أم كلثوم "التي لا يعرفها أحد"
لم تكن أم كلثوم مجرّد مطربة بل نموذجاً ورمزاً لحياة ومجتمع ولظروف هذا المجتمع. كيف؟
لطالما جرى التساؤل عن سرّ سطوة "كوكب الشرق" أمّ كلثوم، المولودة باسم فاطمة إبراهيم في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 1898، بقرية طماي الزهايرة، من أعمال محافظة الدقهلية، والمتوفية في 3 شباط/فبراير من العام 1975، وهي سطوة طاولت العرب بمختلف بلدانهم وفئاتهم وطبقاتهم.
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة يسهر الملايين في أنحاء العالم العربي لسماعها في الساعة العاشرة كل أول ليلة خميس من الشهر. بل كانت دنيا بأسرها، موهبة، وشخصية ونفوذاً وسلطة عاطفية وتناقضاً حاداً بين حياتها الخاصة وحياتها العامة، في عبارات محمود عوض، أحد أصدقائها الشخصيين، وممن كتبوا عنها "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" (القاهرة، 1969) في شبه سيرة غير مكتملة.
ويصف عوض وقوفها أمام الجمهور: "إنها تجعل الميكروفون يتراجع والمسرح يهتز والجمهور يقفز والمدينة تسهر والبلد يرقص والفن يغني. إنها تصنع من صوتها وعواطفها ومشاعرها شبكة ضخمة تمسك بمستمعيها حيث يصبح كل شيء فيهم كالآخر، كل واحد مندمج في الآخر. نحن، أنت، هم، هو، كل شيء يفقد شخصيته ويجد معنى جديداً وعواطف جديدة لمدة محدودة من الزمن" (ص 87). كانت نموذجاً ورمزاً لحياة، لمجتمع ولظروف هذا المجتمع (ص 5). وقد وصف الموسيقار اللبناني، سليم سحاب، أم كلثوم بأنها "مؤسسة فنية متكاملة".
المطربة الرمز... وصوت العشق وأوجاعه
-
من جنازة أم كلثوم عام 1975
قدّم المفكر اللبناني، فواز طرابلسي، في مقالته "أم كلثوم: مسكن الأوجاع لا يشفي من مرض" (بيروت، الحرية، 10 شباط، 1975)، تعليله الخاص، فالمرأة المذكورة تظهر وكأنها "راهبة صوفية متعبدة"، وتنمو الصوفية دائماً، في زعمه، في تربة مليئة بالتناقضات وفي المراحل الإنتقالية، وكانت أم كلثوم، وفاقاً لما ينقل طرابلسي عن الناقد المصري، غالي شكري: "أكثر التجسيدات الفنية نضجاً لنقطة التحولات التاريخية في حياة المجتمع المصري نحو الوسط"، والوسط هو "بؤرة التناقضات ومركز احتدامها ومجال المحاولات الوهمية للخروج منها".
فالكبت والقهر والحرمان الذي عانت منه الشعوب العربية وجد له صوتاً يعبر عنه، وهذا الدور منح كوكب الشرق، في واحدة من ألقابها :"كل قوتها وشمول سطوتها". وقد صدحت حنجرتها بأغاني العشق والأوجاع والإشارات الدينية، و"اتحاد العشق بالدين هو تحديداً الصوفية".
"كانت "ثومة" (أو سومة) عزاء الشعب العربي المسكين، وحين غابت سُلِب منه هذا العزاء، ولم يبقَ إلا القهر الجارح المُصفى". ويقتبس طرابلسي من الفنانة، إيتيل عدنان، قولها إن التمسك بـ"الست" باقٍ "طالما الذل الوطني طاغٍ، وطالما الخوف مسيطر، والأعداء يبدون أقوى، وسنظل نحتاجها، طالما نشوة الحزن على الآلام تنوب عن العمل لاسئصالها".
الظاهرة الكلثومية
-
أم كلثوم والسيدة فيروز
يفكّك الباحث والصحافي اللبناني، حازم صاغية، في مؤلفه "أم كلثوم سيرة ونصاً: الهوى دون أهله" (بيروت، 1991) سيرتها، كما كتبتها د. نعمات أحمد فؤاد (القاهرة، 1983)، ويُفنِد المُتخيل فيها، وفي زعمه أن الفنانة الراحلة "سكنت واحداً من نصوص الرواية الأيديولوجية عن الذات، بعد أن تم رفعها إلى سويّة الخوارق والمعجزات".
ويشير صاغية إلى نمو "الظاهرة الكلثومية" بالتوازي مع تطورات موضوعية كانت تحصل في أرض الواقع (ص 25)، واكتمال الظاهرة وقع في العهد الناصري فباتت "حدثاً قومياً عربياً"، وحصل في أغانيها القِران بين "الوطنيّة والعروبة والإسلام" (ص 28).
بدوره حاول الناقد المصري، رجاء النقاش، حلّ "لغز أم كلثوم" (القاهرة، 2009)، في كتاب مكون من 15 فصلاً تكشف جوانب ثرية ومتنوعة من حياة المطربة الكبيرة، فيرى أن سبب بزوغ نجمها هو إخلاصها وتفانيها في خدمة الفن، ورغبتها في التعلم والإبداع.
ويكرّس 3 فصول من مؤلفه لقصة الحب بين أم كلثوم والشاعر أحمد رامي (كتب لها نحو 137 أغنية)، ويؤكد أنه كانت بينهما قصة حب راقية، ولكن الزواج بينهما كان أمراً عسيراً.
العشق الملتهب
-
الشائعات التي طاردت أم كلثوم في ذروة نجاحها كانت لتدمر أي فنانة غيرها
أفرد الكاتب اللبناني، المقيم في فرنسا، سليم نصيّب، رواية عنها حملت عنوان "أم" (Oum) عام 1994 (ترجمها الشاعر الراحل، بسام حجار، بعنوان "كان صرحاً من خيال"، بيروت، 2010). وهي عن ذلك الحب الذي جمعها مع الشاعر، أحمد رامي، الذي صاغ لها أجمل القصائد لتغنيها. وهي في نظره أضحت "رمزاً حياً لنهضة مصر"، ويعتبر أن صعودها المذهل والسريع نحو النجومية العالمية، وقدرتها المذهلة على الحفاظ على شعبيتها رغم التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية العميقة التي غيرت وجه مصر في القرن العشرين، دليلٌ لا على موهبتها فحسب، بل أيضاً على إصرارها وطموحها.
كما أن الشائعات التي طاولتها وطاردتها في ذروة نجاحها، كانت لتدمر أي فنانة غيرها، لكنها استطاعت بقوة عزمها أن تبقى في القمة نجمة بلا منازع خلال 52 سنة، إنها الرواية عن قصة حب متحمسة ودائمة، حب رجل لامرأة، وحب تلك المرأة لموسيقاها وبلدها، وحب العالم بأسره لفنانيه الكبار.
جنسانية الست
-
أم كلثوم وأحمد رامي
في حديث من طرف واحد يكتب نصيّب على لسان رامي: " كانت تحب النساء، أعلم، ولكن ليس بالطريقة التي يلمّحون إليها. لقد فتحت عينيها على عالم حيث الرجال، كل الرجال، يشبهون والدها، بالطغيان نفسه، وبالعناد نفسه، وبحسّ التملّك نفسه، فبحثت عن الأمان في جنسها هي. وكانت تردّد على مسامع الجميع: لن أتزوج لأنّني تزوّجت فنّي، ويجب أن أكرّس نفسي لما وهبته، ولجمهوري الغيور، وبذلك كسرت العرف، وما كانت لتعرف عرفاً آخر، فوجدت نفسها بلا أعراف. (...)، أقول أنا، إنّها خنثى، رجل وامرأة معاً، لا جنس لها، لأنّها من الجنسين"، (نقلاً عن محاضرة فيروز كراوية: "أم كلثوم: من الآنسة إلى الست"، القاهرة، 2015). ولقد كان من العسير إخضاع أم كلثوم لمعايير المجتمع العادية، في مسائل الأنوثة والزواج والإنجاب، فهي في زعم الكاتب العراقي موسى الشديدي "جسد رفض الخضوع للمعيارية المتسلطة" (بغداد، جنسانية أم كلثوم، 2019).
أم كلثوم في لبنان
-
أم كلثوم في مهرجانات بعلبك عام 1970
زارت أم كلثوم لبنان في بداية حياتها الفنية الفعلية، وذلك في شهر أيلول/سبتمبر من العام 1931، وحظيت باستقبال شعبي واسع، واكب وصول باخرتها إلى ميناء بيروت.
وفي هذه الرحلة أحيت 3 حفلات، 2 منها في مسرح "التياترو الكبير" في بيروت، وثالثة في صالة فندق الجبيلي في منطقة عاليه.
وبعدما استأنفت رحلتها إلى سوريا، عادت وأحيت مجموعة من الحفلات في طرابلس ومسرح منشية البلدية في عاليه وكازينو ألفونس في بيروت. ثم عادت بدعوة رسمية في العام 1954 من أجل أحياء حفلة زفاف الأمير طلال بن عبد العزيز على كريمة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رياض الصلح، لكنها لم تغنِّ في هذه المناسبة، فأقامت لها نقابة الموسيقيين في لبنان حفلة كبيرة بحضور رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار الأدباء والفنانين.
ثم تكررت زياراتها الغنائية إلى لبنان، فأحيت في 12 و14 أيار/مايو 1955 حفلتين في مسرح اليونسكو، وحفلتين أخريين في 19 و21 تموز/يوليو من العام التالي في بيسين عاليه، وعادت ثانية إلى مسرح اليونسكو لتحيي في 19 و 21 تشرين الثاني/نوفمبر حفلتين تحت رعاية رئيس الوزراء آنذاك، رشيد كرامي لمناسبة عيد استقلال لبنان.
-
استقبال أم كلثوم في ميناء بيروت عام 1931
ومن ثم أحيت حفلتين أيضاً في بيسين عاليه في آب/أغسطس 1962، وحفلتين في مسرح سينما ريفولي في تشرين الثاني/نوفمبر 1964، وحفلة في 7 آب/أغسطس 1965 في بيسين عاليه، تخللها سوء التنظيم، ومن ثم بدأت مرحلة مشاركات أم كلثوم في مهرجانات بعلبك فتتالت حفلاتها في الأعوام 1966 و1968 و1970. (التواريخ من المصادر الصحافية، ولا سيّما من المجلات الفنية الناشطة آنذاك مثل الموعد والشبكة والصحف اليومية). ولم تنسَ لجنة مهرجانات بعلبك كوكب الشرق فاستعادتها بصوت مي فاروق في صيف العام 2018.
ولأنها لا تزال حاضرة في الوجدان العربي وتشغل باله، قام الملحن المصري، عمرو مصطفى، بتلحين أغنية جديدة بصوت أم كلثوم باستخدام تطبيقات الذكاء الصناعي، كما لجأت جهات فنية كثيرة الى إعادة بث حفلاتها بتقنية الهولوغرام، وكأنها تعبر الأزمان ولا تموت. وأعلنت وزارة الثقافة المصرية عام 2025 عام "أم كلثوم" داعية للاحتفال بها.