من يحدد الأولويات.. الجامعة أم السوق؟

ليست المشكلة في الاستجابة لحاجات المجتمع، بل في التبعية العمياء لمنطق السوق. فالجامعة ليست مرآة للواقع فقط، بل بوصلة لتغييره. هي المؤسسة الوحيدة المخوّلة بإنتاج معرفة لا تخضع لسطوة المال أو للقرارات السياسية العابرة.

في كل ندوة أكاديمية نشارك فيها، أو في كل حديث مع طلابنا عن المستقبل، يطفو على السطح سؤال بالغ الأهمية: هل يجب على الجامعة أن تواكب متطلبات سوق العمل فقط؟ أم أنها ما زالت تحتفظ برسالة أعمق تتجاوز تأمين وظيفة؟

بين الحلم الأكاديمي وواقع السوق، تتأرجح الجامعات العربية اليوم، لاسيما في ظل الأزمات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية التي تُطالبها بأن تكون "عملية" و"واقعية"، أحياناً على حساب رسالتها الأكاديمية الأصيلة. لكن من الذي يملك حق تحديد أولويات التعليم العالي؟ وهل السوق هو البوصلة الوحيدة؟

ففي زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، وتنهار فيه المسافات بين الفكرة والتطبيق، تتصاعد التساؤلات حول وظيفة الجامعة: هل لا تزال الحاضنة الطبيعية للعقل، والرافعة للنهضة، والمختبر الحقيقي للقيم والمعرفة؟ أم تحولت تدريجياً إلى ذراع اقتصادية تتكيّف مع السوق وتعيد إنتاج مخرجاته من دون مساءلة أو مساءلة مضادة؟

لسنوات طويلة، ساد تصور بأن العلاقة بين الجامعة والمجتمع مبنية على الثقة بأن المعرفة هدف نبيل، وأن التعليم العالي فضاء للتنوير وبناء الفكر النقدي. لكن معادلات جديدة بدأت تفرض نفسها، يمليها منطق السوق لا منطق الفكر، ما يدفعنا لتساؤل آخر: من يحدد أولويات التعليم الجامعي اليوم؟ هل هو العقل الأكاديمي المستقل، أم الطلب السوقي المتغير والعابر؟

ذلك أنه حين تطغى لغة السوق على الخطاب الجامعي، تتغير الأولويات رأساً على عقب.  هكذا تغيب الفلسفة، وتتقلص العلوم الإنسانية، ويُهَمَّش البحث العلمي غير الربحي. كما تُغلق تخصصات لأنها "لا تؤمن وظائف"، وتُفتح أخرى فقط لأنها "مطلوبة حالياً". تصبح الجامعة أداة لضخّ الخريجين حسب الطلب، وكأنها منشأة صناعية تنتج موظفين، لا مفكرين أو مبدعين. لكن السوق – بطبيعته – متقلب، متغير. ما يُطلب اليوم قد يُصبح عبئاً غداً، وإذا ظلت الجامعات تلهث خلفه باستمرار، فإنها ستفقد دورها في الاستباق، والتوجيه، والتفكير الاستراتيجي.

مسؤولية الجامعة: التوجيه لا التبعية

لا خلاف أن الجامعة يجب أن تُسهم في التنمية الاقتصادية، وتُخرّج طلاباً قادرين على دخول سوق العمل بثقة وكفاءة. لكن ليس على حساب تفكيك العقل النقدي، ولا عبر طمس تخصصات الإنسان، الهوية، والثقافة. إنّ دور الجامعة لا يتوقف عند تزويد الطالب بمهارة تقنية، بل يجب أن تزوّده بالبوصلة أيضاً. أن تُعلّمه كيف يفكّر، لا كيف يُنفّذ فقط. أن تصنع منه باحثاً، لا تابعاً. أن تُعدّه لحياة كاملة، لا لمجرد وظيفة.

ليست المشكلة في الاستجابة لحاجات المجتمع، بل في التبعية العمياء لمنطق السوق. فالجامعة ليست مرآة للواقع فقط، بل بوصلة لتغييره. هي المؤسسة الوحيدة المخوّلة بإنتاج معرفة لا تخضع لسطوة المال أو للقرارات السياسية العابرة.

الاقتصادات المزدهرة اليوم هي تلك التي حافظت على توازن دقيق بين الاستجابة لحاجات السوق، والتمسك برسالة الجامعة الفكرية والقيمية. لم تتخلَّ الدول الواعية لمستقبل أجيالها عن الفلسفة أو الأدب، رغم أن هذه التخصصات لا تُدرج غالباً ضمن "المطلوب مهنياً"، لأنها تؤمن بأن بناء المواطن الواعي لا يقل أهمية عن تدريب العامل الماهر.

ما الحل؟ ليس في العزلة الأكاديمية ولا في الخضوع المطلق للسوق، بل في بناء شراكة ذكية. وجامعات تعمل مع السوق لا لدى السوق تصوغ سياسات تعليمية تدمج بين المهارات التقنية والقدرات النقدية، بين التكوين المهني والتمكين الفكري، بين الاستجابة للواقع والرغبة في تغييره. لذلك، على صانعي السياسات التعليمية – خصوصاً في الدول العربية التي تواجه أزمات متشابكة – أن يطرحوا على أنفسهم السؤال المفصلي:  أي نوع من الجامعات نريد؟

جامعة تُدرب على وظيفة؟ أم جامعة تُعدّ الإنسان ليكون صانع وظائف، مشاركاً فاعلاً، ومثقفاً مسؤولاً؟ جامعة تُصدر شهادات أم بيئة تُنتج تفكيراً مستقلاً، وقيادة فكرية، ومواطنة نقدية؟

لا السوق وحده، ولا الجامعة وحدها، يملكان حق رسم أولويات التعليم العالي. وحده الوعي المجتمعي المشترك، القائم على القيم والمعرفة والطموح الإنساني، قادر على أن يُعيد للجامعة مكانتها كمنارة للتفكير لا كآلية للتشغيل.

وعليه، آن الأوان لأن نعيد النقاش الى مساره الطبيعي. فالسوق لا يُحدد أولويات الجامعة، بل الإنسان بقيمه وسعيه للمعرفة وطموحه في بناء مجتمع أفضل، هو وحده من يملك هذا الحق.

اخترنا لك