في أول حوار بعد فصله من اتحاد الكتاب.. حسن م. يوسف لــ "الميادين الثقافية": أُقدِّس المعارضة الحقيقية
بعد فصله مؤخّراً من "اتحاد الكتّاب العرب" في سوريا، حاورت "الميادين الثقافية" الكاتب والسيناريست السوري، حسن م يوسف، وهذا ما قاله عن قرار الفصل والمعارضة والسلطة الجديدة.
أكثر من 30 عاماً وقلم الكاتب والسيناريست السوري، حسن م. يوسف، لم يتوانَ عن النقد، وكان رائداً، ليس في لغته المفعمة بالحيوية فحسب، إنما بقدرة كلماته على المساس بشغاف قلوب قرَّائه، ووجدان مُشاهدي الأعمال الدرامية التي كتبها.
ويوسف، إلى جانب كونه أوّل من تصدَّى للرواية التلفزيونية في نصّه "نهاية رجل شجاع" عن رواية حنا مينا، يُحسب له أيضاً معالجته المغايرة لقضايا سياسية واجتماعية ودينية راهنة في مسلسله "سقف العالم"، وتقديمه أيضاً لرؤية سردية مختلفة في عمله "البحث عن صلاح الدين"، ومع كلّ ذلك فإنه يُصِرُّ على دفاعه عن الجَمال والحقّ والحرية في كلّ ما تخطّه يده، تماماً كما في كلّ حواراته وقصصه ومجابهاته الثقافية.
ذلك أنه مُعتاد على المَنع والإلغاء. إذ إنه يرتهن لبوصلته الأخلاقية فقط، مهما اشتدَّت في انتقاداتها للسلطات وأصحاب القرار، فهو نصير المهزومين دائماً.
في هذا الحوار نسعى في "الميادين الثقافية" للوقوف على بعض آراء حسن م. يوسف في الظلم والحقيقة، المعارضة والثورة، الالتزام والإقصاء، وغير ذلك مما يوضح آلية تفكير هذه القامة السورية، ولا سيما بعد قرار فصله من "اتحاد الكتّاب العرب" في دمشق مؤخراً.
**
المعروف عنك مناصرتك للمظلومين منذ مقالاتك الصحفية مروراً بالدراما التي كتبتها. هل مفهوم الظلم يتغيّر عبر الزمن، وكيف تفسّر قرار فصلك من "اتحاد الكتّاب العرب"؟
-
حسن م. يوسف
الظلم قديم قدم الخليقة لكنّ مقاومته قديمة أيضاً. اعتاد الناس أن يقولوا: "إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، وقد أثارت هذه المعادلة نفوري منذ أن كنت يافعاً فقلت: "إذا كان شرط النجاة أن أصبح ذئباً، فليأكل الذئب قلبي، على أن يسكن فيه"، وقد نشرت هذه المقولة في كتابي "عبثاً تؤجِّل قلبك" الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية قبل ربع قرن.
صحيح أنّ قلة ممَّن كانوا يناصرونني ويشدّون على يدي قد انقلبوا عَلَيَّ، لأسباب تتعلّق بأفضلية الولاءات، فالفرد المتخلِّف يرجّح ولاءه لعشيرته على ولائه للحقيقة. تذكر ولا شك قصة الثائر العالمي تشي غيفارا الذي وشى به راعي أغنام، فعندما سأل أحدهم الراعي: "لماذا وَشَيْتَ برجل قضى حياته في الدفاع عنك وعن حقوقك؟"، أجاب الراعي: "كانت معاركه مع الجنود تخيف أغنامي".
في أوائل التسعينيات وقَّعت على بيان أزعج الحكومة فطلب مني مدير عامّ جريدة "تشرين" أن أسحب توقيعي وإلّا... وعندما رفضت مُنعت من الكتابة، وقد دام المنع 10 أشهر، يومها صدمني موقف القرّاء مني. إذ انخفض عدد الرسائل والاتصالات الهاتفية من العشرات إلى الآحاد، وبعد أسبوعين "نُسيت كما لو أنني لم أكن".
أعترف أنني فوجئت بحجم موجة الغضب والاستنكار التي أبداها الناس إزاء القرار "القرقوشي" الذي اتخذه الشخص المعيّن رئيساً لاتحاد الكتّاب العرب بحقّي، مما يثبت أنّ شعبنا لا ينسى من يخدمونه بإخلاص!
"كلّ بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة"، قالها مظفر النواب مرة، وأنت جسَّدتها في مسلسلك "حارس القدس"، هل التمسّك بقضية "خاسرة"، كما يصفها البعض، يجعلك خاسراً أم رابحاً؟ وبأيّ معنى وأيّ سياق؟
-
رشيد عساف في لقطة من مسلسل "حارس القدس"
مقولة الشاعر الراحل مظفر النواب صحيحة كلياً. فالقدس هي قلب قضية العرب المركزية فلسطين، وفلسطين هي أكثر قضايا البشرية عدالة في القرنين الماضي والحالي. في العام 2009 قامت الزميلة الأستاذة، إيمان جابر، بكتابة "صورة ذاتية" لي على الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار اللبنانية، بعنوان: "حسن م. يوسف سيناريست القضايا الخاسرة"، استهلّته بالعبارة الآتية: "يكتب للتحرّر من الخوف والطغيان والظلم والهزيمة. الكتابة تجعله مفيداً، هكذا سجّل ابن الفلاح الفقير ملحمته الذاتية".
القضايا الخاسرة مادياً هي الأكثر عدالة، وأنا أستطيع القول ببساطة إنني خضّت عدداً لا بأس به من القضايا الخاسرة، لكن ما يحزنني هو أنني تجنَّبت خوض بعضها الآخر، وهذا ما يحزّ في نفسي كثيراً.
قلت مرة بأنك تُقدِّس المعارضة الحقيقية غير المرتهنة لجهات خارجية. هل تعتبر نفسك معارضاً رغم اختلاف الأنظمة الحاكمة؟ وما الذي يحدّد بوصلتك في ذلك؟
-
حسن م. يوسف: لست أنكر أنّ التحالفات بين السلطة الجديدة وتركيا تقلقني وطنياً وشخصياً
نعم، سبق لي أن قلت إنني أُقدِّس المعارضة الحقيقية لأنها تؤدي دوراً حيوياً في بناء الأوطان ورقيها، فالمعارضة الحقيقية ترصد كلّ الأخطاء في أداء الحكومة وتحثّها، من خلال معارضتها، على معالجة تلك الأخطاء والممارسات قبل أن تستفحل وتتفاقم.
المعارضة الحقيقية في النظام السياسي، تؤدّي دور المضادات الحيوية في الجسم البشري. إذ يكفي أن يضعف دور المعارضة - المضادات الحيوية، حتى تنشط بذور الديدان النائمة داخل الجسد وتفتك به، وليس صدفة أنّ الرومان كانوا يسمّون الديدان: وحوش الداخل.
هل للتحالف بين النظام الجديد في سوريا وبين تركيا، دور في شطب اسمك من لائحة أعضاء الشرف في "اتحاد الكتّاب العرب"؟ خاصة بعد مسلسلك "أخوة التراب" بجزءيه الأول والثاني؟ وكيف تنظر إلى الأتراك اليوم من الناحية السياسية؟
-
أيمن زيدان في لقطة من المسلسل السوري "أخوة التراب"
لا أريد أن أصوّر نفسي كضحية، فشطب اسمي من لائحة أعضاء الشرف في "اتحاد الكتّاب العرب" ما كان له أن يزعجني لولا الإطار الذي وضع فيه. فأنا لم أطلب تلك العضوية، بل يمكنني القول إنها فُرِضَتْ عَلَيّ. فقد فوجئت وأنا على منصة "المركز الثقافي العربي" في بانياس بمجيء الصديق المرحوم الدكتور، نضال الصالح، الذي كان رئيساً للاتحاد من دمشق، وبعد انتهاء محاضرتي صعد إلى المنصة وقدّم لي قرار رئاسة الاتحاد بمنحي عضوية الشرف، وقد كانت تلك بادرة مودّة من الفظاظة رفضها.
لست أنكر أنّ التحالفات بين السلطة الجديدة وتركيا تقلقني وطنياً وشخصياً، فالنفوذ التركي لدى السلطات الجديدة لا يخفى على أحد، والنجمة السلجوقية على صدور الوزراء تثبت ذلك. وأنا أعرف جيداً مطامع إردوغان في أرض بلادنا التي يبرّرها بالميثاق الملّي. كما أشعر بالقلق شخصياً لأنّ الأتراك انزعجوا كثيراً من مسلسلي "أخوة التراب" إلى درجة أنهم بعد نحو عقدين أنتجوا عملاً درامياً مضاداً أسموه باسم مسلسلي "أخوة التراب".
كتبت فيلم "رجل الثورة" الذي يضعه البعض في صف الدعاية لنظام الأسد. كيف تنظر إلى مفهوم الثورة وما معانيها الثقافية والإبداعية بالنسبة لك؟ وكيف نخرج مما نحن فيه؟
-
لقطة من فيلم "رجل الثورة"
أنا لم أكتب فيلم "رجل الثورة" من خيالي، فعندما كُلِّفت بكتابته استندت في سرديته لما جاء في لقاء الكاتب الألماني، ميخائيل لودرز، من أنّ "تنظيم جبهة النصرة الإرهابي هو من يستخدم السلاح الكيميائي في سوريا بالتعاون مع الاستخبارات التركية"، مبيّناً أنّ "هذا التنظيم الإرهابي لديه كميات من غاز السارين السامّ حصل عليها من النظام التركي". ولديّ تسجيل لحوار ميخائيل لودرز يؤكّد ذلك.
وهذا ما أكّدته أيضاً "ويكيليكس" إذ أفادت أنّ "خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيميائية نفوا استخدام غاز الكلور في مدينة دوما السورية"، وأشارت إلى أنّ كبار المسؤولين في المنظمة "أجبروا أعضاء بعثتها إلى سوريا على تزوير الحقائق".
كما استندت في سردية الفيلم على الأنباء الموثّقة من داخل تركيا حول "ضبط شاحنات المخابرات التركية المتجهة إلى سوريا، لتقديم غاز السارين للجماعات الإرهابية". رغم ذلك التزمت في فيلم "رجل الثورة" بالرؤيا الإنسانية، فالفيلم لا يبرّئ أحداً ولا يدين أحداً، بل يضع المُشاهد أمام مأساة يتجلّى فيها الشرّ والتوحّش، ومع ذلك يبقى نور الإنسان حاضراً. أناس يتراحمون رغم الجحيم، وحياة تحاول النجاة من بين الركام. وفي الوقت نفسه، يفضح العمل أولئك الذين يستثمرون بموت ومعاناة الناس ويزاودون باسم حمايتهم ويقبضون ثمن تضحياتهم.
إنه عمل يذكّرنا بأنّ المأساة السورية ليست صراعاً بين خير مطلق وشرّ مطلق، بل بين بشرٍ تشابهوا في الضعف وأخطأوا واختلفوا في الرؤى. فالبنادق في الاتجاهين كانت تطلق الرصاص وتقتل سوريين من الجهتين، وأنا، يشهد الله، أنني قد تألمت لكلّ نقطة دم سورية أهدرت ولكلّ سوري شرّد. لذا أرى أنه من العبث أن يحتكر أيّ طرف المعاناة وأن يطالب الحاضنة المدنية للطرف الآخر بالاعتذار له، رغم سقوط ضحايا على الضفتين!
يجب أن نعترف أنه ما من بيت على امتداد التراب السوري لم تجرحه الحرب، ومن لم تجرحه الحرب سرقت اللقمة من فمه، لذا لا منجى لنا سوى الخروج من دائرة الانتقام والانتقام المضادّ التي من شأنها أن تخرجنا جميعاً من التاريخ.
أما الشيء الطريف فهو أنّ السلطة الانتقالية تصالحت مع كبار الرأسماليين الذين سلّحوا وموّلوا وحدات مقاتلة خاضت معارك ضارية ضدّ الفصائل المسلحة، لكنّ رجالات السلطة الانتقالية الذين يحكمون دمشق حالياً باسم تلك الفصائل، مشغولون الآن بمحاسبة وشيطنة كاتب مستقل مثلي منعني النظام الساقط من الظهور على تلفزيونه خلال السنتين الأخيرتين من حكمه!
أما السؤال الذي أودّ طرحه على مثقّفي الموالاة والمعارضة: هل كان أياً منكم يجرؤ على رفض كتابة فيلم كـ"رجل الثورة" في ما لو قدّمت له الوثائق التي قُدِّمَتْ لي؟
أما كيف نخرج من وضعنا الحالي، فأحسب أنّ الطريق نحو مستقبل سوري سليم يمرّ عبر الصدق، والعدالة، والمصالحة الوطنية، لا عبر محو الآخر أو شيطنته والطعن بهويّته. الحقيقة ليست ذات وجه واحد، وعندما يعترف كلّ منا بكلّ الوجوه الحقيقية للمحنة السورية، عندها فقط، يمكن لنا أن نعيد لبلدنا معنى اسمه، وللسوريين معنى إنسانيتهم.