زياد الرحباني.. رحيل لا يمحوه دمع أو حزن

ضيّق زياد الرحباني المسافة بين الفنّ والحياة، جاعلاً الخشبة والشارع منصّة واحدة تتجاور فيها مفارقات العلاقات بين اللبنانيين كأفراد فشلوا في تحصيل المواطنة في نظام سياسي واقتصادي عبارة عن إدارة خوف وبؤس.

  • زياد الرحباني
    زياد الرحباني

يُجمع اللبنانيون على تقدير ومحبّة زياد الرحباني مع أنّه الساخر الصارم بحقهم، ومطلق ضحكاتهم التي تبكيهم على حالهم كمواطنين أضناهم البحث عن وطن بين الأوهام، حيث فرادة لبنان هي في فرادة زياد الرحباني، المواطن "العضوي" الأوّل، والمثقّف الموقف، وفرادة لغته في المسرح والأغنية والحياة، شكّلت معاً وطناً موازياً لوطن موهوم في الواقع. هكذا ينتشي اللبنانيون حين ينتقدهم زياد، ويحفظون نصوصه عن ظهر قلب، ويردّدون مقتطفات منها كخلاصات تختصر حوارات في الاجتماع والسياسة وربما أكثر.

لم ينجُ اليمين ولا اليسار في لبنان من نقد زياد الرحباني، وهو في الحالين نقد بنّاء. نصّ والده عاصي وعمّه منصور شكل لزياد الرحباني طوال الخطّ مادة دسمة من المفارقات بين وطنين. واحد مشتهى، والآخر، الواقعي، على النقيض. من لبنان، الفندق في "نزل السرور" الذي يغلي بالثورة والفوضى إلى "بالنسبة لبكرا شو" حيث السؤال اللبناني الأزلي عن المصير، وصولاً إلى "فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل" المستمرّين الآن تأكيداً على استشراف زياد الرحباني حتّى حين يغوص بكشف الماضي.

وُلد زياد في رحم المؤسسة الرحبانية الفيروزية، حيث التأثّر بديهي،ومُحفّز، حرّض زياد بلا ريب. لكنّ خطاه منذ البداية كانت مستقلّة، وتمرّده على نصّ الأب حقيقي أيضاً لا رجعة فيه. لكنّه ليس انتقاماً أوديبياً، وأقرب إلى حوار صاخب بين أجيال. والاختلاف بين نصّ زياد ونصّ الأخوين، هو ما يتّفقان عليه حول الدور السياسي للمسرح، وللفنّ عموماً. 

خشبة عاصي ومنصور الرحباني، واكبت صعود الشهابية الثرية بعناوينها الإصلاحية، وزياد شهد أفولها الجارح للصورة الرحبانية الرومانسية المغسولة أحياناً، تحت أزيز رصاص الحرب الأهلية 1975، الوقت الحقيقي الذي تبلورت فيه الظاهرة الزيادية، والتي لم تفترق عن الأخوين وحدهما، بل عن السائد في المحلّي، وفي الفضاء العربي عموماً.

ضيّق زياد الرحباني المسافة بين الفنّ والحياة، جاعلاً الخشبة والشارع منصّة واحدة تتجاور فيها مفارقات العلاقات بين اللبنانيين كأفراد فشلوا في تحصيل المواطنة في نظام سياسي واقتصادي عبارة عن إدارة خوف وبؤس. "مسرح جريمة" يعاد تمثيلها كما يقول زياد، تاريخ يراوح في الطين استدعى معاول كلام "فجّ وواقعي"، صنع وعياً، ثقب جداراً عازلاً بين اللبناني ولبنانيّته، وكشف عن مأزق حياة مواطنيه ووحدتهم حول الانقسام، عن الطائفية طاعون العقل والبلد، عن عدوّهم في ذواتهم، وعلى الحدود.

قلّة من الفنّانين والمثقّفين يستطيعون مطابقة القول بالفعل، أو ألا يهادنوا كما فعل زياد الرحباني. زكريّا، رشيد، نور، ليست شخصيّات مخترعة، أليفة لا مؤلّفة، تُضحك كثيراً ومؤلمة أكثر، لا تحتكر بطولة على خشبة أرادها زياد بلا كومبارس، كأساً ينضح بما فيه، لا تعرية بقدر ما هو تصوير وتسجيل حيّ لعيش اللبنانيين وأفكارهم وهواجسهم وجدالهم، الدكتور شريك علّة مع مريض، والمثقّف الشاعر الكاتب الصحفي الفنّان، وإن كان حاضراً فهو غائب الموقف، يطارد "سنونة هوت على الرماد".

أفجعه زياد اليمين اللبناني الحاكم في الجمهورية الأولى، رأى في خطابه "خازوقاً" يمزّق خطابه اللامنطقي، في السياسة والاقتصاد وحتماً في مفهوم العدالة. 

في برنامج "بعدنا طيّبين قول الله"، اشتعل خطاب زياد الرحباني بمواكبة اشتعال الحرب، حطّم مقولات ومزاعم عن القوّة في الضعف، والحرّية في ظل التمييز. عن أنّ لُبنان يمكنه عدم الانحياز فيما مواطنوه منحازون، عن تقليد النعامة بوضع الرأس في الرمال، وعلى حدود الجمهورية مُغتصب طامع بمزيد من الاغتصاب.

أدرك زياد بديهية عدم إمكانية بناء دولة على حدودها دولة خرافية لا حدود لها. المقاومة خيار إنساني لا يحتاج تشريعاً أو دعوة. وموقع زياد بين المقاومين سياق طبيعي شكّل موقفه من "حزب الله"، لم يتشيّع كما أُشيع، وهو العلماني الصارم. ركز نقده على اليمين بوصفه وجه النظام اللبناني وفلسفته التي تقدّم الشكل على المعنى، بدل العمل من أجل وطن ومواطنين، في حين أنها بنت حظائر للعصبيّات العمياء، وصدحت بالسيادة من حضن "الأمّ الحنون" فرنسا، الذي انتقل الآن من باريس إلى واشنطن "الحنونة أكثر".

امتدّ تأثير زياد الرحباني إلى المحيط العربي بنسب متفاوتة. السوريّون جمهور زيادي كما اللبنانيون، لكنّ معظم مثقّفيهم لم يفصحوا عن حزن معلن، ولم يشاركوا في وداع من أحبّوا. خيانة للوعي، سمة المثقّف العربي الذي لا ينحاز لقضايا الناس، للمعرفة، للعدالة، للكرامة في عصر يطغى فيه الإنسان على أخيه الإنسان، بقتله بالتجويع في غزّة، أو بقطع رأسه بعد حلق شاربيه في الشام.

إنه خوف إنساني مستحقّ، لكنّه عار يمسخ الثقافة من وجهة نظر أخرى. المفارقة أنّ رحيل زياد الرحباني كاشف كما حياته، يعيد النضارة إلى أسئلة انزوت لكثرة ما كرّرت في العدم. دور المعرفة مطلوب لذاته، في زمن يستشرس فيه المستعمر في أرض فلسطين، بينما المثقّف العربي واقع في "بحيرة" أو بالحيرة من أين يبدأ، تكبّله وظيفة هنا، أو غريزة هناك، ناطق التحق بحاشية الساكتين في قصر سلطان أخرس. 

كما في المسرح، كان زياد مُؤسّساً في الموسيقى العربية. شجاعته بالقول على الخشبة تزداد حميمية وحرّية في الهارمونيا، لا يوازيه موسيقي آخر من جيله. سيّد درويش وعاصي ومنصور من بين قلّة المبتكرين، تركوا مساحة لزياد ليقف بجانبهم. موسيقى الجاز مد من قمح أفريقيا، من ذهبها الخالص، لم تكن غريبة في شارع الحمراء بسرحانها مع زياد، مدى قابله مدى، لم يخترها كتنويع برّاني، بقدر ما جذبه تراكم غناها كموسيقى وفكر، كسرها الهيمنة العنصرية على الثقافة والفنّ، احتجاجها، احتمالاتها، الارتجال، رحاب في الأصل انطلقت منها موسيقى زياد، "شرّق ما تغرّب"، جمع آهات ملوّنة بثقافات الشعوب وعطرها.

من الصعب الكتابة عن زياد الرحباني بصيغة الماضي، فلا نعش يتّسع لذاكرة. "ملك الساحة اللبنانية" خاصم العرش، عاش حياتنا وعشنا معه، زهده برّاق وهو القادر، أرعبه الفقر واحتقر المال، احترم قيمة القانون ودان السلطة. سياسي "مع الشعب المسكين" على عكس السياسيّين، لم يوفّر اشتباكاً لأجل فكرة أو حقّ، لم يتنازل، مرارة رحيله لا يمحوها دمع أو حزن.

اخترنا لك