ذكريات طفولة بعلبكية مع عيد السيدة العذراء

كلّ شاب من تلك القرى البعلبكية يذكر أصغر التفاصيل لدى "محبوبته" البيروتية، التي رآها ساعة واحدة، في ليلة صيف عابرة، مثل هذه الليلة منذ عام، وأحس بأنه "أُغرم" بها  من دون أن يكلّمها، او حتى يعرف اسمها! 

  • تمثال للسيدة مريم العذراء في البشوات
    تمثال للسيدة مريم العذراء في بشوات

كان "عيد السيدة" (عيد انتقال السيدة مريم العذراء)، محطة سنوية يجتمع فيها "البيارتة" (سكان مدينة بيروت) "الكلاس"، في رحلة "حجّهم" إلى سيدة بشوات، في "المنافي" البعلبكية، ويلتقون أهالي القرى البعلبكية "المنسية"، "جارات" بشوات ودير الأحمر وشليفا وبتدعي، وكل القرى التي تحرس ذاك الدرب الواصل "كحبل سرّة" بين "بيارتة" لبنان… وقرويّيه. 

كانت قريتي إيعات نقطة وصل بين البيارتة "الكلاس" الآتين من بيروت من أجل زيارة السيدة العذراء والصلاة والتضرّع لها، وبين مزارها في بشوات، ومهبط الأمل لقاصديها والمبتهلين إليها وباسمها، وملتقى أدعية "الحجاج البيارتة" وصلواتهم فيها. 

يمرّ البيارتة في رحلة "حجهم" إلى بشوات في سهل إيعات، وتحت سمائها، وتلفحهم شمسها بحنوّ إن مرّوا في كروساتها نهاراً، وتصير دروبها وشوارعها وبيوتها وهواؤها برداً وسلاماً على قلوبهم، إن كانت رحلة "حجّهم" ليلاً.

كان "البيارتة"، الآتون من أجل التبرّك في سيدة بشوات، معظمهم ينحدر من القرى البعلبكية الفقيرة، و"الممحوة" من ذاكرة كلّ الحكومات التي حكمت هذه البلاد، والمشطوبة من أي شيء اسمه إنماء. "هاجروا" إلى بيروت سعياً وراء أمل كانت وحدها "أم الفقير" قادرة على منحهم إياه، بعد أن ضبّ الأمل أغراضه، وهجّ في ليلة، لا قمر فيها، من هذه البلاد! 

أذكر: كنت طفلاً، وكنا، نحن الأطفال الإيعاتيين، ننتظر ليلة 15 آب/أغسطس، ونهاره، لنرى الصبايا "البيارتة" الحلوات يتوافدن على قريتنا والقرى المجاورة، ونخمّن: هل لهن وجوه صبايا قرانا نفسها؟ هل لهن الملامح نفسها؟ هل يحكين اللغة نفسها؟ هل لهن لون الشعر ذاته؟ وهل لهن الأسماء ذاتها؟ 

وكان شبان القرى البعلبكية الفقيرة، وخصوصاً شبان إيعات، يدخرون طوال أشهر الربيع والصيف، ما تيسّر من المصروف الشحيح جداً. يدّخرون القرش فوق القرش ولما يطل آب/أغسطس برأسه، يجمعون ما ادخروه، ثم يجمعون أنفسهم، ويذهبون جماعات جماعات إلى سوق بعلبك، وكثيرون منهم يقصدون سوق "البالة" (الثياب المستعملة)، من أجل اختيار ما يتزيّنون به أمام الصبايا "البيارتة".

كان كل شاب منهم يحفظ، عن ظهر قلب، ملامح الصبية التي رآها في "عيد السيدة" الماضي، وقرّر، وحده، على طريقة طقوس الزواج في المجتمعات الريفية، أنها من "نصيبه" وحلاله، من دون أن يسمع منها أيّ كلمة. هكذا كان يحفظ لون عينيها وتسريحة شعرها ولون حمرة شفتيها، وعطرها الذي يتذكّر رائحته، لكنه يجهل اسمه، وكذلك ولون طلاء أظافرها وابتسامتها، وحتى نوبات زعلها وغضبها. كما يذكر جيداً كيف احمرّ خجلاً، وباغته شيء يشبه الدهشة أمامها وكيف صارت عيناه لا تريان إلا هي.

كلّ شاب من تلك القرى البعلبكية يذكر أصغر التفاصيل لدى "محبوبته" البيروتية، التي رآها ساعة واحدة، في ليلة صيف عابرة، مثل هذه الليلة منذ عام، وأحس بأنه "أُغرم" بها  من دون أن يكلّمها، أو حتى يعرف اسمها! 

 

اخترنا لك