسرائيلية إلى أنّ استمرار الحرب بات عبئاً استراتيجياً يستنزف "الجيش" ويمسّ قدرته العملياتية، وأنّ رهان إسقاط حماس تبدّد بعدما تحوّلت إلى مقاومةٍ لا مركزية تخوض حرب استنزاف طويلة.

إذاً، لماذا قد تُقدم "إسرائيل" على العملية الجديدة؟ ثمّة اعتباراتٌ تشجِّع: رغبة في ترميم قوة الردع بعد سلسلة عملياتٍ نوعية لفصائل المقاومة؛ ضغط داخلي من أحزاب اليمين المتطرّف (بن غفير وسموترتش) لانتزاع صورة نصرٍ ما؛ السعي لتصفية ما تبقّى من الأنفاق التي استعصت على سلاح الجو؛ واستراتيجية إنهاكٍ طويلة الأمد تضعف قدرات التصنيع المحلية للمقاومة وتُحاصر تطوّرها. كما يعوّل صانع القرار الإسرائيلي على أنّ الضغط المعيشي والضربات المتكرّرة لمراكز الإيواء والمنازل قد يدفع قطاعات أوسع من السكان للهجرة متى توفّرت فرصة مواتية.

في المقابل، هناك كوابح ثقيلة تحذِّر من المجازفة: الكلفة البشرية والمادية لأيّ اجتياحٍ شامل ستكون هائلة، والخسائر قد تفوق ما يتوقّعه المخطّطون. المقاومة تنظر إلى مدينة غزة باعتبارها المعقل الأخير، وسقوطها يعني ضربة قاصمة لمحورٍ أوسع؛ ما يزيد شراسة المعركة وتعقيدها.

داخلياً، يواجه "الجيش" أزمة بنيوية: رفض الحريديم للخدمة، تردّدٌ واسع في صفوف الاحتياط، تراجعٌ في الانضباط وارتفاع في حوادث الانتحار، وكلّها مؤشّرات على إنهاكٍ طويل المدى. خارجياً، تتراكم الضغوط الدولية مع التقارير الأممية التي تُحذِّر من المجاعة في غزة، في ظلّ غياب رؤية إسرائيلية لما بعد الحرب؛ لا صورة حكمٍ مدني أو عسكري واضحة، ولا خطة لإدارة الركام الإنساني والسياسي الذي خلّفته العمليات.

إقليمياً، تتزايد احتمالات التدهور: المناورات البحرية الإيرانية تحمل رسائل مباشرة، واحتمال مواجهةٍ أوسع مع حزب الله قائم على الدوام. لبنان يتحرّك في ملف السلاح داخل المخيمات لإرضاء الرعاة الدوليين، لكنّ حزب الله يعلن بوضوح أنّ سلاح المقاومة غير قابل للمساومة، ما يبقي الجبهة الشمالية مفتوحة على مفاجآت. كلّ ذلك يجعل الحسابات الإسرائيلية أكثر تعقيداً: أيّ انزلاقٍ في غزة قد يفجّر ساحاتٍ أخرى دفعةً واحدة.

ضمن هذه الوقائع، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية: أولاً عملية شاملة تسَوَّق بوصفها طريق الحسم، لكنها مرتفعة الكلفة ومفتوحة على مفاجآتٍ قاسية، وقد تعمّق الشرخ بين الحكومة و"الجيش" وتفاقم أزمات الجبهة الداخلية، والثانية الانخراط في التفاوض وفق المقترح المصري القطري، مع ترتيباتٍ إنسانية وأمنية متدرّجة، وهو خيارٌ يُغضب مكوّنات اليمين المتطرّف لكنه يخفّف الأكلاف ويستجيب للضغط الشعبي حول الأسرى. والسيناريو الأخير يتمثّل في عملية محدودة ومدروسة وهو السيناريو الأقرب لنهج نتنياهو؛ ضربة محسوبة تُرضي شركاءه، وتحسِّن شروطه التفاوضية، وتستنزف قدرات حماس على المدى الطويل، من دون الوقوع في مستنقع الاحتلال المباشر وإدارته.

ورغم كلّ التهويل، ثمّة حقيقة تتكرّر وهي استمرار القصف واستهداف مراكز الإيواء وتدمير البيوت لن يترجم تلقائياً إلى إنجازٍ سياسي أو عسكري حقيقي. خبرة الشهور الماضية تقول إنّ الصمود الشعبي، مقروناً بقدرة المقاومة على التكيّف وإعادة إنتاج أدواتها القتالية رغم الحصار، يحول دون انتزاع "نصر مطلق". ومع ذلك، لا ينبغي إنكار قسوة الكلفة على المدنيين ولا عمق الجرح الاجتماعي والاقتصادي الذي يتسع يوماً بعد يوم. لهذا يبقى المآل رهين لحظة توازنٍ جديدة تصنعها ثلاث دوائر متزامنة؛ ضغط الشارع الإسرائيلي المتعلّق بملف الأسرى وأثمان الحرب، حسابات الإقليم واحتمالات توسّع المواجهة، والنافذة الإنسانية السياسية التي تفرضها الكارثة في غزة وتُجبر العالم على تحريك الملفات الراكدة.

لذا يمكن القول إنّ عربات جدعون 2 هي عنوان جديد في حربٍ طويلة لم تحسم بعد، تتأرجح بين دعاية النصر ووقائع الاستنزاف. وإذا كان الاحتلال يلوّح بالقبضة الحديدية أو عربات جدعون 2، فإنّ قبضة الواقع أشدّ صلابة، لا اجتياحٌ بلا أثمانٍ فادحة، ولا مفاوضات بلا تغييرٍ في موازين القوة، ولا تهجيرٌ شامل في ظلّ شعبٍ يَثبُت على أرضه ويقاوم، مهما علت الضريبة.