فكرة "الطرد" في الأعراف والتقاليد الشعبية في اليمن

حمل السلاح في اليمن يعدّ جزءاً من الهوية الشعبية ويستخدم غالباً في النزاعات، وقد يؤدي إلى القتل العمد أو الخطأ. كيف تتعامل الأعراف القبلية مع بعض الحالات كالقتل خطأ؟

تمثّل عادة حمل السلاح بنوعيه الناري والأبيض، مكوّناً مهماً من مكوّنات الزي الشعبي في اليمن. وعلى ذلك، فإنه يبقى محتفظاً بوظيفته الجوهرية، المتمثلة في استخدامه أثناء مواجهة الخصوم في ما بينهم. 

وفي هذه الحال، قد يسفر استخدامه عن إصابة الخصم، أو القضاء على حياته عمداً أو خطأً. إذ ليس بالضرورة أن يكون مستخدم السلاح، قد بيّت النية والقصدية في إقدامه على قتل خصمه، ولا سيما حينما يأتي القتل في مشاجرة عابرة، أو نتيجة تهديد وصل بالأمر إلى اقترافه. وهو ما تتعاطى معه الأعراف الشعبية، بصفته الجوهرية قتلاً عن طريق الخطأ. لذلك تسقط عليه ما يمكن إسقاطه من ضوابطها. 

الأمر نفسه، هو ما تسقطه هذه الأعراف على أحوال القتل، الذي لا يأتي نتيجةً لمواجهة خصم من الخصوم، وإنما نتيجة خطأ، أفضى إلى إزهاق روح شخص ما.

الطرد تشريداً

  • يؤسس العرف القبلي لإجراءات العفو في أحوال القتل الخطأ
    يؤسس العرف القبلي لإجراءات العفو في أحوال القتل الخطأ

على أية حال، يعدّ القتل في السياقات القانونية والتشريعية والعرفية، جريمةً تقع المسؤولية فيها على من أقدم عليها عمداً أو بغير عمد.

وإن كانت الأعراف القبلية، قد فتحت نافذة محدودة للصلح والعفو عن الجاني، في أحوال القتل العمد - بصيغة يوافق عليها أولياء الدم - فإن هذه الأعراف قد فتحت نافذةً أوسع، للصلح والعفو في أحوال القتل الخطأ.

يؤسس العرف القبلي لإجراءات العفو في أحوال القتل الخطأ، بصيغة متسقة مع خصوصية هذه الأحوال. ومن ذلك ما يرتبط منها ارتباطاً رئيساً، بحادثة يقتل فيها أحدهم - بشكل أو بآخر - في حال من الأحوال العادية الفردية، من مثل أن تتسبّب في القتل مشاجرة لا نية فيها لاقتراف هذه الجريمة، أو حدث فيها خطأ غير متعمّد.

في هذه الحال يحاول الجاني عرض الدية العرفية، على أولياء الدم، الذين يمنحهم العرف القبلي الحقّ في قبول هذا العرض أو رفضه. 

وفي حال رفضهم؛ فإن هذا العرف القبلي نفسه ينزع منهم الحقّ في تنفيذ القصاص، الذي تقرّه الأحكام القضائية، ويفرض عليهم قبول الإجراء العرفي المتمثّل في فكرة "الطرد"، التي تلزم أهل الجاني بطرده من المنزل، وإجباره على التشرّد فترةً زمنية تقرّها الأعراف؛ بناءً على صيغة من التوافق الخاص بشأنها. 

وخلال هذه الفترة المقرّة، يمنح العرف القبلي أولياء الدم الحقّ في متابعة الجاني المشرّد والبحث عنه، فإن ظفروا به، عليهم أن يطلقوا عليه 3 طلقات نارية فقط، إما مجتمعة، وإما متفرقة، فإن تمكّنوا بها من إصابته وقتله، فإنهم بذلك قد أخذوا ثأرهم. وإن لم يتمكّنوا، ونجا من الطلقات النارية الثلاث ــ هذه التي لا يسمح بتجاوزها ــ يسقط حقهم في الثأر، كما يسقط حقهم في الدية. 

وبذلك، لا ضير من عودة الجاني المشرّد إلى بيته وأهله محمياً بهذا العرف، الذي يضع محاولة الاعتداء عليه، في سياق ما يعرف بعيب "الصحبة". وهو عيب كبير، يستوجب إنزال العقوبة، بمن حاول الاعتداء على ذاك الشخص، سواء تمكّن من قتله أو لم يتمكّن.

ولا شكّ في أن هذه الإجراءات الدقيقة الخاصة بهذا العرف قائمة على رؤية استشرافية لما يمكن أن يحدث، بدءاً مما تضعه من إمكانيات تسوية الأمر، من خلال محاولة استرضاء أولياء الدم ليقبلوا بالدية العرفية، مروراً بمنحهم الحقّ في رفضها مع مصادرة حقّهم في القصاص حتى وإن كان مقرّاً في التشريعات القضائية، ثم إلزامهم بقبول فكرة "الطرد" المقننة بعدد محدود من الطلقات النارية، التي يمكن من خلالها أخذ الثأر منه، وصولاً إلى تبنّي حمايته بقوة الأعراف والتقاليد الشعبية؛ التي لا تطلق أيدي أولياء الدم في حقّ النيل منه.

الطرد انتقالاً لا رجعة فيه

  • يمنح العرف القبلي أولياء الدم الحق في متابعة الجاني المشرد والبحث عنه
    يمنح العرف القبلي أولياء الدم الحقّ في متابعة الجاني المشرّد والبحث عنه

يتجلّى نوع من التطوّر في هذا النسق من الأعراف اليمنية المتعلقة بفكرة "الطرد"، ولا سيما في بعض من أرياف المناطق الوسطى، التي اتسع فيها؛ ليشمل إمكانية نيل الجاني الحماية، ليس من خلال طرده وتشريده ــ حينما يفشل أولياء الدم في النيل منه، فيعود محمياً بقوة العرف القبلي ــ وإنما من خلال التطوير التفصيلي في آلية الطرد. إذ نزعت هذه الآلية من فكرة "الطرد" ما يتعلّق منها بتشريد الجاني، وما يتعلّق بحقّ أولياء الدم في البحث عنه والقضاء عليه، كما نزعت الآلية نفسها من هذه الفكرة إمكانية عودة الجاني إلى منزله.

تقوم هذه الآلية التطويرية على محاولة التفاهم مع أولياء الدم، حول إمكانية تخفيف العقوبة على الجاني، من خلال قبولهم بمبادرة، تتقدّم بها وساطات قبلية، ذات ثقل ووجاهة اجتماعية، يقترحون فيها العفو مقابل أن يطرد الجاني من المنطقة كلها. إذ ينتقل للإقامة في منطقة بعيدة بما يكفي لأن ينقطع عن بلدته، وعن مصادفة أي فرد من أولياء الدم، أو من أبناء منطقتهم.

التمايز بين "طردين"

  • تختلف فكرة
    تختلف فكرة "الطرد المقترن بالانتقال" عن فكرة "الطرد المقترن بالتشريد"

تظهر مسارات التطوير، في آلية فكرة "الطرد"، ضمن صور من المدخلات الإجرائية، التي تضفي على هذه الفكرة نوعاً من التمايز، الذي أفضى إلى تأطيرها في محورين اثنين. الأول هو "الطرد المقترن بالتشريد وتبعاته"، والثاني "الطرد المقترن بالانتقال إلى منطقة بعيدة".

وتتميّز فكرة "الطرد المقترن بالانتقال" عن فكرة "الطرد المقترن بالتشريد"، في أنّ من حقّ أولياء الدم فيها أن يقبلوا فكرة "الطرد" أو يرفضوها. فإن رفضوها، فلا ينزع منهم حقّهم في القصاص، الذي تقرّه الأحكام القضائية، ولا يلزمون بتتبّع الجاني لنيل الثأر منه.

ومن خلال هذا التمايز، تتجلى الإحالة على ماهية هذه المدخلات الإجرائية، وما يتعلق بها من إعطاء أولياء الدم الحرية الكاملة، في أن يتخذوا القرار الذي يرغبون فيه، من خلال 3 خيارات لا انتقاص منها: الخيار الأو أن يتخذوا قرار العفو الكامل عن الجاني من غير فكرة "الطرد"، سواء بني هذا العفو على دية يقبلون بها، أو بني على موقف تسامح لا اشتراط فيه. والخيار الثاني أن يتخذوا قرار العفو المنقوص، المبني على قبولهم بـفكرة "الطرد المقترن بالانتقال" إلى منطقة بعيدة. والخيار الثالث أن يقرّروا الاحتكام إلى القضاء؛ لنيل القصاص من الجاني.

كما تختلف فكرة "الطرد المقترن بالانتقال" عن فكرة "الطرد المقترن بالتشريد"، في أنّ الأولى قد حلت فيها - محل التشريد وتخلّي الأسرة عن الجاني - عناية أسرته به، وعملها على تأمين مكان إقامته الجديد، واضطلاعها بتوفير مصدر رزق له ولعائلته، ومتابعتها حاله حتى تستقيم أموره. وكلّ ذلك مما لا مجال فيه لأن يعترض أولياء الدم عليه؛ إذ يعدّ من أسس قبولهم بفكرة "الطرد المقترن بالانتقال".

كذلك تتميّز فكرة "الطرد المقترن بالانتقال"، بموقف الجاني نفسه، الذي يتداعى معها بصورة مخلصة؛ حيث تظهر عليه قناعته الكاملة بمغادرة مسقط رأسه إلى مكان بعيد، كما يظهر عليه التزامه بذلك التزاماً حرفياً، وعدم عودته إلى منطقته إلا في أحوال نادرة، يجب أن تكون فيها زيارات مقتضبة محدودة، لا يلتقي فيها بأحد من أبناء القرية؛ إذ تقتصر فقط على عدد محدود من أسرته، ويحرص فيها قدر الإمكان على أن تظل في نطاق الممكن من السرية، ليس خوفاً من ردة فعل أهل المجني عليه فحسب، وإنما استشعاراً منه لنوع من الأنفة، التي تفرض عليه ألّا يعرّض نفسه لانتقاص كرامته، إن لم يلتزم بما ألزم به.

وبذلك، يصير انقطاع الجاني عن مسقط رأسه وانتقاله من منطقته إلى منطقة بعيدة حتميةً لا تراجع فيها؛ إذ لا تتعلق هذه الحتمية بأهله أو بأولياء الدم فحسب، وإنما تشمله هو، من خلال تصالحه مع واقعه، الذي يتعايش فيه مع مصيره الجديد، ويوطّن نفسه عليه، ويشقّ فيه طريقه، وتنمو فيه عائلته، كما ينمو فيه مصدر رزقه، ويصبح أبناؤه وأحفاده، بعد وفاته، جزءاً رئيساً من البنية الاجتماعية، السائدة في المكان الذي تشكّل فيه مصير جدّهم الأول. 

اخترنا لك