من قتل نفساً.. فكأنما قتل الناس جميعاً
أين هم المسلمون والمراجع الدينية وكل من يؤمن بكتاب اللّٰه من هذا العدوان الصارخ المستمر على أنبل خلقه من الأرواح البرينة في غزة وفلسطين؟
-
لقد اتخذ الصهاينة من فلسطين مختبراً لما يمكن أن يفعلوه في باقي أقطار الأمة.
يقول اللّٰه تعالى عز وجل في كتابه الكريم: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. صدق اللّٰه العلي العظيم.
لماذا حذّر اللّٰه سبحانه وتعالى من قتل نفس واحدة واعتبر أن قتلها يعني قتل الناس جميعاً. لأن اللّٰه سبحانه وتعالى يحذر من الاستهانة بحياة أي إنسان، ويعتبر ذلك استهانة بحياة البشر جميعاً. كما أنه سبحانه يرى أن من قتل نفساً سيكون قادراً على قتل أعداد لا تنتهي من الأنفس.
والقاتل هنا ليس من يمارس القتل فقط، ولكن من يسلح ويموّل ويدعم القاتل، وأيضاً الساكت عنه مشارك أيضاً في القتل. كما أن قتل النفس الإنسانية والسكوت عنه يعنيان أن النفس البشرية حيثما كانت قد ماتت أيضاً لأن القبول بقتل نفس والسكوت عنه يعني موت الإنسانية في كل شاهد على هذا الجرم.
ولا ننسى هنا أن اللّه سبحانه وتعالى قد كرّم الإنسان، لأنه اعتبره خليفة له في الأرض. فقد خاطب جلّ جلاله الملائكة قائلاً: فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. أي إن العدوان على النفس البشرية هو عدوان على روح اللّٰه عز وجل.
والسؤال هو أين هم المسلمون والمراجع الدينية وكل من يؤمن بكتاب اللّٰه من هذا العدوان الصارخ المستمر على أنبل خلقه من الأرواح البرينة في غزة وفلسطين؟ ولماذا كل هذا الخذلان لأشرف وأتقى خلق الله؟
ما يوحي به كتاب اللّٰه عز وجل وما تثبته أحداث التاريخ هو أن قبول مبدأ قتل البشر يعني حكماً أنه لا أحد سيكون بمنأى عنه عاجلاً أم آجلاً. لذلك فإن دفن الرؤوس بالرمال لن ينجي أحداً من عواقب ما يحدث وسيدفع الجميع ثمن تقاعسهم عن ممارسة واجبهم الإنساني والأخلاقي في إيقاف ما نهى اللّه عنه، وبأقوى الأساليب وأنجعها.
إن جرائم القتل اليومية في غزة تملي على كل الناس في كل مكان ألا يهدأوا ولا يناموا ولا يذهبوا إلى بيوتهم ولا تتوقف صرختهم أبداً حتى يفرضوا وقف القتل وإنزال أقسى العقوبات بالقتلة المجرمين، والانتصار الأكيد والمستمر للمستضعفين والمظلومين.
فالظلم لا يعرف حدوداً جغرافية ولا إثنية ولا عرقية ولا دينية، بل يضرب حيث يستطيع ويجد ضالته في المستكينين والصامتين والمتخاذلين. في كل مرحلة تاريخية استهان البعض ببوادر خطر وتقاعسوا عن مواجهته بحزم من بداياته، استفحل بعد ذلك وكلّفهم أضعافاً مضاعفة من الأثمان، بعد أن تمكن منهم وشق صفوفهم وبعثر قواهم.
المقاومة لهذا الخطر ليست عسكرية فقط ولا تقتصر على بلد أو عرق أو دين، بل يجب أن تكون مقاومة شاملة متعددة الأوجه والأشكال. مقاومة هذا القتل، والتعبير الصارخ عن رفضه، والوقوف بحزم في وجهه، تمتد في كل الفضاءات الإنسانية التي يعرفها البشر: من الكلمة إلى الأغنية إلى المسرح والسينما والموسيقى والرياضة والموضة، وإلى كل نشاط بشري، لأن المقصود هو الدفاع عن الحياة الإنسانية بأغنى وأرقى تجلياتها. كل ما على وجه هذه البسيطة من نقابات ومنظمات وهيئات ومدارس وجامعات ومسؤولين وحكومات، مسؤولون مسؤولية مباشرة وتاريخية عما يجري في غزة وفلسطين. والمطلوب ليس فقط إيقاف الفتك بحياة البشر، ولكن أيضاً توثيق هذا الهولوكوست، كي لا ينسى العالم والأجيال المقبلة سجلات من استشهدوا وضحّوا وقضوا من أجل إعلاء الصوت ووقف العدوان الوحشي على الأرواح البرينة. وكي يأتي بالمجرمين لينالوا قسطهم من العذاب ولو بعد حين.
ولا بد أن يتناول التوثيق المفارقة الصارخة بين قيم الضحية والجلاد، لأن الصراع القيمي هو جزء مهم من هذا الصراع وأحد أسبابه التاريخية. في زحمة الإبادة الوحشية والتجويع الهمجي ينشغل الناس عن تسجيل مفردات صراع ثقافي وقيمي، هو جوهر هذا الصراع والغاية الإقليمية والكونية منه.
ذلك لأن إحكام القبضة على الموارد بعد الاستيلاء على الأرض، لا يمكن أن يتم إلا بعد تجهيل الناس من خلال احتلالهم فكرياً وثقافياً ولغويا وإعلامياً، قبل احتلال الأرض والسيطرة النهائية على مواردها. وما حلّ بالشعوب الأصلية في الأرض الجديدة والتي لم تكن جديدة على الإطلاق، وفي أستراليا، يجب أن يبقى ماثلاً أمام ناظري العرب، كل العرب، وفي كل اقطارهم.
على العرب أن يوثّقوا كيف استبسل الأطباء الشرفاء المقاومون في مشافي غزة وأبوا أن يهجروا مرضاهم، ودفعوا حياتهم أو السجن والتعذيب ثمناً لمواقفهم، كما فعل العشرات منهم وفي مقدمتهم الدكتور العربي الأصيل حسام أبو صفية وأحمد البصل وآخرين. كما أن عليهم أن يوثقوا حياة ومساهمات ألإعلاميين الشهداء، والذين ضحوا بأرواحهم من أجل نقل معاناة الفلسطينيين، وما يجري ارتكابه بحقهم إلى العالم، بعد أن منع المجرمون الصهاينة السماح للإعلام العالمي أن يدخل، كي يرتكبوا جرائمهم في الظلام وبمنأى عن أعين وضمائر البشر. لهؤلاء الفضل في وصول ما وصل من الصورة إلى العالم. كما يجب توثيق هذا الهولوكوست الفلسطيني بالأسماء والأرقام، لأن ما يجري لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ، بل هناك جولات وجولات مقبلة، ولا بد من إعداد العدة من اليوم كي لا نخسر الرهان في المستقبل.
أما بالنسبة إلى العرب في جميع أقطارهم فعليهم: مسلمين ومسيحيين ومن كل الطوائف والأعراق والأديان، أن يفهموا معنى هذه الآية بشكل حرفي وأن يتفكروا ليروا أن أول من فكر بمضمون الآية الكريمة هو سفاك أهلنا الأول في غزة بنيامين نتنياهو.
فهو قد خاض تجربة الإجرام الوحشي بحق أهل غزة المظلومين، ووجد أن أحداً من العرب لم يحرّك ساكناً، ولم ينتصر لأهله رغم مرارة ما يجري، وضرورة نصرة الواقعين تحت هذا الظلم عربياً وإنسانياً، ووفق كل الاعتبارات الطبيعية لبشر طبيعيين بعد هذا الخذلان العربي اللامعهود لأهل غزة وفلسطين، أعلن نتنياهو عن مخططه لـ"إسرانيل الكبرى" والذي نعرفه جميعاً، ولكنه أعلن عنه في نشوة شعوره بالانتصار، لا على أهل غزة، وإنما على العرب جميعاً، الذين برهنوا له أنهم غير معنيين بمستقبل شعوبهم وبلدانهم. فتجويع أطفال غزة حتى الموت، إهانة وأذلال لإنسانية كل إنسان، ولكن وبشكل خاص وصارخ لأهلهم وإخوانهم من الناطقين بالضاد، سواء فهم البعض ذلك أم لم يفهمه.
إن الذين يموتون اليوم ليسوا أهل غزة الذين صمدوا بكل شرف وإباء في وجه آلة احتلال واستيطان هي الأكثر وحشية وإجراماً في العصر الحديث، إنما الذي يموت هو الأمل بمستقبل أمة لا تدفع عن أبنائها أبشع ممارسات الظلم والقتل والتجويع.
لقد اتخذ الصهاينة من فلسطين مختبراً لما يمكن أن يفعلوه في باقي أقطار الأمة، إلا أن العرب أوهموا أنفسهم أو جرى إيهامهم أنَ هذا الصراع لا يعنيهم، وأنهم في منأى ومأمن منه، ولكنهم لم يفهموا من خلال تاريخ هذا العدو، أن هذا الوعد مرحلي فقط، إلى أن ينتهوا من هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة، ثم يديرون للعرب جميعاً ظهر المجنّ حين لا ينفع ندم ولا عمل؛ لقد فقد العرب جميعاً فرصة تاريخية ثمينة حين فشلوا أن ينتصروا لفلسطين وشعب فلسطين في غزة والضفة، وقد تكون لديهم اليوم وقبل فوات الأوان بقية فرصة، إذا ما أدركوا بعمق وبما لا يقبل الشك أن سياسة استرضاء العدو لن تجدي نفعاً، وأنه سوف يقودهم من منزلق إلى آخر أشدَ خطورة وأبعد أمداً، إلى ان يحقق كل غاياته، والتي لا تكتمل إلا بتحويلهم إلى هنود حمر المنطقة، وتحقيق خريطة ليس فقط "إسرائيل الكبرى" وإنما اتحاد الجمهوريات الإبراهيمية تحت سيطرة وهيمنة القوى الصهيونية.
حينذاك سيوقن العرب أنهم كلهم سواء في نظر أعدائهم، وأن العدو لم يعتبرهم يوماً بشرا متساوين معه في الإنسانية، مع أنه وعلى مسار قرن من الزمن، قدّم الدليل تلو الآخر على أنه لا يعتبرهم مساوين له كبشر. وحينداك سيدرك الجميع متأخرين جداً أن المقاومة أقل ثمناً من الاستسلام، وسيوقنون أيضاً أن الدفاع عن فلسطين لم يكن في جوهره إلا دفاعاً عن أنفسهم لو كانوا يعلمون.