الدان الحضرمي: نبض التاريخ وإيقاع الروح
ليس مجرد غناء عابر بل فلسفة فنية عميقة وذاكرة تراثية حية. ما هو فن الدان الحضرمي؟
في قلب وديان حضرموت السحيقة، حيث يتعانق عبق التاريخ مع ترانيم الأصالة، يتردد صوتٌ يمتد تأثيره لأكثر من 500 عام. إنه فن الدان الحضرمي، ليس مجرد غناءٍ عابر، بل فلسفة فنية عميقة، وذاكرة حية، ودليلٌ على أن التراث الأصيل يمتلك القدرة على التجدد ومواكبة كل العصور.
"الدندنة" كفلسفة فنية
-
تبدأ جلسة الدان بمغني يهمهم بنغمات "دان.. دان.. دان"
يُقرّ الكثير من الباحثين أن فن الدان الحضرمي موغل في القدم، وتأتي تسميته من كلمة "الدندنة". هذا المفهوم يتجاوز مجرد الهمهمة ليُشير إلى الأصوات الموقّعة التي تشبه رنين النحل. وهو ما يتوافق تماماً مع فلسفة الأداء في الدان، حيث يسبق اللحنُ الكلمةَ.
تبدأ جلسة الدان بمغني يهمهم بنغمات "دان.. دان.. دان" ليخلق قالباً لحنياً، ثم يتم تركيب الكلمات والأبيات الشعرية على هذا اللحن. هذا التفاعل الفوري بين اللحن والشعر هو ما يمنح الدان حيويته وتجدده المستمر، ويجعله طَقساً فنياً فريداً يُعدّ امتداداً روحياً لوجود الإنسان على هذه الأرض، يعكس من خلاله وجدانه وعلاقاته بكل ما يحيط به.
الدان كـ"طقس إبداعي" ونقلة فنية
-
الدان ليس مجرد أغانٍ بل وسيلة للتعبير عن الروح الجمعية
يُحلل الفنان والمطرب، جابر علي، فن الدان بعمق، مشيراً إلى أن المنجز الفني الذي يتم إبداعه في الجلسة، يتحول عند الفنانين المحترفين إلى "أغنية موقّعة تتسم بروح الأداء الارتجالي". هذا ما يُظهر العلاقة الديناميكية بين الإبداع الشعبي والتصنيع الفني.
كما يُشير إلى اختلاف أشكال الدان، فالدان "السيؤوني"، نسبة إلى منطقة تدعى سيئون، يخرج من رحم الجلسة ويتسم بخصوصيته، بينما دان "الهبيش" المرتبط بالرقص، يجمع الناس في ساحة ويتلازم فيه الغناء مع الإيقاع الرباعي السريع.
ويضيف جابر علي أن الدان "السيؤوني" يتميز بكونه فناً "يعود بمستمعيه إلى عمق التجربة الشعورية الموسيقية العربية التي تمتد جذورها إلى عمق التاريخ العربي"، مؤكداً أن هذا الفن ليس مجرد أغانٍ، بل وسيلة للتعبير عن الروح الجمعية، ويقدم نفسه من خلال طقس خاص يميز أبناء حضرموت.
إيقاعات من الوادي والساحل والبادية
-
تتعدد أنواع الدان وأغراضه ما يعكس التنوع الجغرافي والثقافي لحضرموت
تتعدد أنواع الدان وأغراضه، وهو ما يعكس التنوع الجغرافي والثقافي لحضرموت، إذ لكل نوع إيقاعه وخصائصه التي تميزه وهي:
الريض: يتميز هذا النوع بهدوئه، وبطء إيقاعه، ومقاطعه الشعرية الطويلة. سُمّي بذلك لكونه يبعث على الراحة والطمأنينة، ويُقال إن إيقاعه الهادئ كان له تأثير على الإبل، فيجعلها "تريض" أي تهدأ. يكثر هذا النوع في وادي حضرموت وتحديداً حول سيئون.
الحيقي: ينسب هذا النوع إلى "الحيق"، وهي كلمة باللهجة الحضرمية تعني السهل، ويقصد بها سكان السهول الساحلية. يتميز الدان الحيقي بإيقاعه السريع ومقاطعه القصيرة، وينتقل من الساحل إلى الجبال والوديان. يزدهر في مناطق مثل وادي دوعن ووادي العين.
الهبيش: يتميز بإيقاعاته الأسرع من الحيقي. وهو مرتبط بالبادية الحضرمية، ويُستخدم في رقصة شعبية تُعرف أيضاً بـ"الهبيش" يشارك فيها الرجال والنساء في حلقة، يصفقون على إيقاع الأغنية.
فن الارتجال والمساجلة
-
تتسم جلسات الدان الحضرمي بقواعد صارمة وممتعة في آنٍ واحد
يُعدّ طقس الجلسة هو المحور الذي يدور حوله الدان. فجلساته تُعقد في محافل فنية واجتماعية، يشارك فيها المنشد (الداين) ومجموعة من الشعراء والجمهور. هذه الجلسة ليست مجرد أداء، إنما حوارٌ فنيٌّ عميق يُسهم فيه الجميع.
في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، يؤكد الناقد والمؤلف، جابر علي، أن الدان "شكل فني تُنفذ فيه جلسة مكونة من مجموعة شعراء، ومغنٍ، وملقّن، ومجموعة من محبي هذا النوع من الفن... هذا يعني أن طقس الدان حالة فنية خاصة يتم فيها الإبداع الارتجالي شعراً ونغماً".
وتتسم هذه الجلسات بقواعد صارمة وممتعة في آنٍ واحد، وهي:
التجديد المستمر: عندما يشعر الحاضرون بنفاد القوافي، يتم الانتقال إلى قافية جديدة، ويُعلن الشاعر ذلك بعبارة "خرجْ ذا فصل والثاني"، مما يُجدّد الحيوية ويُلهب حماس الجماهير.
الحس النقدي الفوري: يُشترط على الشعراء تجنب القافية التي سبقت، وفي حال وقع أحدهم في هذا الخطأ، يتم تنبيهه مباشرةً.
سفراء الدان: من حضرموت إلى العالم
-
الفنان الراحل أبو بكر سالم
على الرغم من قدمه، فإن الدان لم يبق حبيس الجلسات المحلية، ليتحول بفضل جهود فنانين كبار إلى فنٍ يلقى شهرة واسعة.
ويُعدّ الشاعر، عمر عبد الله بامخرمة (توفي عام 1545)، أحد أقدم من أرّخ له في أبياته الشعرية.
أما على مستوى التجديد والتسجيل، فيُعتبر الفنان الراحل، محمد جمعة خان (توفي عام 1963) أول من طوّع هذا الفن للموسيقى، مقدماً أغانيه في قالبٍ فنيٍّ مطوّر. وقد ارتبط محمد جمعة بعلاقة إبداعية مميزة مع الشاعر والملحن، حداد بن حسن الكاف، ليقدما معاً أعمالاً خالدة في هذا الفن.
لكنّ الدان اكتسب شهرته الأوسع في الجزيرة العربية والمنطقة على يد الفنان الراحل أبو بكر سالم.
فقد سجّل سالم الكثير من أغاني الدان في بيروت والقاهرة منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى ألبوماته الأخيرة، ليصبح بحق سفير الدان الحضرمي إلى العالم، ويُعَرّف به جمهوراً عريضاً تجاوز الحدود الجغرافية.
إضافة إلى هؤلاء، لمعت أسماء أخرى في هذا الفن، مثل الشاعر، حسين المحضار، والفنانين، كرامة مرسال، وعبد الرحمن الحداد، وغيرهم ممن أثروا هذا التراث.
الدان في العصر الرقمي: حفاظ وتجديد
-
نجح فن الدان في التأقلم مع العصر الحديث
نجح فن الدان في التأقلم مع العصر الحديث. فقد استمرت المساجلات الشعرية من دون توقف، لكنها انتقلت من المجالس التقليدية إلى الفضاء الرقمي. اليوم، تُعقد هذه المساجلات في أي وقت عبر المجموعات على تطبيقات مثل "واتساب"، ما يُظهر أن روح الارتجال والإبداع في هذا الفن لا تعترف بالحدود.
وفي إطار الحفاظ على هذا التراث وتجديده، يسعى منتدى "قل دان الثقافي" إلى تبنّي العديد من المهرجانات والجلسات، واستضافة نخبة من الشعراء والفنانين، وتكريم رواد الفن الحضرمي الذين ارتبط اسمهم بالدان الأصيل، مثل مغني الدان، محمد علي بامليص.
هكذا فإن الدان الحضرمي ليس مجرد فن للترفيه، بل طريقة حياة، وتعبير عن روح شعب، ومدرسة تُعلّم الوفاء للتراث وتُعزّز القيم الجمالية والإنسانية.
وأثبت الدان قدرته على التجدد والانتقال من القوالب التقليدية إلى العالم الرقمي، ليظل شاهداً حياً على أن التراث الأصيل لا يندثر، بل يتكيف مع كل عصر ليُعيد إنتاج نفسه، مُحافظاً على جوهره في زمنٍ قد تُنسى فيه الجذور.