تشابك الصور الفلسطينية في المخيلة الغربية
من اللاجئ إلى المقاوم ثم المبدع. كيف تتداخل صور الشخصية الفلسطينية في المخيلة الغربية؟
من هو الفلسطيني بالنسبة للغرب؟ سؤالٌ قد تجد له ألف إجابة، لكنها لن تكون مثلها في السابق. هذه الصورة تتغير بوتيرةٍ متسارعة، خصوصاً مع ارتفاع كثافة الأحداث ورسائلها، والصراعات التي تجري في سياقاتها.
الفلسطيني اليوم بالنسبة إلى الغرب كائنٌ حي يقاوم التشويهات والمعازل التي وضعت صورته فيها لسنواتٍ طويلة، كلاجئ لا وظيفة إيجابية لوجوده، أو كفاعلٍ لكن في سياقٍ سلبي يرتبط بالعنف وتعكير مزاج "السلام" الذي ترق القلوب الغربية عادةً لذكره، كما هو مؤكد بالممارسة.
تراكم طويل من الظروف والأحداث والجهود والتضحيات، أدى إلى تغيير هذه الصورة، التي باتت اليوم أكثر تنوعاً وإيجابية، مع انكشاف حقائق الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون من أجل حياتهم وأرضهم وحقهم، ومع انتصار سرديتهم المتصاعد، على 80 عاماً من الدعاية المضادة.
تتداخل مكونات الصورة الحديثة للفلسطيني في الغرب، وتبرز أبعادها الفنية والثقافية والجمالية، كما تبرز بما لا يقل جمالاً، الأبعاد النضالية والسياسية والاجتماعية التي تحكي قصة هذا الشعب.
هل الغرب حيادي في تلقي حقيقة الفلسطيني؟
-
كان إدوارد سعيد قد عبّر عن صدمته وغضبه من تهميش الفلسطينيين وإسكاتهم في الإعلام الغربي والخطاب العام
منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة في خريف 2023 وما تلاها، باتت وسائل الإعلام الغربية تواجه اختباراً قاسياً لقدرتها على تمثيل الفلسطيني كإنسان كامل، لا كرقم من حصيلة الشهداء.
في هذا السياق، نشرت "دار تايلور وفرانسيس" البحثية البريطانية في شباط/فبراير الماضي ورقةً بحثية بعنوان: "الإعلام الاعتيادي: تفكيك الإعلام الغربي التقليدي في تغطيته للحرب الإسرائيلية الإبادية على غزة 2023/2024"، فتحت فيها الباب على التقنيات الرمزية التي استخدمتها وسائل الإعلام الغربية لنزع الإنسانية من الفلسطيني أو تهميش صورته.
وفي تحليل الممارسات الإعلامية الملموسة التي تنتج العنف المعرفي، تتحدث الورقة نفسها عن أن ذلك "يُكمّل نتائج العديد من الدراسات التي وثّقت كيف أنّ الإعلام الغربي التقليدي، بما في ذلك مؤسسات ليبرالية كـ BBC ونيويورك تايمز، جنباً إلى جنب مع مؤسسات إعلامية يمينية حول العالم، قد لعب دوراً محورياً في إضفاء الشرعية على الردّ غير المتكافئ من قبل الدولة الإسرائيلية، عبر التحكم في مداخل الأخبار (gatekeeping)، وتكرار الأطر الخطابية الإسرائيلية، وحجب السياق التاريخي الاستيطاني - الاستعماري القائم، الذي أفضى إلى هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 التي نفذتها حركة "حماس" وحلفاؤها ضد إسرائيل".
وتضيف "قبل ما يقارب 40 عاماً، كان إدوارد سعيد قد عبّر، في كتابه (بعد آخر سماء) (1986)، عن صدمته وغضبه من تهميش الفلسطينيين وإسكاتهم في الإعلام الغربي والخطاب العام آنذاك. ورأى أن مشكلة إسكات التمثيل تعود جزئياً إلى رفض إسرائيل والولايات المتحدة رؤية الفلسطينيين أو أخذ مطالبهم بالعدالة وحقوق الإنسان على محمل الجد".
دراسة أخرى نشرتها أوكسفورد في مطلع أيلول/سبتمبر الجاري تحت عنوان: "الهياكل الجندرية في سرد الإبادة: دراسة حول نزع الإنسانية عن الرجال الفلسطينيين في الإعلام الغربي"، تكشف كيف يتم تمثيل "رجال فلسطينيين" في الإعلام الغربي كمجردين من الخصوصية، وتحجيمهم ضمن فئة مموّهة، "خائف/مقاتل/جثة أو موضوع خبري..."، كما لو كانوا أرقاماً، لا أسماء.
لاجئ، مقاوم، مبدع
-
المشهد خلال العامين الأخيرين شهد الكثير من التحولات تداخلت فيها مركبات الصورة الثلاثة: لاجئ، مقاوم، مبدع
وإذا كانت الصورة القديمة تسير في خط زمني افتراضي من اللاجئ إلى المقاوم ثم المبدع، فإن المشهد خلال العامين الأخيرين تحديداً شهد الكثير من التحولات، تداخلت فيها مركبات الصورة الثلاثة: لاجئ، مقاوم، مبدع. وهذا التداخل بدأ يظهر كمنتج لسرد جديد يعبر عن هوية مختلفة عن السابق.
الآن لم يعد اللاجئ ساكناً في حالةٍ سلبية، بل صار لاجئاً متحركاً، وهو كان كذلك بفعله النضالي، لكنه اتخذ معاني جديدة لحركته، فتحت فرصها أمامه وسائل التواصل والتطور التكنولوجي.
في المشهد الإعلامي المعاصر، لا يُعرض الفلسطيني كلاجئ بمفهوم السكون أو الانكفاء، بل كلاجئ يتحرك في الوسائط الرقمية، كسجين يعيش حالة تهجير دائم لكنه يحجز مكانه في شبكات التواصل والعرض في الغرب. الصور التي تُنشر من داخل غزة أو الضفة غالباً ما ترافقها وسائط صوتية أو شهادات صوت، أو فيديو مباشر، تمنح من كان يُعرض كضحية هامدة قدرة على الكلام، وعلى التمثيل الذاتي، وعلى إيقاف التضحية بالآخر.
في مشروع التصوير "لا لا للجدار: 20 عاماً خلف جدار الفصل العنصري" للمصورة الأميركية الفلسطينية، عائشة مرشاني، تُعرض صور فلسطينيين خلف الجدار، لكن كل صورة مصاحبة بمقابلة صوتية معهم، يروون تجاربهم وشتاتهم ومعاناتهم. وهكذا يتحوّل اللاجئ إلى راوٍ عن نفسه، لا يُعرض في حالة جامدة.
من السلاح إلى السرد الرمزي
-
بات المبدع الفلسطيني عنصراً أكثر بروزاً لدى الجمهور الغربي
في بعض التغطيات الغربية الحديثة، تتحول صورة الفلسطيني المقاوم إلى "شارح" للمقاومة، أكثر من أن يكون مجرد "منفّذ". قد يُعرض فلسطيني وهو يقرأ خطاباً، أو ينحت نصباً شعبياً، أو يمارس فناً احتجاجياً في شارع أو على جدار.
وقد أصبحت وسائل إعلام غربية عدة تروّج "مقاومة ثقافية" كبديل لصورة "العنف" البحت. لكن التحدي الذي يظهر هو أن بعض هذه التغطيات تميل إلى فصل المقاومة عن سياقها السياسي والجغرافي، فيُحوّلها إلى ظاهرة فنية أو ثقافية بحتة، يستهلكها الغرب كما يُستهلك "الفن المعاصر العالمي"، من دون أن يُدرك مشروعيّتها أو أن يربطها بالقوة الفلسطينية الحية.
في العقدين الأخيرين، ومع توسّع الإعلام الرقمي، بات المبدع الفلسطيني عنصراً أكثر بروزاً لدى الجمهور الغربي، سواء في الموسيقى، والسينما، والفنون البصرية، أو الأداء التعبيري.
هذا الحضور لا يكافئه الإعلام السائد دائماً، لكنه يفرض نفسه بالتجربة المختلطة التي تجمع بين الفن والسياسة والهوية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
بهذه الطريقة، لم يعد المبدع الفلسطيني مجرد مبدع من "الهوامش" أو من "القضية"، بل بات فاعلاً ثقافياً يفرض نفسه في تجليات الفن العالمي، ويُجبر المتلقي الغربي على أن يُعيد ضبط نظرته للفلسطيني خارج قيود الرمزية، وضمن آفاق التجربة الإنسانية والاستمرارية.
وتكشف التجربة الإعلامية الغربية الحديثة أن الصورة الفلسطينية باتت تشكل حقلاً من التشابك، والصراع، والاختلاف، وهي لم تعد قادرة على التكرار، حيث لا يكفي أن تعرضه كضحية أو مقاوم أو فنان فقط. إن ما يتبلور اليوم هو الصورة التي تحترف التمازج، التي ترى الفلسطيني بكل تناقضاته، من الشتات إلى الحلم؛ ومن الجرح إلى الإبداع؛ من الكوكب المفتوح إلى الغرفة الضيقة حيث يُكتب مشروعه الخاص.
كما أن الضغوط الثقافية، والتمرد النضالي والصحافي، وتداخل الفنون مع الكفاح، والمبادرات الرقمية تُضيء طريقاً جديداً، يقود نحو تمثيل فلسطيني متحرّر، حيث يُرى الفلسطيني كمَنْ هو، لا فقط كمَنْ يُمثِّل.