مورافيوف في غزة عام 1830: أرض مقدسة تفيض لبناً وعسلاً

زار بلادنا سنة 1830، ودوّن تفاصيل رحلته في كتاب طبع 5 مرات في روسيا الإمبراطورية. كيف وصل أندريه مورافيوف إلى غزة؟ وماذا رأى فيها؟

يُعرف أندريه نيقولايفيتش مورافيوف (1806-1874) ككاتب ديني في أوساط علمية ضيّقة في روسيا الحديثة اليوم، حيث لا تستعاد أعماله المكتوبة الغزيرة سوى عبر باب الأدب الديني الأرثوذكسي، لكنه كان سياسياً مقرّباً من بلاط القيصر في حياته. 

عُيّن أميناً عامّاً للمجمع المقدّس سنة 1833، ما خوّله أن يُعيّن أمين سرّ البلاط الإمبراطوري الروسي، وعضواً فخرياً في "الأكاديمية الإمبراطورية للعلوم". شغل إلى جانب ذلك مناصب أخرى، إذ عُيّن منذ العام 1842 عضواً في هيئة أركان الدائرة الآسيوية بوزارة الخارجية. 

ونال سنة 1854 وسام الاستحقاق لــ 25 عاماً من الخدمة الممتازة، وبات اعتباراً من سنة 1855 عضواً فعلياً في مجلس الدولة الروسية. استقر في مدينة كييف بعد تقاعده سنة 1866، إلا أن الحكومة الروسية لم تستغنِ عن خدماته، فأعادته إلى الخدمة بعد 3 سنوات مديراً للجنة رعاية سجون سان بطرسبورغ سنة 1869.

ترك مورافيوف عدداً كبيراً من المؤلفات الدينية، ولا سيما في تاريخ الكنيسة الروسية وحياة القديسين، وبفضل قربه من البلاط اشتهرت تلك الأعمال وباتت الكتب الدينية الروسية الأولى التي حظيت بانتشار واسع جداً بين الطبقات العليا في المجتمع. 

  • بورتريه أندريه مورافيوف سنة 1838
    بورتريه أندريه مورافيوف سنة 1838

يُذكر أن إحدى واجهات العرض في "متحف الشارع الواحد"، في قلب العاصمة الأوكرانية كييف مُهداة لأندريه مورافيوف. بفضل جهوده، أخليت بيوت الدعارة من منحدر أندريفسكي في كييف. كما عمل على تحصين التل الذي يقع عليه المنحدر، وترميم كنيسة القديس أندريفسكي، التي سيدفن في أحد سراديبها سنة 1874. وعملياً، اكتسب هذا المنحدر الشهير في كييف شكله الحالي بتوجيه منه وتحت إشرافه. 

أتت زيارته إلى بلادنا سنة 1830، أي قبل حياته السياسية الحافلة، وقد دوّنها في كتاب "الرحلة إلى الأماكن المقدسة عام 1830" في مجلدين، الصادر في سان بطرسبورغ، وقد تلقّفته الدائرة المحيطة بالقيصر فأعادت إصداره 5 مرات عن "مطبعة مستشارية جلالة الإمبراطور" (الطبعة الخامسة سنة 1848). 

في المجلد الأول من هذا الكتاب، يروي عن زيارته الإسكندرية والقاهرة وسيناء قبل الانتقال إلى بلاد الفلسطينيين ماراً بغزة ونواحيها. في ما يأتي، سنورد مقتطفات من الكتاب مكتفين بمشاهدات مورافيوف ووصفه، حاذفين ما لا طائل منه من تكرار المؤلف حشو الرحّالة الآخرين عبر نسبة الأماكن والأطلال إلى مقاطع توراتية: 

الطريق إلى غزّة

  • شيخ يقرأ القرآن قرب غزة للفنان هاري فين
    شيخ يقرأ القرآن قرب غزة للفنان هاري فين

"قبل الفجر غادرت العريش. هذه القلعة المربّعة الأخيرة في مناطق الباشا (المصري) ولا تصلح إلا للدفاع ضد غارات البدو. وهي تقع على تلال رملية على بعد نصف ساعة من البحر، وعلى مجرى نهر قديم جاف كان يفصل صحراء أفريقيا عن آسيا. تنتهي هذه التلال بعد ساعتين، وتبدأ الطبيعة تدريجياً في الانتعاش على الجبال المنحدرة التي تشكّل حدود فلسطين. ولكن على الرغم من وجود الخضرة والشجيرات عليها، لا ترى إنساناً في أي مكان على مدى 12 ساعة من الركوب. لا تسمع سوى نباح الكلاب ونهيق الحمير في آخر خيام البدو، المخبّأة خلف الجبال، وتصادف البدو من حين لآخر. كان دليلنا يعرف معظمهم فرحّبوا به بسلام، ولمسوا جباههم، وقبّل بعضهم البعض، وتصافحوا معه عدة مرات، وأرفقوه بتمنياتهم الطيبة. شعرت ببعض القلق عندما خرج أحد أفراد قبيلة الشيخ صالح من خيام الشيخ الواقعة على جانب الطريق، توجّه نحونا وسأل مرشدي عني: أليس هذا النبيل الذي رآه شيخه في اليوم السابق؟ لكن ذلك كان مجرّد فضول من شاب عربي. 

تفاخر المرشد بحدس البدو وذكائهم، مؤكداً أنهم يستطيعون التعرّف إلى أي فرد من قبيلتهم أو من قبيلة أخرى من آثاره، وأنهم يستطيعون العثور على الطريق التي سلكها من طعم التربة إذا فقدوه في الليل. من وقت لآخر كان يغني أغنية طويلة على نوتة واحدة معتادة لدى جميع قادة القوافل، وكانت الجمال تستمع إليها بسرور، وتسرع خطواتها بشكل ملحوظ على أنغام اللحن الرتيب. بعد استراحة لمدة 4 ساعات، في منتصف النهار، تحرّكت بفرح عبر الجبال التي بدأت تفيض بالحياة نحو آخر مكان فيه أثر صحراوي، وكنا نقصد قرية خان يونس، وهي القرية السورية الأولى على الحدود. ليس بعيداً منها، توجد على المرتفعات بحيرة صغيرة مغطاة بالملح، وعلى شاطئها أنشئت قبة عربية فوق قبر شيخ... وراء البحيرة، ينتصب على التل عمودان من الغرانيت وسط الأنقاض، كأنهما بوابة الدخول من الصحراء إلى فلسطين المباركة، وهذه هي أنقاض رفح الفلسطينية القديمة. كنت مرهقاً من الطريق الصحراوي الذي سرت فيه 9 أيام من القاهرة، وأرغب بشدة في الوصول إلى الأرض المقدّسة، وشعرت بارتياح شديد عندما وطأت قدماي مرة أخرى العشب الأخضر.

من خان يونس يمتد طريق جميل عبر الحقول المزروعة. على الجانب الأيسر تظهر سلسلة من التلال الرملية تحجب البحر، وعلى الجانب الأيمن تظهر جبال زرق. ضواحي غزة هي الأكثر جمالاً. كل شيء فيها أخضر، الحقول والتلال والجبل. يؤدّي ممر طويل من الصبار والأشجار المعمّرة إلى المدينة المزهرة بحدائق البرتقال. تزيّن ممرات مماثلة جميع قرى فلسطين الساحلية تقريباً. أما من الجانب الآخر، فتنتشر بساتين الزيتون الكثيفة الظلال، وتحاذي الطريق من غزة إلى خارجها، وتمتد على مسافة 5 أميال. 

داخل المدينة

  • غلاف الطبعة الخامسة من كتاب مورافيوف
    غلاف الطبعة الخامسة من كتاب مورافيوف

هذه المدينة، التي تنبض بالحياة بفضل القوافل المتواصلة التي تمر بها، هي الآن واحدة من أغنى مدن فلسطين من حيث التجارة، وتزوّد المسافرين إلى الصحراء العربية بالمؤن لعدة أيام. وفيها يحصل البدو المجاورون على كل احتياجاتهم الضئيلة للحياة البدوية.

لا تضمّ غزة اليوم سوى القليل من الآثار القديمة. قصر السلاطين، الذي كان يوماً ما رائعاً بزخارفه الرخامية وأبراجه القوية، يتدهور يوماً بعد يوم. المسجد الكبير، الذي حلّ محل كنيسة القديس يوحنا، لا يزال محفوظاً إلى حد ما في وسط السوق الكبير. يدعم 16 عموداً رباعياً أقواس المسجد، وتشهد مساحة باحته على عظمته السابقة. وتذكر الأعمدة والقناطر المنتشرة خارج المدينة أيضاً بمجد غزة السابق. ولا تزال تظهر بوابة المدينة وبالقرب منها مسجد.. لا يوجد في هذه المدينة قناصل ولا أديرة، ولذلك اضطررت إلى الإقامة في خان المسافرين. وهو مبنى رباعي الزوايا، ذو فناء واسع وسطه ومخازن مظلمة في الطابقين، حيث تخزّن البضائع. 

أعطوني أفضل غرفة منفردة ذات شرفة، مع نوافذ تطل على الحديقة. حواف شرفات منازل المدينة وأسطحها مزينة بشكل خلاب، بدلاً من السور المعدني، زينت حوافها بجدران رفيعة مكونة من أنابيب قرميدية، مرتبة في أشكال زخرفية ومثبتة بالطين، وهذه سمة مميزة لمدن فلسطين.

كنت قد قابلت المتسلّم (حاكم غزة). كان يقف أمام بوابات القلعة، ويقضي في أمور الناس وفقاً للعادات القديمة في الشرق. قرأ وثائقي وسمح لي بمشاهدة الآثار، وعرض عليّ خدماته. لكنني لم أتمكّن من أخذ التصريح اللازم منه، وكان هذا التصريح ليخوّلني متابعة طريقي من دون أن أدفع رسم المرور للشيخ أبو غوش. طلبت هذا التصريح من حاكم المدينة من دون جدوى، وكنت سأواجه مشكلات كبيرة، لأنّ الحجاج يحصلون على مثل هذه الشهادات عادة في غزة أو يافا أو عكا. ترجم الرجل اليوناني، الذي اتخذته مترجماً من الشارع، بنقل كلماتي بخشية، وحاول إقناعي بتقبيل حافة ثوب المتسلّم ويده، متعجباً من عدم قيامي بهذا الواجب المقدّس.

في المساء، التقيت بكبار مسيحيي المدينة، وهم ينتمون إلى عشيرة عربية. استمعوا بشغف إلى أخبار العالم التي حدّثتهم بها، لكنهم لم يصدّقوني، شأنهم في ذلك شأن الجميع في فلسطين. حاولت أن أشبع فضولهم، بما يتناسب مع طريقة نظرتهم إلى العالم. 

في غزة، انفصلت أخيراً عن الجِمال المرهقة وأطلقت سراح الدليل داود، مع رسائل إلى مصر وشهادة على ولائه، والتي من دونها لن يجرؤ على الظهور في القاهرة. في اليوم التالي، أمرت في الصباح الباكر بتحميل البغال، وركبت حصاني بشعور رائع لا يوصف، وكأنني أشعر بأنني أطير، وانطلقت عبر بساتين الزيتون إلى عسقلان.

حلت حقول الربيع الرائعة أمام عيني مليئة بالأزهار البرية الرائعة، وارتفعت قرى لا حصر لها على تلال وسط الحقول، كما لو كانت تحرس ثروتها. وانتشرت هنا وهناك بساتين الزيتون الواسعة الظلال، التي تنتمي حصرياً إلى فلسطين. إذا كان ساحل فلسطين الآن، تحت عصا المتسلّم الحديدية، لا يزال ساحراً إلى هذا الحدّ، فماذا كان عليه في العصور القديمة، عندما كان شعبه الكادح الكثير العدد يزرع هذه الحقول؟ إنها بالفعل الأرض المقدّسة التي تفيض لبناً وعسلاً.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك