محاولة جديدة لتحريف التاريخ اللبناني: تشويه المقاومة وتغييب الشهداء

ما يجري في لبنان اليوم هو محاولة لإعادة كتابة تاريخه على مقاس مشروع سياسي خارجي، يُقصي المقاومة ويُهمّش التضحيات، ويزرع الشكّ في رموزه وبطولاته.

0:00
  •  الدلائل على تحريف التاريخ اللبناني كثيرة لا تُعدّ.
    الدلائل على تحريف التاريخ اللبناني كثيرة لا تُعدّ.

نُقل عن السيّد حسن نصر الله، في أكثر من مناسبة، تأكيده أهمية قراءة التاريخ واستخلاص الدروس والعِبر منه. وقد كثّف في السنوات الأخيرة دعوته إلى الاهتمام بالكتب التاريخية، ولا سيما تلك التي تتناول تاريخ لبنان.

وأشار نصر الله إلى وجود محاولات تضليل ساهمت في تشويه صورة بعض الشخصيات والأحداث في تاريخ لبنان، وشكّلت خطاباته، التي ركّز فيها على تثبيت المفاهيم ووضع الأحداث في سياقاتها الصحيحة، ومحاولة تقديم المعطيات بشكل دقيق، جهداً منه لتثبيت الحقائق التاريخية كما هي، وحمايتها من محاولات التضليل والتحوير.

والواقع أنّ تحريف التاريخ لم يتوقّف يوماً، فالمحرّفون يدركون جيداً أنّ كتابة التاريخ بطريقة انتقائية، تُبرِز جانباً وتُخفي آخر، أو تُحرّف الوقائع، من شأنها أن تساهم في تشكيل وعيٍ جماعي يخدم مصالح الهيمنة وتعزيز النفوذ.

وتزداد خطورة هذا الأمر في الدول متعدّدة الطوائف، والتي عرفت صراعات داخلية، كما هو الحال في لبنان، وهو ما أشار إليه العديد من المؤرّخين اللبنانيين. ومن بينهم المؤرّخ مؤنس حجيري، الذي ذهب إلى حدّ الحديث عن "أساطير مؤسسة" للهوية اللبنانية، ساهم في إنتاجها مؤرّخو الكنيسة المارونية في جبل لبنان، منذ القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين.

وفي كتابه "كتابة تاريخ جبل لبنان: مؤرّخو الكنيسة والهوية المارونية"، يرى حجيري أنّ السردية التاريخية التي سادت في لبنان كرّست رواية منحازة وغير دقيقة، قامت على تعظيم دور بعض المكوّنات في بناء الكيان اللبناني، وتهميش مكوّنات وطوائف أخرى. ووفقاً لتحليله، فإنّ هذه السردية قد تمّ إنتاجها وتوارثها عبر قرون، وسعت إلى تقديم الموارنة كشعب مختار ومؤسس للبنان.

ويؤكّد حجيري أنّ هذه الرواية أسهمت في نشوء نزعات انعزالية لدى بعض المكوّنات اللبنانية، وأدّت لاحقاً إلى تأجيج التوتر الطائفي. كما أشار إلى أنّ التاريخ المدرسي الرسمي في لبنان لم يقدّم سردية بديلة، بل توقّف عند عام 1943، ما أفسح المجال أمام هيمنة هذه الرواية ذات الطابع الطائفي والمتحيّز.

ما كتبه حجيري لا يحتاج إلى كثير عناء لتأكيده؛ فالأمر يبدو جلياً لأيّ قارئ للتاريخ الرسمي اللبناني. من السهل ملاحظة أنّ هذا التاريخ محصور في إطار جغرافي محدّد، ويقدَّم وكأنه نتاج جهود مكوّنات معيّنة دون غيرها، في ظلّ تغييب ممنهج ومدروس لمكوّنات أخرى.

ففي السردية الرسمية، لا نجد مكاناً حقيقياً لجبل عامل، أو بلاد بشارة، أو بعلبك، أو حتى لمدينة طرابلس العريقة، إلا بما يخدم الرواية المهيمنة. ولا نكاد نسمع أو نقرأ شيئاً عن أعلام الفكر والأدب والفقه والعلم الذين تركوا بصمة عميقة في التاريخ اللبناني.

فهل يعرف اللبنانيون، مثلاً، شيئاً عن العلّامة شمس الدين محمد بن مكي الجزيني، المعروف بالشهيد الأول (1333–1385)، أو عن الشهيد الثاني، العلّامة زين الدين بن علي العاملي الجبعي (1506–1559)؟ أو حتى عن علماء وأدباء القرن العشرين، أمثال السيّد عبد الحسين شرف الدين، والسيّد محسن الأمين، وغيرهم من كبار العلماء والفقهاء؟

وفي التاريخ الرسمي، تغيب أيضاً أحداث مفصلية كبرى، فلا يُذكر شيء عن النكبات المؤلمة والمواجهات الصلبة التي خاضتها مكوّنات لبنانية أساسية في وجه الاستبداد العثماني أو الاحتلال الفرنسي. تختفي وقائع مقاومة أبناء جبل عامل والبقاع وكسروان الفتوح للولاة العثمانيين الظالمين، بينما يُركّز بشكل مبالغ فيه على شخصيتين اثنتين فقط: الأمير فخر الدين والأمير بشير.

بل يُغيّب حتى ذكر شخصيات بارزة، مثل ناصيف نصار، الذي وصفه القنصل الفرنسي في لبنان عام 1772، الفارس دوتوليس، بأنه "الأشهر في كلّ سوريا ببساطته وعظيم قدره، وحاكم البلاد من صيدا حتى حدود عكا".

ويُطمَس ذكر البطلين صادق حمزة وأدهم خنجر، حتى تحوّلت صورتهما في بعض الكتب إلى "قطّاع طرق"، بينما هما في الحقيقة من أبطال المقاومة في وجه الاحتلال الفرنسي.

إنّ الدلائل على تحريف التاريخ اللبناني كثيرة لا تُعدّ، والمفارقة أنها لم تتوقّف عند الماضي، بل ما زلنا نشهد حتى اليوم محاولات تضليلية جديدة، تهدف إلى إعادة إنتاج السردية الإقصائية نفسها ما يشكّل عائقاً كبيراً وحقيقياً أمام قيام دولة المواطنة في لبنان. 

يحاول بعض اللبنانيين، ممن يمكن وصفهم بـ "المتأمركين" نسبة إلى خضوعهم التامّ للهيمنة الأميركية وانخراطهم الكامل في المشروع الأميركي، التأسيس لسردية تاريخية جديدة تقوم على تشويه وتحريف واحدة من أبهى وأهمّ الحقب في تاريخ لبنان: حقبة المقاومة.

هذه الحقبة التي جعلت من لبنان البلد العربي الوحيد الذي تمكّن من تحرير أرضه من الاحتلال الصهيوني من دون قيد أو شرط، وأسهم في كسر المسار الانهزامي الذي بدأ منذ نكبة عام 1948، مروراً بنكسة 1967، ووصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.

تسعى ماكينة إعلامية وسياسية نشطة إلى فرض سردية تقوم على مجموعة من الادّعاءات، أبرزها:

* أنّ المقاومة تخوض "حروب الآخرين" على أرض لبنان.

* أنّ حصر السلاح ونزعه هو السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان.

* أنّ المقاومة هي سبب دمار البلاد ونكباتها.

* وأنّ الشهداء الذين خاضوا معارك التحرير مثل: خالد علوان، وسناء محيدلي، ونزيه قبرصي، وسمير القنطار، ويحيى سكاف، ولولا عبود، وبلال فحص، وخليل جرادي، ومحمد سعد، وراغب حرب، وعباس الموسوي، وأحمد قصير، وغيرهم من المقاومين الأبطال، لم يكونوا أكثر من "مرتزقة" يعملون لحساب أطراف خارجية.

ويمتدّ هذا التشويه ليطاول السلاح الذي خاض معارك مشرّفة في خلدة، وصيدا، والجبل، والبقاع الغربي، والجنوب، وسطّر أروع صور البطولة في حرب "تصفية الحساب" عام 1993، و"عناقيد الغضب" عام 1996، وحرب تموز 2006، وصولاً إلى معركة "أولي البأس" عام 2024. إذ يُروّج أنّ هذا السلاح يجب أن يُنزع، بالرغم من دوره في حماية المدنيين، وردع العدو، وتحرير الأرض، واستعادة الأسرى، ومنع التوسّع الاستيطاني الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية.

ويُقدَّم خيار المقاومة، الذي أثبت فاعليته وجدواه، وكأنه خيار انتحاري يُهدّد الكيان اللبناني، لا وسيلة لحمايته والدفاع عن سيادته.

ولا يتوقّف التزوير عند هذه الحدود، بل يمتدّ إلى تشويه صورة القائد التاريخي الشهيد السيد حسن نصر الله، الذي استُشهد في مقره مدافعاً عن لبنان، وعن أمنه القومي، وعن قضايا الأمة في وجه التكفير والإرهاب.

فالألسن تتطاول على هذا القائد الذي حمل راية الدفاع عن الحرية والتنوّع في المشرق، واتخذ أشجع القرارات حين أطلق "التحرير الثالث" لطرد الإرهابيين من حدود لبنان، حفاظاً على نهائية كيانه في الوقت الذي كانت فيه حدود دول كبرى في المنطقة تتهاوى أمام التطرّف والإرهاب... 

السيد نصر الله، الذي رعى السلم الأهلي، وقدّم نموذجاً فريداً لمقاومة لا تتردّد في التواضع أمام شركائها في الوطن، رغم أنها شكّلت قوة إقليمية ذات تأثير واسع، حافظت على توازنات لبنان الدقيقة، ووضعت مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار.

تستمر هذه المحاولات مستفيدة من إمكانيات مادية كبيرة وتقنيات إعلامية متوفّرة ودعم سياسي كبير ما يضع لبنان مجدّداً أمام مخاطر تشويه تاريخه‏. 

ما يجري في لبنان اليوم هو محاولة لإعادة كتابة تاريخه على مقاس مشروع سياسي خارجي، يُقصي المقاومة ويُهمّش التضحيات، ويزرع الشكّ في رموزه وبطولاته.

إنّ هذه السردية المُشوِّهة، إذا لم تُواجَه، قد تنجح في زعزعة الهوية الوطنية الجامعة، وتُبقي اللبنانيين أسرى هوياتهم الطائفية والانقسامية. وهذا، في جوهره، هو العائق الأكبر أمام قيام دولة المواطنة والعدالة الحقيقية.

يبقى الرهان على من يمتلكون الجرأة ويبدون الاستعداد للاستمرار بفعل المقاومة على الجبهات كافة ومن أهمّها جبهة صيانة الذاكرة ومنع تزوير التاريخ.