العودة إلى الديار
قرّرت البقاء في الشمال، والشروع في اليوم التالي بإصلاح ما تبقّى من البيت، بمساعدة بعض أبنائي، لكي نعيد للمكان بهجته، ولغزة بريقها، حتى يتصل خيط النور بالسماء مجدّداً.
انتظر الناس بفارغ الصبر إعلان "دولة" الاحتلال عن وقف إطلاق النار، الذي جاء متأخّراً، وكنت أعرف أنه سيسعى لارتكاب المزيد من الجرائم وعمليات القتل المنظمة حتى آخر لحظة، إلى درجة أنه صار يؤجّل جلسة الكنيست ساعة بعد أخرى للمصادقة على الاتفاق.
حتى بعد التوقيع، فإنه لم يسمح للسكان بالتحرّك إلّا بعد ظهر ذلك اليوم، وكان يراودني سؤال أعرف جوابه جيداً: ماذا لو قالت "حماس": انتظروا حتى يصادق المكتب السياسي على الاتفاق؟ ما هو ردّ فعل الأميركي؟ وما هو ردّ فعل الأنظمة الشمولية العربية؟
أما "إسرائيل" فإنها بالتأكيد ستتخذ من تلك الجملة مشجباً لأجل المزيد من التدمير والإبادة واستمرار الحرب، لذلك فإنّ الاحتلال قبيل انعقاد الكنيست قام باستهداف برج سكني بمنطقة الصبرة، مفرق الطيران على رؤوس ساكنيه، رغم توقيع "حماس" على الاتفاق. الأمر الذي يوضح رغبة العدو بالانقلاب على الاتفاق المفروض من طرف ترامب على الحكومة اليمينية المتطرّفة في "إسرائيل"، ورغبتها بتدمير كلّ حجر في قطاع غزة.
تأخّرت بالعودة، لاعتبارات كثيرة، وقرّرت انتظار أيّ خبر حول بيتي الموجود في شمال غرب مدينة غزة، بالقرب من فندق الموفمبيك الدولي، أو على وجه الدقة "ما تبقّى من بيتي"، حيث قمت خلال فترة الهدنة السابقة بإصلاح جزء كبير منه، بعد نسف بيتي القديم بالكامل، وبات بلا ملامح.
وعندما لم يهاتفني أحد، قمت بمحاولة التواصل مع من بقي في المدينة، وللأسف كانت شبكة الاتصالات رديئة جداً، ولا يمكن الوصول إلى أيّ هاتف إلا بشقّ الأنفس، حتى جاءني اتصال متأخّر أنّ الاحتلال قام بتدمير المنطقة التي نقطنها، وباتت أثراً بعد عين، ثمّ تواترت الاتصالات، وجاء اتصال آخر من أنّ بيتي تمّ نسفه، وآخر يقول إنه بخير لكن الجدران سقطت، وحسدني المتصل الأخير لأنّ سقف البيت بخير، حيث لا يعرف القارئ حجم معاناة النزوح في خيام لا ترحم البشر من صهد الشمس أو المطر، لذلك فإنّ ديدن الناس هو البحث عن أيّ سقف يقف في مواجهة الدمار، ولأنّ سقف البيت بخير، قرّرت العودة وحدي إلى منطقة حيّ المرابطين، بلا متاع أو حتى شراب، لدراسة آليات وضع الخيمة داخل البيت، تحت السقف المبارك.
خرجت عند السادسة صباحاً في رحلة امتدت أكثر من 24 كيلومتراً، لأكثر من 4 ساعات، أختصر الطرق سيراً على الأقدام، من منطقة الزوايدة التي لم أكن أعرف دروبها كما عرفت خلال أسبوعين فقط، ومن شوارعها إلى النصيرات الذي بدا كأنه لا يعرف شيئاً عن الحرب، ومن هناك إلى منطقة المغراقة التي تمّ إنشاء مصيدة الموت على ترابها (GHF)، ثم مدينة الزهرة، وصولاً إلى شارع الرشيد. أواصل السير بين ركام ودمار، وغبار كثيف، ودخان عجلات السيارات، من دون الاهتمام بغرق الملابس بالطين، حتى وصلت أطراف مخيم الشاطئ، المكان الذي كان ملاذي وتجربتي وحكايتي، يواجهني مدخل شارع قهوة غبن في نهايته أو ما يعرف بشارع طارق بن زياد الذي نشأت وترعرعت بين أزقته وحواريه، مكسوراً يبكي البيوت التي سقطت بعد شموخ طويل، والعمائر في الجانبين تدلق الركام، الناس تحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، رغم أنّ التدمير طال الطوابق العليا من الأبنية الضخمة، مثل عمارة رضوان واطعيمة، تلك البيوت التي خسرت الشهداء قبل أن تفقد الذكريات والأحلام.
فجعت بالمشهد. لقد أعملوا في المخيم تدميراً يفوق أيام الحرب جميعها، متجبّرين ومستوحشين علينا بالقتل والتدمير، كأنّ قنبلة نووية ضربت المكان، لدرجة أن قال ابن عمي إنّ هذه المشاهد تشبه هيروشيما وناكازاكي.
تساءلت: كيف استطاعوا خلال شهر واحد فقط أن يدمّروا هذه الأماكن بشكل مخيف؟ ويطحنوا البيوت والشوارع كي تصير بهذا الشكل المثير للحزن؟ ما هو نوع الأسلحة؟ وما هي القنابل التي ألقيت على المدينة؟ منشؤها؟ وكم حجمها؟ هل هي أطنان؟ إذ أدركت أنهم تفننوا باستخدام كلّ الوسائل القتالية ضدّنا، كميدان للتجارب وآخر للرماية، حيث العالم يتفرّج على فيلم الرعب المسمّى "غزة"، وهو لا يعلم أنّ المقبل عسير عليه، لأنّ الدمار سيطال العمائر في كلّ مكان، بما فيها البلدان المتقدّمة، وبلدان "العالم الثالث"، و"دولة" الاحتلال نفسه.
كما سيدفع العالم ثمن دم الأطفال في غزة، لأنّ الجميع سمح للاحتلال بتحويل هذا الكون إلى غابة، عندما تجاوز القانون الدولي الإنساني والعهود الشرعية والدولية جميعها، حتى صارت غزة بلا ظهير، باستثناء بعض الأحرار من هذا العالم.
وصلت البيت، كان مشرّعاً للهواء، حوله الركام، يدور في فلكه، كأنه يسبّح الله بلغة لا يفهمها القتلة، الذين تجاوزوا في بشاعتهم المغول، فقد دمّرت جرّافات (D9) أجمل وأرقى الأماكن، كأنها تريد الانتقام من كلّ ما هو فلسطيني، لذلك قرّرت البقاء في الشمال، والشروع في اليوم التالي بإصلاح ما تبقّى من البيت، بمساعدة بعض أبنائي، لكي نعيد للمكان بهجته، ولغزة بريقها، حتى يتصل خيط النور بالسماء مجدّداً.