الحقيقة تحت النار: غزة مقبرة غير مسبوقة للصحافيين

تجاوزت خسائر صحافيي غزة إجمالي ما تكبّده الجسم الإعلامي في العالم خلال الحروب العالمية والصراعات الكبرى في القرن العشرين. كيف تحوّلت غزة إلى مقبرة للصحافيين؟

في مساء 10 آب/أغسطس 2025، وبينما كان الصحافي الفلسطيني، أنس الشريف، يحتمي مع زملائه داخل خيمة أعدّت لمراسلي الحرب أمام بوابة مستشفى الشفاء في غزة، اخترقت السماء قذائف إسرائيلية حوّلت الخيمة إلى ساحة موت. 

في هذا الاعتداء استشهد الشريف رفقة 4 من زملائه على الفور. وسط فوضى الدم ودويّ الانفجارات، ظهر سؤال سيطارد ضمير الصحافة لسنوات لاحقة: كيف تحوّلت غزة إلى أخطر مكان في العالم على حياة الصحافيين؟

حرب تخطف حناجر الصحافيين بالأرقام

  • استشهد أنس الشريف رفقة 4 من زملائه
    استشهد أنس الشريف رفقة 4 من زملائه

استهداف أنس الشريف وزملائه ليس حادثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة دامية جعلت من العدوان المستمر على غزة الأكثر فتكاً بالصحافيين في التاريخ الحديث. فعلى مدار ما يقارب عامين تحوّلت غزة إلى كمين قاتل للإعلاميين. منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى نهاية تموز/يوليو 2025، وثّقت "نقابة الصحافيين الفلسطينيين" استشهاد 232 صحافياً وصحافية وعاملاً في المؤسسات الإعلامية على يد "جيش" الاحتلال الإسرائيلي. 

للمقارنة التاريخية، تجاوزت خسائر صحافيي غزة خلال أقلّ من عامين إجمالي ما تكبّده الجسم الإعلامي في العالم خلال الحروب العالمية والصراعات الكبرى في القرن العشرين. فقد امتدّت حرب فيتنام لعقدين وكلّفت حياة 63 صحافياً فقط، وأودت الحرب العالمية الثانية – وهي أعتى صراع عرفته البشرية – بحياة 69 صحافياً إجمالاً.

أما حرب البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي، بكلّ ما عُرف عنها من شراسة، فبلغ عدد الصحافيين الذين قُتلوا خلالها نحو 25 صحافياً على مدار 4 سنوات.

حتى الغزو الأميركي لأفغانستان بعد 2001 – والذي امتدّ عقدين – لم يصل بعدد ضحاياه من الإعلاميين إلى هذا الحدّ.

وعلى الجانب الآخر، فإنّ الحرب الروسية - الأوكرانية منذ العام 2022 حصدت أرواح أقلّ من 20 صحافياً في الميدان خلال أكثر من 3 سنوات.

هذه المقارنات تجعل حصيلة غزة استثناءً مرعباً: عدد ضحايا الصحافة هناك أكبر من مجموع ضحايا الصحافيين في الحربين العالميتين وحرب فيتنام وحرب أفغانستان معاً.

أسوأ حرب للصحافيين في التاريخ

  • يفوق متوسط عدد الصحفيين الشهداء في غزة شهرياً 13 صحفياً
    يفوق متوسط عدد الصحافيين الشهداء في غزة شهرياً 13 صحافياً

وفقاً لتحليل مشروع "تكاليف الحرب" التابع لجامعة براون، فإن ما يحدث في غزة حطّم كل الأرقام القياسية السابقة في سجل مآسي الصحافة. يؤكد التقرير أن الحرب على غزة هي "بكل بساطة أسوأ صراع شهده الصحافيون على الإطلاق"، من حيث عدد القتلى في صفوفهم. 

ويشير خبراء المشروع إلى أنّ متوسط عدد الصحافيين الشهداء في غزة يفوق 13 صحافياً شهرياً، وهي وتيرة فتك غير مسبوقة تجاوزت حتى المعدّلات المروّعة للحرب في العراق وسوريا في ذروتهما. 

وعبّر أنطوني بلانغر، الأمين العام للاتحاد الدولي للصحافيين، في خريف 2023: "هذه الوتيرة من سقوط الإعلاميين صدمت الصحافيين حول العالم بعمق، إذ لا أحد يمكنه مشاهدة العدد المتزايد من الزملاء القتلى من دون شعور متصاعد بالرعب".

إن المشهد اليوم أشبه بـمجزرة مفتوحة على أصحاب الأقلام والكاميرات. مقابر جماعية للصحافة وسط حرب يفترض أنها تخوضها دولة تدّعي الديمقراطية.

استهداف ممنهج لصوت الحقيقة

  • يرافق العدوان على الصحفيين حملة اتهامات إسرائيلية منهجية لتبرير قتلهم
    ترافق العدوان على الصحافيين حملة اتهامات إسرائيلية منهجية لتبرير قتلهم

يتفق مراقبون وحقوقيون على أنّ ارتفاع حصيلة شهداء الصحافة في غزة ليس مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل هو نتاج مباشر لاستهداف ممنهج. وثّقت منظمة "مراسلون بلا حدود" عشرات الحالات التي جرى فيها استهداف الصحافيين بشكل مباشر من قبل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بسبب عملهم الصحفي.

وتؤكّد المنظمة أنّ كثيراً من هؤلاء الشهداء ارتقوا بصواريخ وقذائف تعمّدت إسكاتهم أثناء تغطيتهم المجازر. أحد الأمثلة البارزة كان استشهاد حَمزة الدحدوح في كانون الثاني/يناير 2024 في إثر استهداف مركبته بشكل مباشر. كما تصاعدت الاعتداءات على مقار وسائل الإعلام المحلية في غزة، حيث تمّ تدمير ما لا يقلّ عن 48 مقراً إعلامياً بفعل القصف، بحسب "لجنة حماية الصحافيين " (CPJ).

ورافقت هذا العدوان حملة اتهامات إسرائيلية منهجية لتبرير قتل الإعلاميين. فغالباً ما تسارع سلطات الاحتلال إلى وسم الصحافيين الفلسطينيين بأنهم "إرهابيون متنكّرون" أو أنهم "ناطقون باسم حماس"، في محاولة لنزع الشرعية عن روايتهم. 

لكن تلك الاتهامات تقابل عادة برفض قاطع. إذ صرّحت مقررة الأمم المتحدة المعنية بحرية التعبير، إيرين خان، مؤخراً بأنها تشعر "بفزع عميق من التهديدات المتكررة والاتهامات" التي وجّهها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي للشريف قبل استشهاده، مشيرة إلى تنامي أدلة على أن الصحافيين في غزة يُستهدفون ويُقتلون بدعوى لا أساس لها "أنهم إرهابيون".

ويؤكد ذلك ما أوضحته لجنة حماية الصحافيين حين نبّهت – قبل اغتيال الشريف – إلى أنها تشعر بقلق بالغ على سلامته بعدما بات هدفاً لـ"حملة تحريض عسكرية إسرائيلية" صريحة.

اغتيال الحقيقة وسط غياب المحاسبة

  • "نقابة الصحافيين الفلسطينيين": استهداف الصحافيين سياسة ممنهجة تهدف إلى كتم صوت الحقيقة الفلسطينية

ما يحدث في غزة حرب على الحقيقة ذاتها بقدر ما هو عدوان على الأرض. فبينما يبرّر المسؤولون في كيان الاحتلال أفعالهم بأعذار أمنية، تصف المؤسسات الإعلامية والحقوقية الدولية ما يجري بأنه جريمة منظمة لإسكات الشهود.

"نقابة الصحافيين الفلسطينيين"، تعتبر استهداف الصحافيين سياسة إعدام ميداني ممنهجة تهدف إلى "كتم صوت الحقيقة الفلسطينية وترهيب الإعلاميين". هذه الجهات وغيرها تطالب منذ شهور بتحرّك دولي عاجل لحماية الصحافيين ومحاسبة من يقتلونهم، خصوصاً في ظل شعور بأن الإفلات التام من العقاب هو الذي يشجّع "إسرائيل" على المضي في هذا النهج.

إنّ غياب المحاسبة الدولية حتى الآن يبعث برسالة خطيرة. فمنذ بدء حرب الإبادة لم تُفتح أي تحقيقات جنائية جدية في مقتل هذا العدد الهائل من الصحافيين، رغم أن استهداف الإعلاميين جريمة حرب بوضوح القانون الدولي.

وقد تقدّمت "مراسلون بلا حدود" بالفعل بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية تتهم فيها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب ضد الصحافيين في غزة.

ومع ذلك، تبدو الإرادة السياسية العالمية خجولة، إن لم تكن غائبة، في مواجهة الوحش الإسرائيلي. وفي هذا الصمت الرسمي، تتوارى العدالة، ويتحوّل الصحافيون إلى أهداف حرة في مرمى النيران.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك