في وداع فنان الشعب زياد الرحباني
منذ البداية تمرّد زياد الرحباني على الرومنطقية الرحبانية العائلية، وشقّ لنفسه "لحناً" من قلب الواقع، وكانت أعماله المسرحية الناقدة المريرة للواقع الذي تختلط فيه الرؤى والكوابيس، والأبطال بالمزيفين وشذّاذ الآفاق.
-
نعش الفنان زياد الرحباني
سألتني صديقة خلال مشاركتي في وداع فنان الشعب زياد الرحباني، عن إمكانية كتابة نص في مشاهدتي للحشود التي جاءت من كل لبنان لوداعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، وعما يعنيه لي هذا الرحيل، وما يثيره في نفسي من وجع وحزن.
كان البكاء والحزن يلفّان قلوب محبّيه وهم يتذكّرون مآثره، يستعيدون تألّقهم لا مودعين له فحسب، بل كمواطني لبنان الذين لن تكسر شوكتهم تجاوزات اللصوص الكبار في الدولة وأقبيتها، ولن تحول دون جسارتهم في الدفاع عن قضايا شعبهم ووطنهم، ولن تضعف عزيمتهم في قول الحق كما علّمهم زياد الرحباني.
نعم، ليس تفصيلاً رحيل فنان الشعب زياد الرحباني، لقد تيتمت بيروت بأهلها. شوارعها وأزقتها وحاناتها وناسها البسطاء "الغلابة". طوى الموت هذه القامة الإبداعية، لينتزع منها ما تبقّى من طاقات خلق وعطاء لم تقتصر على الموسيقى والغناء والمسرح فحسب، ولم تكن نصوصه المسرحية والغنائية مجرّد وسيلة لاكتشاف جذور الخراب الذي حلّ بوطنه، فرآه يتهاوى أمام عينيه مثل حطب أكله السوس، وعبثت به ديدان السياسة وتجّار الدين والدم.
تلك التي أجهزت على آماله في هذا الوطن الذي أخذ من عمره، وتعبه، وعرقه وإبداعه الكثير لكي يكون وطناً خالياً من الطائفية والمذهبية ومكرّساً للمواطنة والعدالة الاجتماعية التي تجعل من اللبناني عزيزاً وغير مهانٍ!
يقول الفيلسوف الألماني كانط: "ليس الموت إلا القِناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً وأقوى مغزى". كم ينطبق هذا القول لكانط عن هذه القامة الإبداعية التي لا مثيل لها، بلغتها وحكاياتها وسخرياتها من الواقع المرير، ولكن اختار أن يرحل قبل اكتشاف ما تبقّى من مشاهد الانهيار.. مصادره وأوهامه.
منذ البداية تمرّد زياد الرحباني على الرومنطقية الرحبانية العائلية، وشقّ لنفسه "لحناً" من قلب الواقع، وكانت أعماله المسرحية الناقدة المريرة للواقع الذي تختلط فيه الرؤى والكوابيس، والأبطال بالمزيفين وشذاذ الآفاق، ولكن صور تلك الأعمال وتراكيبها الناقدة منحت الأمل لمن يبحثون فيها عن بارقتها لإطفاء منابت خيباتهم.
حاول الرحباني أن يتعايش مع هذا التناقض بين أحلام المبدع وأوهامه، ويوحّدها مع تطلّعات جمهوره وجفوة الحياة ومرارتها معهم، وهو ما فعله مع المرض منذ أن داهمه فكسر فيه القدرة على الاكتشاف واليقين وفكّ الاشتباك مع رموز وأشكال وأوهام وآمال لم يبقَ منها في واقع الحياة غير مشهد واحد، سقوط مرير في الخيبة.
رحل زياد الرحباني وبقي منه عطاء إبداعي يجدّد معانيه في كلّ يوم جمهوره بكلّ تلاوينه الحزبية، والشعبية والاجتماعية. إذ ليس في رؤياه ما يقبل الانغلاق.. وتلك كانت مأثرته الكبرى.