نهاية الحرب على غزة.. لماذا الآن؟

ما الذي دفع ترامب لاستعجال إنهاء الحرب على غزة في هذا التوقيت؟ وما هي المستجدّات التي أجبرته على ممارسة سياسة الضغط القصوى لفرض خطته للسلام في غزة والمنطقة؟ 

  •  إنهاء الحرب في غزة في هذا التوقيت على أهميته ليس سوى الخطوة الأولى.
    إنهاء الحرب في غزة في هذا التوقيت على أهميته ليس سوى الخطوة الأولى.

إذا ما سارت الأمور وفقاً للخطة التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجرى تتويجها بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مدينة شرم الشيخ المصرية بحضور قادة وزعماء وممثّلي العديد من الدول الأوروبية العربية والإسلامية، وبموافقة معلنة وصريحة من قبل الحكومة الإسرائيلية وحركة المقاومة الإسلامية حماس، فإنه يمكن القول بأنّ الحرب الهمجية الإسرائيلية التي استمرت عامين على قطاع غزة قد انتهت أقلّه في المدى المنظور..

طوال عامين من تلك الحرب التي شهد فيها العالم جميع وسائل الإبادة والتدمير والقتل والتجويع بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة بدعم مطلق ومفتوح وفي أحيان كثيرة بتدخّل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وباعتراف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، وسلفه الرئيس السابق جوزيف بايدن، عجز العالم أجمع عن إيقاف آلة القتل والإرهاب الصهيونية على الرغم من الحراك السياسي والدبلوماسي والاستخباراتي المستمر، مبادرات كثيرة طرحت، وعشرات جولات التفاوض واللقاءات الثنائية والمتعدّدة الأطراف شهدتها العواصم العربية والإقليمية والدولية، إلى جانب العديد من المطالبات والمناشدات الصادرة عن المنظّمات الأممية والإنسانية والحقوقية، وجميعها فشلت في إقناع أو إجبار نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرّفة على وقف آلة القتل والدمار .

وقبل أيام، وخلال ترحيبه بالرئيس ترامب في الكنيست الإسرائيلي تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن السلام في داخل "إسرائيل" وفي المنطقة التزاماً منه برؤية ترامب للسلام وفقاً لخطته المعلنة والتي بدأ تنفيذها بتبادل للأسرى والجثامين، ووقف لإطلاق النار، وانسحاب "الجيش" الإسرائيلي إلى الخط المتفق عليه داخل قطاع غزة، ولقد بدا واضحاً أنّ نتنياهو أراد مغازلة ترامب والظهور أمامه بمظهر المطيع، وهو أي نتنياهو يدرك تماماً أنّ خطابه هذا يتناقض مع نهجه اليميني المتطرّف، كما أنّ إيقاف الحرب الآن يتناقض مع أهدافه المعلنة التي واظب على تكرارها طوال العامين الفائتين، فلا هو تمكّن من السيطرة على قطاع غزة، ولا تحقّق له حلم تهجير الفلسطينيين منه، ولا أنجز وعده بتصفية المقاومة الفلسطينية في القطاع، ناهيك عن الخسائر الكبيرة والمؤثّرة التي تلقّتها "إسرائيل" طوال الحرب عسكرياً وسياسياً..

ما بات مؤكّداً هو أنّ ترامب وافق مرغماً على خطة ترامب، وأنّ الأخير كان على عجلة من أمره لإنهاء الحرب في غزة مهما كلّفه الأمر وفي هذا التوقيت بالذات حتى لو اضطر إلى اللجوء للقوة في سبيل تحقيق ذلك وهو الذي تبنّى نظرية فرض السلام بالقوة إذا لزم الأمر، ولطالما لوّح بذلك علناً واستخدم عباراته الشهيرة للتعبير عنه "السلام أو الجحيم"، وهو مبدأ استخدمه مع خصوم بلاده وحتى مع حلفائها كسلاح لممارسة سياسة الضغط القصوى لتحقيق أهدافه سواء كانت سياسية أو اقتصادية ..

والسؤال الأهمّ اليوم: ما الذي دفع ترامب لاستعجال إنهاء الحرب على غزة في هذا التوقيت؟ وما هي المستجدّات التي أجبرته على ممارسة سياسة الضغط القصوى لفرض خطته للسلام في غزة والمنطقة؟

إنّ الإجابة عن ذلك يقودنا للحديث عن العامل الشخصي المتعلّق بترامب نفسه، وعن العوامل الاستراتيجية المتعلّقة بالصراع العالمي وعلاقته بملف الحرب على غزة.

فيما يخصّ العوامل الشخصية

سعى ترامب جاهداً منذ دخوله إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية على تقديم نفسه كرجل سلام على الصعيد العالمي، وادّعى لنفسه أدواراً بطولية منها ما لم يستطع تحقيقه كالسلام في أوكرانيا، ومنها ما هو مشكوك في صحته كالتهدئة التي تلت النزاع المسلّح بين الهند وباكستان، حيث ادّعى ترامب دور الوسيط الذي ساهم بوقف النزاع العسكري الأخير بين الجانبين، وهو ادّعاء نفته الهند، وأكّدته باكستان من دون تقديم دليل عليه، ووصل الأمر بالرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الادّعاء بأنه أوقف سبع حروب في ثمانية أشهر، ولم يُعلم حتى الآن ما هي الحروب السبع التي أوقفها !؟

اللهم باستثناء الحرب على غزة التي تحسب له بالفعل لكنها الثامنة وفقاً لادّعاءاته، وهي التي جمع لأجلها زعماء الدول الغربية والإسلامية في 23 أيلول/سبتمبر الفائت في واشنطن وعرض عليهم خطته للسلام من دون أن يترك لهم الخيار في مناقشتها في خطوة مفاجئة اعتبرت في حينها كسباق مع الزمن قبل الإعلان عن جائزة نوبل للسلام التي كان يتملّكه الجموح والطموح للفوز بها قبل أن تذهب لحليفة بلاده وزعيمة المعارضة الفنزويلية "ماريا كورينا ماتشادو" على الرغم من التأييد الواسع والمتعمّد الذي تلقّاه من قبل زعماء العديد من الدول الذين حاولوا إظهار التأثير بشكل أو بآخر على قرار لجنة جائزة نوبل لصالحه من دون جدوى، وحاولوا مواساته لاحقاً بعبارات التعظيم في قمة شرم الشيخ التي تحوّلت إلى ما يشبه الاحتفال برجل السلام الأول والأهمّ في تاريخ العالم على حدّ وصف المشاركين فيها، في ظلّ زهو وتبختر ونرجسية ترامب، الذي تحدّث طويلاً عن نفسه وإنجازاته قبل أن يتوجّه عائداً إلى بلاده حيث ينتظره مؤيّدوه وعلى الأخصّ في حركة ماغا التي دعمته كرجل السلام المناهض لحروب العولميين الليبراليين.

فيما يخصّ العوامل الاستراتيجية

لقد بات معلوماً بأنّ الحرب في غزة ومنذ انطلاق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 قد أعادت خلط الأوراق الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية حيث يشهد العالم صراعاً مستجدّاً منذ سنوات فيما يعرف بحرب الممرات التجارية البرية والبحرية وسلاسل توريد الطاقة، خاصة أنّ انطلاقة طوفان الأقصى جاءت بعد شهر تقريباً من الإعلان عن مشروع الممرّ الهندي الشرق أوسطي الأوروبي الذي يمتدّ من الهند إلى الخليج ومنه إلى الكيان الإسرائيلي وصولاً إلى أوروبا، حيث تعرّض هذا المشروع لنكسة كبيرة قبل انطلاقته بفعل طوفان الأقصى والحرب على غزة، في الوقت الذي كانت مشاريع أخرى منافسة تتقدّم على الأرض كمشروع ممر شمال- جنوب الذي يربط إيران بروسيا من جهة وبالهند من جهة أخرى، ومشروع ممر بحر الشمال الذي يمتد من الصين عبر المحيط الهادئ وصولاً إلى حدود روسيا البحرية الشمالية ومنها إلى أوروبا وربما أميركا وكندا في مرحلة لاحقة.

إنّ استمرار الحرب في غزة لعامين متتاليين إلى جانب الحرب المستمرة على الساحة الأوكرانية دفع بالدول الآسيوية إلى إعادة حساباتها الجيوسياسية، وفي مقدّمتها الهند التي تحوّلت إلى أحد أهمّ مستوردي النفط الروسي بأسعار تفضيلية، والأمر ذاته ينطبق على تركيا التي تستورد الغاز الروسي وكانت تطمح لأن تتحوّل إلى مركز إقليمي للغاز بدعم من روسيا، وبعد فشل قمة آلاسكا بين الرئيسين بوتين وترامب التي عقدت في منتصف آب/أغسطس الفائت في تحقيق اختراق على صعيد وقف الحرب الأوكرانية أدركت دول الشرق بأنّ التوجّه لمزيد من التقارب فيما بينها هو الخيار الأنجع لضمان اقتصاداتها وتجارتها في ظلّ غياب الحلول الجذرية لحربي غزة وأوكرانيا.

لقد بدا ذلك واضحاً في قمّة منظمة شنغهاي للتعاون التي عقدت في الصين في مطلع أيلول/سبتمبر الفائت وشهدت عقد لقاءات ثنائية ومتعدّدة كان أهمّها لقاء القمة الذي جمع زعماء الصين والهند وروسيا، والذي علّق عليه ترامب بالقول "إنّ أميركا خسرت روسيا والهند لصالح الصين"، ولقاء آخر جمع الرئيس الصيني جين بينغ مع نظيره التركي إردوغان حيث دعا فيه إردوغان إلى المواءمة بين مشروع الممر الأوسط الذي يربط تركيا بآسيا الوسطى عبر القوقاز  ومبادرة الحزام والطريق الصينية، وغيرها من اللقاءات التي شملت إيران وكوريا الشمالية وكلّها كانت محطّ أنظار دول الغرب الجماعي وعلى رأسه الولايات المتحدة، وسبق ذلك التوقيع على الاتفاقية الاستراتيجية بين روسيا والصين لإنشاء مشروع "قوة سيبيريا 2" للغاز التي طال انتظارها والتي من المتوقّع أن تغيّر خريطة الطاقة في العالم وتشكّل علامة فارقة في التخلّص من الهيمنة الغربية الأميركية..

يمكن القول بأنّ كلّ تلك التطوّرات الجيوسياسية أثارت غضب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وكان من المتوقّع أن تلجأ واشنطن لإجراءات فورية واستثنائية عاجلة لمواجهة تلك التحدّيات في إطار استراتيجياتها لاستمرار الهيمنة ومنع تحرّر دول الشرق ودول الجنوب العالمي من قبضتها..

جاءت الخطوة الأولى من واشنطن عبر حليفتها "إسرائيل" التي شنّت عدواناً جوياً على العاصمة القطرية الدوحة في محاولة وصفت بالفاشلة لاغتيال قادة حماس، والحقيقة أنه لا يمكن النظر لهذه الخطوة إلا كرسالة أميركية للشريك الهندي بأنّ واشنطن قد اتخذت قراراً عاجلاً لإنهاء الحرب في غزة، وأنّ على الهند إعادة حساباتها في التوجّه نحو الصين وروسيا والاستعداد لإعادة إحياء مشروع الممرّ الهندي بعد وقف الحرب في غزة الذي بات قريباً، ومارست واشنطن بالتوازي ضغوطاً على الهند عبر الإعلان عن اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية العضو في مشروع الممرّ الهندي  وباكستان عدوة الهند، إضافة إلى إعادة فرض العقوبات على الهند فيما يتعلّق بميناء تجابهار الإيراني الذي يشكّل مدخلاً للهند إلى ممرّ شمال - جنوب، وأيضاً عمدت واشنطن إلى تظهير تحالفها الاستراتيجي مع باكستان من جديد عبر قائد الجيش الباكستاني ورئيس الوزراء اللذين قابلا ترامب، وكلّ ذلك من أجل إخضاع الهند وترغيبها بإعادة الثقة بمشروع الممرّ الهندي الأوروبي عبر "إسرائيل" والذي يستوجب وقف الحرب في غزة، من هذا المنطلق فإنّ وقف الحرب في غزة يهدف إلى إعادة احتواء الهند من قبل الولايات المتحدة وحتى من قبل "إسرائيل".

من جانب آخر جاء تركيز واشنطن على تركيا التي استقبل ترامب زعيمها إردوغان وأشاد به مراراً، وشاهد العالم كيف سحب له الكرسي ليجلس عليه في مكتبه في البيت الأبيض، وكيف أجلسه إلى جانبه خلال لقائه بقادة الدول العربية والإسلامية في واشنطن، والإعلان عن اتفاقية بين الجانبين تتضمّن شراء تركيا للغاز من الولايات المتحدة بصفقة بلغت قيمتها 43 مليار دولار كبديل عن الغاز الروسي، فيما أوكل ترامب لإردوغان مهمّة إقناع حماس بالقبول بخطته للسلام في غزة، ومنح تركيا دور الضامن لاتفاق وقف إطلاق النار والمشاركة في القوة الأممية في غزة، كلّ ذلك من أجل وقف الحرب في غزة لمواجهة النهوض والتحالف الناشئ في الشرق والجنوب ضدّ الهيمنة الأميركية والغربية على العالم.

أخيراً؛ يمكن القول بأنّ إنهاء الحرب في غزة في هذا التوقيت على أهميته ليس سوى الخطوة الأولى من قبل الولايات المتحدة، وهي خطوة ليست كافية بالتأكيد لتحقيق استراتيجيتها في المواجهة، ومن المتوقّع أن يشهد الصراع العالمي المزيد من الفصول المتسارعة في ظلّ التحوّلات التي يشهدها العالم، وعلى الرغم من الضجة الإعلامية التي رافقت التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ فإنه من المبكر الجزم بنجاح خطة ترامب، وحتى لو نجحت مرحلياً فإنّ فشلها لاحقاً يكاد يكون حتمياً لأنها لم تعالج قضية إعادة الحقوق لأصحابها الفلسطينيين، ولتداخلها مع ملفات وساحات عديدة للصراع العالمي في الإقليم وخارجه.