محمود فرشجيان: حين تنطق المنمنمة بلغة الروح الفارسية

لفهم فرشجيان، يجب أن نرى الإيراني كما يراه هو: كائن يعيش بين ذاكرة الإمبراطوريات المندثرة وجرح الحاضر، بين كبرياءٍ نحته الشعر وحزنٍ صقله التاريخ.

  • محمود فرشجیان (1930 – 2025)
    محمود فرشجيان (1930 – 2025)

منذ أيام قليلة، انطفأت يد محمود فرشجيان (1930 – 2025) التي كانت تخطّ الضوء على قماشة الليل. رحل الجسد وبقيت المنمنمات، كما لو أنّ الفنان الإيراني غاب ليترك أرواحه الملوّنة معلّقة في الهواء، تمارس حياتها الخاصة بيننا. فلوحاته ليست تذكاراً من الماضي، بل جمراً حياً في ذاكرة فارس، يواصل توهّجه كلما نظر إليه عاشق جمال أو باحث عن المعنى.

في ذاكرة الفن العالمي، يطلّ اسم محمود فرشجيان كما تطلّ من نافذةٍ عالية زهرة رمان يانعة، محاطة بظلّها وعبيرها في آن. لم يكن مجرّد رسّام منمنمات، بل معماراً لفضاء رمزي يُعيد ترتيب العلاقة بين العين والنص، بين الحبر والحلم. 

وُلد الراحل عام 1930 في أصفهان، مدينة تبدو كما لو أنها قصيدة معمارية حُفرت على قباب المساجد ومرايا البازارات، حيث الألوان ليست مجرّد صباغة، بل رسائل مغلّفة برائحة الورق المصقول وحرارة الذهب المطحون.

أخذ فرشجيان عن أساتذته تقنيات المنمنمة الكلاسيكية، لكنه سرعان ما نحت لنفسه مساراً يُشبه انشقاق النهر عن مجراه ليبتكر ماءه الخاص. في لوحاته، تتحرّك الخطوط كما تتحرّك الجملة الشعرية في فضاءٍ خالٍ من علامات الترقيم، وتتخذ الأجساد وضعيّات مسرحية لا تعرف الجاذبية، فيما الخلفيات تنصهر في ضباب لونيّ يذيب الحدود بين اليقظة والهذيان. اللوحة عنده لا تُزيّن نصاً، بل تصبح نصاً مضمراً، قادراً على أن يُقرأ بعيون لا تعرف لغة الفارسية، لكنها تفهم لغة البهاء.

سيمياء اللون والشكل

وجوه شخصياته ليست ملامح فردية، بل أيقونات لرحلة داخلية. عظام الوجنة المرتفعة، العيون المتسعة، الانحناءات التي تلتف حول ذاتها - كلها إشارات تشبه علامات الترقيم في جملةٍ بصرية كتبها فرشجيان بحبر الروح. الطيور المرفرفة ليست طيوراً بل كلمات عن الحرية، والأحصنة الجامحة ليست أحصنة بل هي أفعال مضارعة للحلم، والدوائر النورانية التي تحيط بالأجساد هي أقواس اقتباس تحتضن الكلام الصامت.

يُشبه الأزرق عنده ذاكرة مغموسة في ماء بارد، فيما يشتعل الذهبي كجملة افتتاحية للشمس، أما الأحمر فليس إلا قلباً يخفق خارج القفص الصدري. هكذا تتحوّل اللوحة إلى قاموس مشاعري، حيث كل لون تعريف، وكل خط فعل.

المنمنمة الإيرانية: ذاكرة مسطّحة، روح مرتفعة

نشأت المنمنمات في المخطوطات الشعرية كأنها هوامش مضيئة على جسد النص، بلا ظلّ، بلا وزن، محكومة بإيقاع مسطّح يجعل المشاهد يواجه المطلق مباشرة. من هرات إلى أصفهان، حملت هذه الأعمال وظيفة مزدوجة: زخرفة الروح وتشفير المعنى.

فرشجيان ورث هذه اللغة، لكنه أضاف إليها حركة الزمن. المشهد عنده لا يتجمّد في لحظة، بل يتسرّب منها. الإطار ليس حداً بل نافذة، والعين لا تتوقّف عند الحدود الذهبية بل تعبرها نحو فضاء مفتوح.

سيكولوجيا الجمال الفارسي

لفهم فرشجيان، يجب أن نرى الإيراني كما يراه هو: كائن يعيش بين ذاكرة الإمبراطوريات المندثرة وجرح الحاضر، بين كبرياءٍ نحته الشعر وحزنٍ صقله التاريخ. هنا تتولّد حساسية تقدّس التفاصيل، وتلجأ إلى الرموز كما يلجأ الجرح إلى الضماد.

الأجساد الممدودة نحو الأعلى في لوحاته ليست حركة جسدية فحسب، بل استعارة لرغبة الشعب في الإفلات من ثقل الجغرافيا والزمان، والتحليق في فضاءٍ تتساوى فيه الذاكرة مع الخيال، كما لو أنّ كلّ فارسٍ داخله ما زال يمتطي حصاناً من ضوء، يعبر به من صفحة الشاهنامة إلى سماء لا تُقاس.

اخترنا لك