رفعت بدوي - كاتب وباحث ومحاضر في الشؤون الإقليمية
نص الحلقة
آلاء ترشيشي:
أهلاً بكم. من بيتٍ ناصريّ ملتزمٍ بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية، إلى مستشارٍ رافق رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص نحو خمسة عقود من الزمن، بما تخلّلها من حربٍ أهلية، واجتياحٍ إسرائيلي، وكثيرٍ من المحطّات المفصلية على صعيد لبنان والمنطقة...
عن تلك المحطات، وغيرها من المحطات الشخصية، يحدّثنا ضيف "فودكاست الميادين" لليوم، الأستاذ رفعت بدوي. أهلاً ومرحباً بك.
رفعت بدوي:
أهلاً وسهلاً بكم.
آلاء ترشيشي:
حضرتك كاتب وباحث =ومحاضر في الشؤون الإقليمية، وعملتَ مُستشاراً لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص، وحاليًا أنت رئيس ندوة العمل الوطني.
نبدأ من فكرة أنك نشأت في بيت ناصري.
رفعت بدوي: ٍ
اختصرتِ السيرة الذاتية كثيراً.
آلاء ترشيشي:
هناك الكثير ليُقال وسنقوله خلال الحلقة. نشأتَ في بيت ناصري، يعني كنتَ شاهِداً على الكثير من المحطّات. ماذا تتذكّر حول ذلك؟
رفعت بدوي:
لا أذكر كثيراً... هذه الأمور عاشت معي، وبقيت معي، وستبقى معي أكيد. من ضمن الأشياء التي يمكنني قولها إن سجّادة الصلاة التي كانت تصلّي عليها الوالدة والوالد كان مرسومًا عليها صورة لعبد الناصر. نعم، السجّادة التي كانوا يعلّقونها في البيت، كما كانت العادة في البيوت القديمة، كانت تحمل صورة لعبد الناصر. إلى هذا الحدّ كان التعلّق بعبد الناصر. أنا إبن طريق الجديدة، وأفتخر بذلك. طريق الجديدة كلها كانت تُسمّى "جبل النار"، لأنها كانت موالية لجمال عبد الناصر بالكامل. لم يكن هناك أحد يمرّ بطريق الجديدة إلا ويعلم أنها موالية لعبد الناصر.
عشتُ في هذا الجو. والدي كان من النوع الشغوف جداً بجمال عبد الناصر. حين كان عبد الناصر يُلقي خطاباً في مصر، كان يُمنع أي أحد من الحديث في المنزل. كان يجلس تحت التلفزيون، ليس على الفراش، بل تحت التلفاز حتى لا يفوته حرف أو كلمة.
وعمّي، شقيق والدي، شارك في ثورة 1957-1958، وكان ناشِطاً في مُحاربة حلف بغداد، ووقف إلى جانب جمال عبد الناصر. اسمه محمود بدوي، محمود عبد القادر بدوي، وكان معروفاً في طريق الجديدة باسم "أبو فاروق". كما كنتُ أنا ضنيناً بالرئيس سليم الحص، هو كان مقرّباً من الرئيس صائب سلام.
ونتيجة أعماله ومقاومته لحلف بغداد، ووقوفه إلى جانب جمال عبد الناصر ومبادئه، عَلِمَ عبد الناصر بوجوده، وكان يعلم أن محمود بدوي هو مَن كان يوزّع السلاح لحماية طريق الجديدة من حسابه الخاص. بالمناسبة، لم تكن تُدعى "طريق الجديدة" آنذاك، بل منطقة الرمل، نسبة إلى سجن الرمل الموجود حينها، وهو اليوم موقع جامعة بيروت العربية.
فكانت المنطقة تُسمّى "منطقة الرمل"، وأول طريق تم تزفيتها هناك سُمّيت "شارع البستاني"، ومن هنا جاء إسم "طريق الجديدة" لأنها كانت طريقًا جديدة ومزفّتة حديثاً. عمّي لعب دوراً كبيراً سنة 1958، وكان ناصرياً بامتياز. وهذا كله زاد من تأثّري بالفكر الناصري.
آلاء ترشيشي:
حتى الوالدة.
رفعت بدوي:
حتى والدتي، أتذكّر أنها حين دُعي للتبرّع من أجل الثورة الجزائرية، أفرغت كل صياغها – أي مساغها – وتبرّعت بها مثل بقيّة الناس، دعماً للثورة الجزائرية. كان ذلك أيضاً انطلاقاً من العقيدة الناصرية، لأنهم كانوا يحبّون عبد الناصر كثيراً. فأنا نشأتُ على هذا المبدأ.
وكان لدينا أيضاً تعلّق كبير جداً بقضية فلسطين. عمّي ووالدي، إبراهيم بدوي، كانا من أوائل الناس الذين هبّوا لمساعدة النازحين الفلسطينيين – حسب ما أذكر، لأني لم أكن قد وُلِدْت بعد – وقدّموا لهم المساعدات والمأوى، وغير ذلك.
آلاء ترشيشي:
طريق الجديدة لها تاريخ.
رفعت بدوي:
بالنسبة إليّ، شخصيًا، منذ أن فتحتُ عيني على هذه الدنيا، كنتُ تلميذًا في مدرسة البر والإحسان. هذه المدرسة أكنّ لها كل الحب حتى هذه اللحظة، وبكيت كثيرًا على أنقاضها عام 1982 خلال الاجتياح الإسرائيلي، لأنها كانت صَرْحًا ثقافيًا علميًا كبيرًا. وللعِلم، جميع الذين تخرّجوا من مدرسة البر والإحسان... كان مديرها آنذاك الأستاذ عبد المحسن البواب، رحمه الله، أو محيي الدين البواب، وكان رجلاً صُلبًا، أنتج أفضل مدرسة من حيث النتائج والمستوى العلمي، رغم أنها كانت مدرسة رسمية.
ومن هذه المدرسة كنت. وكل مَن تخرّج منها تبوّأ مناصب رفيعة في الدولة. المدرسة ذاتها كانت الشرارة التي تنطلق منها التحرّكات الطلابية، بل الشرارة التي تُعطى لبقية المدارس والجامعات، حتى على مستوى لبنان. أنا من الناس الذين شاركوا بتأسيس رابطة طلاب بيروت – "رابطة طلاب لبنان" – وكنتُ رئيسها.
إذا كانت هناك تظاهرة مثلاً ضدّ قضية الغلاء، أو نصرةً لفلسطين، أو اعتراضًا على موقف لحاكم عربي اتّخذ قرارًا لم نكن نرضى به، كنا نخرج إلى الشارع. كنا نتظاهر ونتحرّك.
آلاء ترشيشي:
كان ذلك بتوجيه من أحد، أم مجرّد حِراك طلابي تلقائي؟
رفعت بدوي:
لا، لم يكن بتوجيه. على العكس تمامًا، نحن كنا نتمرّد منذ الصِغَر، وكنا لا ننتظر توجيهًا من أحد. كما قلت لكِ، كنا صِغار السن، لكن في منطقة طريق الجديدة، عشنا نحن والفلسطينيين فترة طويلة معًا، وكانوا يسمّونها "جمهورية الفاكهاني"، لأن كل مكاتب منظّمة التحرير الفلسطينية، بجبهات الرفض وغير الرفض، ومنظّمة فتح، كلها كانت في منطقة الفاكهاني.
عام 1982، أول غارة إسرائيلية على بيروت كانت على المدينة الرياضية، أما ثاني غارة فكانت على منطقة الفاكهاني، حيث دُمِّرت كل المكاتب، والشارع بكامله تقريبًا. هذا كان الثقل الفلسطيني في بيروت، ونحن كنا نعيش معهم، في حلوهم ومرّهم، وكنا نُناصرهم بشكلٍ فظيع.
تخيّلي أن الفلسطينيين، حين كانوا ينفّذون عملية عسكرية ناجحة ضدّ العدو الإسرائيلي، كنا نفرح، رغم أنه قد يحصل بعدها أضرار أو قصف، لكن مع ذلك، كنا نحتفل، لأنهم أنجزوا عملية ناجحة ضدّ العدو. هذا الشعور تربّى بداخلنا.
من هذا المنطلق، انخرطت لاحقًا في العمل الفتحاوي تحديدًا، وهناك أيضًا تعرّفت على أنيس النقاش في منطقة جنوب لبنان، وهو أنقذني من الموت مرتين ونشأت علاقة قوية جدًا بيننا. فلسطين كانت =حاضرة في وجداننا، بقوّة، وزاد على ذلك أن دولة الرئيس سليم الحص، رحمه الله، كانت فلسطين تعيش في عروقه، تنبض به في كل لحظة، ويتابعها ويُناصرها دائمًا.
وأحبّ أن أذكر مناسبة حصلت معه. في عُمر السابعة والثمانين، عندما أعلن المعتقلون الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية الإضراب عن الطعام بسبب التعذيب، وكان ذلك قبل موعد الغداء، أخته – وكانت لا تزال على قَيْد الحياة حينها – أخبرتني أنه لم يتناول فطوره صباحًا، والآن لا يريد أن يتناول الغداء. وعندما سألته، قال لي: "أنا أضربت عن الطعام تضامنًا مع الأسرى الفلسطينيين". كان ذلك في صمتٍ تام.
حينها، كنت متوجّهاً إلى مؤتمر نظّمته "دار الندوة" لدعم المعتقلين، فأعلنت من هناك أن دولة الرئيس سليم الحص أضرب عن الطعام تضامنًا مع المُعتقلين في فلسطين المحتلّة. وعلى الفور، كتب الزميل إبراهيم الأمين مقالًا في جريدة الأخبار بعنوان: "هذا الرئيس أخجلنا"، وقال فيه إن هذا الضمير لا يمكن أن يموت مهما تقدّم العُمر، وإننا صغُرنا جميعًا أمام هذه الخطوة الجبّارة التي أقدم عليها الرئيس.
آلاء ترشيشي:
محطّاته الوطنية كثيرة، وسنتحدّث عنها تِباعًا خلال الحلقة.
أستاذ رفعت بدوي، شاركت عام 1982 في المعارك ضدّ القوات الإسرائيلية في محيط المدينة الرياضية. ماذا تتذكّر عن ذلك؟
رفعت بدوي:
بكل فخر. كما تعلمين، العدو الإسرائيلي عام 1982 لم يتوقّف عند خلدة أو عند الأوّلي، بل دخل إلى بيروت، وتقدّم من ستة محاور. صباح ذلك اليوم، كنت في منزلي في منطقة طريق الجديدة، وسمعت صوتًا ظننته تراكتورًا يزيح شيئًا من الطريق، فإذا ببعض شباب الحيّ، الذين كانوا ما زالوا موجودين، يصعدون إلى منزلي – كنت أسكن في الطابق السابع – ويهمسون لي: "الجيش الإسرائيلي وصل إلى كلية التربية، إلى كلية المصارعة، وإلى ملعب كرة السلّة في المدينة الرياضية، وهم في طريقهم إلى كلية الهندسة التابعة لجامعة بيروت العربية".
سمعت هَمْسهم، لأنه كان هدوء تام، فقفزت فورًا. كانت بحوزتنا بعض قطع السلاح وعدد من قاذفات "آر بي جي". انطلقنا لمقاومة تلك القوّة التي كانت تتّجه نحو طريق الجديدة لاقتحامها. ونجحنا في تعطيل ناقلتي جنود، أجبرناهما على التوقّف في الأرض، ما شكّل مفاجأة للعدو.
حاول الإسرائيلي الالتفاف من جهة المدينة الرياضية نحو مدرسة فروّخ، الواقعة على الأوتوستراد المؤدّي إلى الكولا، من أجل اقتحام طريق الجديدة من تلك الجهة. تصدّينا له هناك أيضاً، ومنعناه من الدخول.
أقول بكل فخر: أنا ومجموعة من الشباب، منعنا العدو الإسرائيلي من دخول طريق الجديدة. وفي الوقت نفسه، كانت تجري عمليات مقاومة في منطقة برج أبي حيدر، حيث تمّ تفجير الجسر هناك فوق القوات الإسرائيلية. وبعدها وقعت عملية "الويمبي" الشهيرة التي نفّذها خالد علوان، والتي قال فيها عبارته الشهيرة: "خلّي الحساب علينا"، وقتل جنود الاحتلال.
آنذاك، بدأ الإسرائيليون يتجوّلون في بيروت، لكنهم كانوا يصرخون: "لا تطلقوا النار! نحن مغادرون! سنغادر بيروت!" كانوا يتوسّلون ألا تُطلق عليهم النار، لأنهم واجهوا مقاومة عنيفة، وهذا ما عزّز بداخلي إيمانًا لا يتزعزع بأن العدو الإسرائيلي لا يفقه ولا يفهم، ولا يمكن أن يتراجع أو ينسحب إلا إذا وُوجه بالمقاومة.
آلاء ترشيشي:
إذًا، أنت شاركت بالعمل المقاوم، لا فقط بالفكر والمواقف، بل بالفعل.
رفعت بدوي:
نعم، بكل فخر. أقول إنني من الناس الذين تصدّوا للعدو الإسرائيلي. وعلى فكرة، لم أشارك فقط لأني كنت مُنتمياً إلى حركة "فتح"، بل في ذلك الوقت كنت قد تركت فتح نتيجة خلافات داخلية لم أقتنع بها. كنت في السابعة عشرة من عُمري، لكن شاركت كإنسانٍ يؤمن بأن هذا العدو يهدّدني، ويريد أن يدخل بيتي، فكان لا بدّ لي من الدفاع عن بيتي، عن أهلي، عن منطقتي. لم يكن هناك مجال للتردّد.
هذا الموقف تعزّز لاحقاً. عندما كنت في "فتح"، كنا نذهب إلى الجنوب لرصْد تحرّكات العدو الإسرائيلي، ومن هنا قلت لك إن أنيس النقاش أنقذني من الموت مرتين، ضمن عمليات الرصْد والمقاومة التي كنا نمارسها. أقولها مجدّدًا، بكل فخر: تصدّيت للعدو الإسرائيلي، واليوم، وغدًا، وحتى آخر لحظة في حياتي، سأظلّ أتصدّى له كلما أتيحت لي الفرصة.
آلاء ترشيشي:
لكن مع ذلك، كانت لديك أحلام أخرى بخصوص مسارك المهني، قبل السياسة.
رفعت بدوي:
تقصدين الطيران؟
آلاء ترشيشي:
الطيران، نعم، درست الطيران، وعملت في الطيران.
رفعت بدوي:
صحيح. درست الطيران في الولايات المتحدة. أنا بدأت بدراسة عِلم النفس في الجامعة اللبنانية، وفي السنة الثالثة حصلت على منحة لأنني كنت أعمل في شركة طيران تُدعى "TMA" في لبنان. حصلت على منحة للدراسة في الولايات المتحدة، حيث تابعت دراستي في الطيران، ونجحت.
أنهيت أول فصل تدريبي، وكنت أذهب وأعود من أجل متابعة العمل، ولم أكن أريد أن أنقطع تمامًا. أخذت أكثر من "إجازة غير مدفوعة"، قصيرة أو طويلة. ولكن في إحدى المراحل، وقعت مشاكل كبيرة مع المدرّب الخاص بي، لأنه كان يهوديًا.
تخَيّلي، في امتحان الطيران النهائي، يجب أن تصعد في الطائرة مع المُدرّب، لكنه لا يتحدّث معك، بل يُراقب فقط ما تقوم به، فيما يتمّ توجيهك من الأرض. هذا المدرّب، حين بدأنا التحليق، سألني: "من أين أنت؟" قلت له: "من لبنان". سألني: "من أين في لبنان"، قلت له: "من بيروت"، فسألني: "من أية منطقة في بيروت؟ غربية أم شرقية؟" ثم قال لي: "هل أنت سنّي، شيعي، درزي، أم ماروني؟" قلت له: "سنّي".
عندها قال: "أنتم نهايتكم ستكون دويلة صغيرة في شمال لبنان... لبنان سيصبح عندنا". هذا الكلام قيل لي سنة 1982. في تلك اللحظة، ألغيت كل التعليمات التي أتتني من برج المراقبة، وقرّرت العودة إلى المطار فورًا. كتبت تقريرًا عمّا حدث، لكنه هو أيضًا قدّم تقريرًا ضدّي، زاعمًا أنني لم ألتزم بقواعد الطيران. عندها، أدركت أن الحياة في الولايات المتحدة لا تناسب قناعاتي، ولا يمكن أن أستمر فيها، مع أنني كنت أملك "غرين كارد"، وكان يفصلني عن الجنسية الأميركية حوالى ستة أشهر فقط.
آلاء ترشيشي:
ماذا فعلت بالغرين كارد؟
رفعت بدوي:
ذهبت إلى دائرة الضرائب، IRS، وقلت لهم إنني أتنازل عن كل شيء. الموظف قال لي: "هل أنت مجنون؟ بعد ستة أشهر تحصل على الجنسية" قلت له: "لا أريدها". فقال لي: "أنت تصرّ؟" قلت: "نعم". قال لي: "لن آخذ الباسبور الأخضر"، فأخذت المقص من على الطاولة، وقطّعت البطاقة أمامه، وأعطيته إيّاها. هذا التصرّف تسبّب لي لاحقًا بمشاكل كثيرة، لكنها من الماضي، وأنا لا أندم أبدًا على ذلك القرار، لأني كنت على يقين أن العيش هناك لا ينسجم مع قناعاتي، ولا مع هويّتي وثقافتي العربية.
وعرفت تمامًا، في كل مرة كنت أذهب فيها إلى الولايات المتحدة الأميركية، كنت أرى أن أميركا كانت جميلة، نعم، لكن التغلغل الصهيوني والسردية الصهيونية كانت تستشري بشكل عنيف ضدّنا.
كان لديّ صديق في الطيران، كان مُتقدّمًا عني، وعاش خمسًا وثلاثين سنة في هيوستن، تكساس – والله يوجّه له الخير – لكن تصوّري، أنه في أحداث 11 سبتمبر، رغم أن كل الجيران هناك يحبّونه، أحرقوا له منزله. عندهم عنصرية غريبة عجيبة، قد يكون المجتمع الصهيوني هو الذي يحرّض ويدفع إلى ذلك، لكنني اكتشفت باكرًا أن أميركا ليست بلدًا للعيش. إذا أردت شيئًا من هناك، تذهب، تُنجز ما تريد، وتعود. لكن أن تعيش هناك، فهذا لا يمكن.
وأضيفي إلى ذلك، أن المدرّب الثاني الذي كان من المفترض أن يُجري لي الامتحان النهائي عام 1998، كان لبنانيًا، لكنني لم أكن أعلم بذلك. إسمه كان "كايلي نيميث"، وكنا نتحدّث طوال الوقت بالإنكليزية، وطوال الوقت ضمن مجال الطيران، حتى اكتشفت لاحقًا أن إسمه الحقيقي هو "خليل نعمة"، من منطقة حومين.
فوجئت عند صدور نتيجتي، إذ قال لي أمرًا جعلني أزداد قناعة بأن قراري كان صائبًا. قال لي إن إبنه نابغة من النوابغ، سابق لعصره، وكان عُمره سبعة عشر عامًا، وفجأة، ذهب إلى المدرسة ولم يعد إلى المنزل. وبعدها، وصلت بعثة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) إلى منزلهم، طرقوا الباب، وقالوا له: "نحن من الـFBI، أخذنا ابنك. ليس لأنه ارتكب شيئًا، بل لأنه نابغة. ونحن بحاجة إليه".
أخذوه لتطوير برامج عسكرية، وتحديدًا في مجال الصواريخ. قالوا له: "لا يحقّ لك أن تراه إلا بإذن خاص". تخيّلي، ابنه خُطِف من حضنه باسم "العِلم". قلت في نفسي: إن كان عندي أولاد في المستقبل، وظهر أحدهم ذكيًا، فهل سيخطفونه مني؟ هل سيحرمونني منه؟ هذه القصة أثّرت فيّ كثيرًا.
آلاء ترشيشي:
ومن الطيران إلى السياسة.
رفعت بدوي:
من الطيران، انتقلت إلى الخليج، حيث عملت في إحدى الشركات التي كانت ناجحة جدًا، لكنني تعرّضت في تلك المرحلة لظرفٍ لا أحب أن أخوض فيه الآن، فتركت كل شيء، ونزلت إلى لبنان.
يومها، قال لي الرئيس سليم الحص عبر الهاتف: "إلى متى ستبقى بعيدًا عني؟" ثم أضاف: "ستجلس هنا في المكتب، وتكون مستشاري الخاص". ومن يومها، بدأت العمل إلى جانبه بشكل دائم.
آلاء ترشيشي:
كنت قاب قوسين أو أدنى من تولّي حقيبة وزارية. لماذا لم يحدث ذلك؟
رفعت بدوي:
في إحدى المرات، كانت هناك حكومة يجري تشكيلها، و"أُعطي للشيعة" – وأقولها بأسف لأنني مضطر لاستعمال هذا التعبير الطائفي – أُعطي لهم حقّ تسمية شخصية سنّية، وقد كُتبت هذه المعلومة في الصحف.
اتصل بي يومها الصحافي جوني منيّر، وقال لي: "أنا كنتُ بجلسة أمس، وتحدّثوا عنك. نُوقِش إسمك كمُرشّح جدّي لتولّي المنصب". في اليوم نفسه، تواصلت معي الجهة المُخوّلة تسمية هذا الوزير، وأبلغوني أن الخيار وقع عليّ، لكن هناك شرط
قلت لهم: "قبل أن تطرحوا شرطكم، لديّ شرط". فقالوا لي: "بدأنا بالشروط؟". قلت: "نعم. إذا نالت الحكومة الثقة، فإن أول خطوة سأقوم بها، هي أن أركب السيارة وأنزل إلى دمشق، لأزور السلطات السورية رسميًا. أريد أن أقطع هذه القطيعة غير المنطقية، لأن لا أحد من الوزراء كان يجرؤ على زيارة سوريا. هذا أمر غير مقبول".
قالوا لي: "حسنًا، ربما نناقش ذلك". فقلت: "عندما أعود، إذا أردتم أن تُقيلوني، فأقيلوني. لا مشكلة لديّ، لكنني سأكسر هذا التابو".
قالوا: "حسنًا، نحن أيضًا لدينا شرط". سألت: "ما هو؟"، قالوا: "يجب أن تجلس مع فلان الفلاني، وتحضر اجتماعات تيّاره السياسي". قلت لهم: "أنا لا أنتمي إلى هذا التيّار". فقالوا: "نعرف، لكن الأمر مطلوب لأسباب تتعلّق بتنسيق التصويت داخل مجلس الوزراء".
قلت لهم بكل وضوح: "أعتذر منكم. لا يمكنني أن أكون جزءًا من أيّ ترتيب كهذا". كان أحد الموجودين يومها، وما يزال حيًّا حتى الآن – وآمل أن يكون يسمعني – قال لي: "يعني أنت ترفض أن تكون وزيرًا؟". فأجبته: "نعم، وبكل فخر. أنا لست بحاجة إلى الوزارة. سأصنع إرثًا يحمل إسم سليم الحص، ولن أضع هذا الإرث في مكان يُساوم فيه على المبادئ".
آلاء ترشيشي:
لا تُساير في السياسة أبدًا؟
رفعت بدوي:
يعرفني الناس بأنني "حدّي"، واضح، لا أساوم. الدبلوماسية شيء، لكن السياسة يجب أن تكون تعبيرًا عن قناعة. إما أن تدافع عن قناعتك، أو أنك تدخل في بازار البيع والشراء. وأنا لست من هذا النوع.
لو كنت من النوع الذي يساوم، لكنت اليوم في موقع أفضل. حتى أصدقائي المُقرّبين يقولون لي دائمًا: "أنت متشدّد جدًا في السياسة"، وأنا لا أخجل من ذلك. أُعلن مواقفي بوضوح.
موقفي اليوم، مُعْلن أمام الرأي العام البيروتي تحديدًا، والعربي، والعالمي. على جميع الشاشات، معروف أنني مع المقاومة. بل أكثر من ذلك، أقول لك: في عام 2018، خلال الانتخابات، جلست مع سماحة الشيخ نعيم قاسم، وتحدّثنا في الموضوع. وقلت له صراحة: "لن أترشّح إلا على لائحة المقاومة، لأن لهذا رمزية خاصة".
لكن في ذلك الوقت، كان قانون الانتخابات لا يسمح بأن يأخذ شخص أصواتًا من جهة أخرى بسهولة. فقال لي الشيخ نعيم: "لا نستطيع، ولا أتمنّى أن تفشل. أنت من أعزّ الناس. وحتى سماحة السيّد – السيّد حسن نصر الله – يحبّك ويقدّرك"، والدليل أن الحاج محمد عفيف كرّر لي هذه العبارات نفسها بالحرف.
لكنهم قالوا لي أيضًا: "وضعنا لا يسمح حاليًا بأن ندعمك من ناحية تجيير الأصوات"، فقلت له: "أتفهّم".
وعندما التقيت سماحة الشيخ مجدّدًا بعد نحو سبعة أو ثمانية أشهر، ذكّرته، فقال لي: "أنا أقدّرك كثيرًا لأنك تفهّمت موقفنا. غيرك من الحلفاء، عندما أخبرناهم أننا لا نستطيع مساعدتهم، انقلبوا علينا. أما أنت، فقد تفهّمت".
قلت له: "هذا موقفي المبدئي، وأنت تعرف ذلك". المهم أنني أُعلن موقفي، ولا أُخفيه. هناك كثيرون يتجنّبون الظهور على وسائل إعلام محسوبة على المقاومة، مثل قناة "المنار" أو إذاعة "النور"، أما أنا فلا. على العكس، ظهرت على هذه المنابر. و
آلاء ترشيشي:
دفعْت أثمانًا.
رفعت بدوي:
نعم، وما زلت أدفع حتى اللحظة، لكنني لا أغيّر موقفي، لأنني صاحب قناعة داخلية. أنا أحمل قضية. الفرق بيني وبين غيري أنني صاحب قضية، أحمل إرثًا. أحمل قضية فلسطين. أحمل وصايا الرئيس الحص. أحفظها في قلبي وضميري.
آلاء ترشيشي:
ما هي وصايا الرئيس الحص تحديدًا؟
رفعت بدوي:
وصاياه أن نعمل من أجل الوطن قبل كل شيء، وليس من أجل الطائفة أو الشخص. وكان يقول لي دائمًا: "الوطن أولًا، ثم الإنسان، ثم المبادئ".
على فكرة، قال لي ذات مرة، بعد استقالته من حكومته الثانية، وكنا نناقش أمور البلد: "توصّلت إلى قناعة أن علّة لبنان لا مثيل لها في العالم، ولا دواء لها من العالم".
قلت له: "هل تُحبطنا؟"، فقال: "لا، أقول لك الحقيقة".
سألته: "ما هي العلّة؟"، فقال: "الطائفية السياسية".
آلاء ترشيشي:
هي علّة لبنان.
رفعت بدوي:
"الطائفية السياسية هي علّة لبنان". وقال إن أيّ سياسي يريد أن يتجاوز الطائفية، عندما يدخل إلى العمل السياسي في لبنان، يُجبر على أن يدخل من خلال طائفته، بسبب نظام الحصص.
وحدّثني عن هذه المسألة مطوّلاً منذ لقائنا الأول، حين كنت طالبًا في الجامعة. يومها، كان رئيس لجنة الرقابة على المصارف. لم يكن الحديث بيننا عن المصارف، بل عن النظام اللبناني، أنه لماذا بعض المراكز في الدولة حُكْر على طائفة معيّنة، وممنوع على الطوائف الأخرى؟.
ومن ضمن الأسئلة التي طرحتها عليه، أعطيته مثالًا عن أحد أقربائي، تقدّم إلى المدرسة الحربية، ونجح، لكنهم رفضوه لأن الحصّة الطائفية كانت قد امتلأت.
قلت له: "لماذا يجب أن يكون قائد الجيش أو حاكم مصرف لبنان من الطائفة المارونية؟"، فقال لي: "هذه أعراف، وليست نصوصًا دستورية". فقلت له: "لكن الأعراف لا تبني أوطانًا".
يومها، بعد أن أنهينا الجلسة، وكان معنا أربعة أو خمسة طلاب، وضع يده على كتفي وقال لي: "أريد أن أراك دائمًا، لديك عقل مُنفتح".
آلاء ترشيشي:
والتقيتما دائمًا وكثيرًا.
رفعت بدوي:
ومنذ ذلك الحين، بدأت العلاقة الحقيقية بيننا. وفي مرحلة لاحقة، وخصوصًا بعد استقالته الثانية من رئاسة الحكومة، توطّدت العلاقة أكثر. حصلت بيننا مواقف كثيرة، لا تزال راسِخة في ذهني حتى اليوم، وبعضها ما زلت أحتفظ به في كتاب بعنوان سليم الحص بين السلطة والإنسانية، لم أنشره بعد، لكنه موجود عندي. كتبت فيه عن الرئيس سليم الحص، وقصصًا أثّرت فيّ كثيرًا.
آلاء ترشيشي:
مثل ماذا؟ حاولت أن تُظهِر الجانب الإنساني للرئيس الحصّ.
رفعت بدوي:
قبل كلّ شيء، هو ملك الإنسانية. كان إذا رأى نملة على الطريق يتفاداها، لا يطأها. كان نباتيًا لا يأكل لحمًا، ليس لأسباب صحية، بل لأنه لا يستطيع أن يتخيّل أنه يأكل كائنًا حيًا. حتى الخروف، لا يمكن أن يُدخله إلى منزله، أو إلى مطبخ. لم يكن يحتمل ذلك. كان يتأثّر إلى هذه الدرجة.
وكان يقول لي دائمًا، مستشهدًا بميخائيل نعيمة: "ما أكثر الناس، وما أقلّ الإنسانية". هذه العبارة كانت تلازمه، لأنه يؤمن بأن الإنسان وُلِدَ حرًا، ويجب أن يعيش حرًا. وكان من أوائل من دعوا إلى الديمقراطية في لبنان. وكان لديه قول شهير يردّده باستمرار: "لبنان فيه الكثير من الحرية، والقليل القليل من الديمقراطية". أي بإمكانك أن تقول ما تشاء، لكن لا توجد ديمقراطية فعلية تمارَس.
والدليل على ذلك – كما كنت أقول لك – أن هناك مراكز في الدولة تُحْصَر بطائفة، وتُمْنع عن غيرها. من ضمن الأمور التي قلتها له، وهذا استوقفه كثيرًا: "ألا يؤثّر هذا الأمر على نفسية الضابط أو الموظّف الذي يعلم مسبقًا أنه، مهما اجتهد، فلن يُسْمح له بالترقّي بسبب طائفته، وسيشعر أن الطائفة الأخرى هي الأولى، أو الأجْدر، أو الأوفى للبنان، في حين أنه ليس أقل وطنية منها". سيتأثّر هذا الضابط بلا شكّ، وسيتراجع أداؤه.
تلك الجلسة – الحوار الذي دار بيني وبينه حول هذه النقطة – كانت نقطة فاصلة جدًا. الرئيس الحص كان مُرهفًا إنسانيًا إلى أبعد الحدود، وتعلّمت منه الكثير. على سبيل المثال، أذكر أننا كنا ننزل سويًا من بيته في الدوحة، لأنه لم يكن قد عاد بعد إلى منزله في بيروت، الذي تعرّض للتدمير خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
وبعد عودته إلى بيروت، كان يسكن فترةً في منزل قريبين له، لأن بيته لم يكن قد جُهّز بعد. وعندما طلب الإسرائيليون لقاءه في خلدة، رفض أن يركب في سيارتهم، وقال لهم: "سأذهب بسيارتي الخاصة". وكان هدفهم أن يتصل بالحكومة اللبنانية، ليكون واسطة. لكنه انتفض في وجههم وقال: "أنا لست وسيطًا. أنتم أعداء لبنان، وستبقون أعداء للبنان، وسنطردكم من هذا البلد عاجلًا أم آجلًا".
وركب سيارته "الفولكسفاغن"، ونزل بنفسه إلى بيروت، حيث استقبلناه، بعد أن نُقل من خلدة إلى العاصمة.
وفي موقف آخر، كنت أرافقه في إحدى النزلات، في عهد الحكومة الثانية في عهد الرئيس سركيس، بين عامي 1977 و1978. وكنا معتادين أن يجلس في المقعد الأمامي الأيمن، ومصحف شريف دائمًا خلف رأسه في السيارة، ربما كان ذلك ما أنقذه لاحقًا في محاولة الاغتيال عام 1984.
=في ما بعد، عرفنا من كان ينوي اغتياله. جاء إليه هذا الشخص، أول ما دخل، ركع أمام الرئيس الحص، وقبّل ركبتيه، وقال له: "سامحني، لم أكن أعلم أنني كنت سأرتكب جريمة باغتيال رجل بهذه الوطنية وهذه القامة". فسامحه الرئيس فورًا، وصفح عنه، لأنه كان لا يحمل حقدًا على أحد.
وللعِلم، لم يوقّع الرئيس سليم الحص في حياته على أي قرار إعدام. لا توجد شهادة توقيعه على أي تنفيذ لعقوبة إعدام بحقّ أيّ إنسان.
وللعِلم، لم يوقّع الرئيس سليم الحص في حياته على أيّ قرار إعدام. لا توجد شهادة تُثبت توقيعه على تنفيذ عقوبة إعدام بحقّ أيّ إنسان. وهذه شهادة لا يملكها أحد غيره.
فنزلنا بالسيارة، وهو عادةً ما تكون ربطة عنقه غير معقودة، وكان يفطر في السيارة، وطوال الوقت، تكون ربطة العنق مائلة. فإذا وجدتها مضبوطة، أقول له: "هناك أمر غير طبيعي اليوم، ربطة عنقك ليست كعادتك!"
كان يقرأ الصحف في السيارة ويضع ملاحظاته على الأخبار والمقالات. وعندما وصلنا إلى باب السرايا، أتذكّر أن امرأة صرخت من بعيد: "الله يطوّل عمرك! الله يخلّي لنا إيّاك!"، دعوات صادقة من القلب.
وعند دخولنا السرايا وصعودنا في المصعد، كان معنا قائد الحرس الحكومي، ضابط يُدعى أبو شوقي. قال له: "دولة الرئيس، تلك الامرأة التي كانت على باب السرايا كانت تريد مقابلتك لأمر طارئ، وهي آتية من الجنوب وبحاجة إلى عملية جراحية، وليس لها أحد في بيروت، ولا يُدخلونها إلى مستشفى الكرنتينا الحكومي".
قال له: "يا ليتكم أخبرتموني منذ البداية. حسنًا، اتركوا الحقيبة في المكتب، وسأنزل إليها".
نزل من مكتبه وتوجّه إلى الباب، وسألها: "كيف يمكنني مساعدتك؟". فأخبرته أنها من الجنوب، وأهلها هناك لا يستطيعون العبور بسبب الحواجز الإسرائيلية، وهي بحاجة إلى عملية عاجلة في الكرنتينا، ولا يُسمح لها بالدخول.
فأمر الضابط أبو شوقي أن يُرافقها بسيارته الخاصة إلى مستشفى الكرنتينا، وقال له: "أنا سأتواصل الآن مع مدير المستشفى، وأنت تُوصلها بنفسك".
وفعلًا، تم إدخالها، وأجريت لها العملية. ولأنها وحيدة، قال له: "اذهب وأحضر أحد أقاربها من الجنوب"، وطلب أن تُخصص سيارة من قوى الأمن لمرافقة القريب، لأن عناصر الأمن يُسمح لهم بعبور الحواجز.
وبالفعل، جلبوا أحد أقاربها، وأمّنوا لها مسكنًا، وأجريت لها العملية. وفي اليوم التالي، وأنا معه، لم يتوجّه مباشرةً إلى السرايا، بل قال لي: "مرّرني على المستشفى لأطمئّن عليها". كان إنسانًا بكل ما للكلمة من معنى.
آلاء ترشيشي:
قبل أن نتابع الحديث عن الرئيس سليم الحص، نتابع سويًا هذا المقطع.
(مقطع مصوّر للرئيس سليم الحص)
آلاء ترشيشي:
انتصار للصمود، انتصار للمقاومة. ماذا كانت تعني المقاومة للرئيس سليم الحص، وكيف نُسقط ذلك على الواقع اليوم؟
رفعت بدوي:
من ضمن وصايا الرئيس الحص، بالتأكيد، العمل الوطني، أي الدفاع عن لبنان بكل ما أوتينا من قوّة، بعروبتنا، بهويّتنا العربية. هو قومي عربي، على فكرة، من الطراز الأول، كان متيّمًا بجمال عبد الناصر، وكان يُشبهه في كثير من الأمور. أنا أشبّهه به، حتى في أخلاقياته الداخلية، ومعاملته مع الدولة.
تخيّلي، في إحدى الرحلات التي كنا ذاهبين فيها إلى نيويورك، قال لي: "أموال الناس أمانة في عنقي، هذه أموال الدولة، أموال الناس، أمانة برقابنا". كي لا أطيل عليكِ، صُرف له 200 ألف دولار. فقال للمندوب المالي: "ماذا سأفعل بها؟ أأشتري مبنى (إمباير ستيت بيلدينغ)؟". قال له المندوب: "دولة الرئيس، هذا ما يحصل مع كل رؤساء الحكومات". فقال له: "لا. أعد 100 ألف إلى الخزينة، وأعطني إيصالًا أنك أعدتها".
هذا كان قبل السفر بيوم. ثم سافر، ألقى كلمة لبنان، وعاد. وعند العودة، سأل المندوب المالي: "كم تبقّى؟"، قال له: "27,900 دولار وكسور". في أول جلسة لمجلس الوزراء، أعاد هذا المبلغ إلى خزينة الدولة، 27,900 وكسور، المتبقية من رحلة نيويورك. هذه كانت سابقة لم يقم بها أحد من رؤساء الحكومات، بحسب تقديري.
فمن ضمن وصاياه كانت الهوية العربية، العمل العربي المشترك. كان حلمه الأكبر أن يحمل مشروعًا يُطبّق على الدول العربية، وهو أن يكون هناك سوق عربي موحّد، كالسوق الأوروبية، وأن تكون هناك عملة عربية موحّدة، كما اليورو في أوروبا، لأنه رأى في ذلك مستقبلًا لأجيال الوطن العربي كله. لكن لم يتجاوب معه أحد.
أسّس "المنظمة العربية لمكافحة الفساد"، وبعدها أسّس "هيئة وطنية مدنية لمكافحة الفساد". ووجدنا أن الفساد أكبر منّا، ليس فقط في لبنان، بل في الوطن العربي ككل.
وفي مرة، كتبت مقالًا في جريدة "الوطن" في سوريا، عن الفساد، وانتقدت فيه ممارسات الفساد. فاتصلت بي المستشارة بثينة شعبان، وقالت لي: "سأعرضه الآن على سيادة الرئيس ليقرأه، كي يعرف إلى أي درجة الفساد مُدمّر للأوطان، وكم من الناس يحاربونه". قلت لها: "شكرًا لكِ".
ومن ضمن وصاياه أيضًا أن يكون لبنان هو الإنسان. وضمن ذلك، فلسطين، القضية الفلسطينية، والمقاومة. وكان يقول: "إيّاكم أن تطعنوا المقاومة في ظهرها، أو تخونوها، أو تُهينوا من شأنها، لأنها السبيل الوحيد للدفاع عن لبنان، في ظلّ عدم القدرة على تسليح الجيش".
آلاء ترشيشي:
وهو كان مقاومًا من موقعه.
رفعت بدوي:
بالتأكيد، وأنا رافقته في زيارات عدّة من أجل طلب المساعدة لتسليح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، لكننا لم نحصل إلا على وعود لم يُنفّذ منها شيء. واكتشف باكرًا أن كل هذه الوعود كانت هباءً منثورًا. لم يكن أحدٌ يريد تسليح الجيش اللبناني ليكون مُدافعًا عن أرضه في مواجهة هذا العدو الإسرائيلي.
وطالما أنّك مؤمن أن هذا العدو هو فعلاً عدو... وهناك ملاحظة بسيطة هنا، لأنكِ سألتني كيف نُسْقط هذا على الواقع. أنا لا أفهم كيف يكون عندك خصم سياسي في لبنان، أفهم أن تخاصمه وألا تتّفق معه على أشياء قد تُفيد البلد، لكن ما لا أفهمه أن تُناصِر العدو الإسرائيلي أو تتماهى مع طروحاته، فقط لأنك تريد الانتقام من خصمك السياسي الموجود في لبنان. هذا شيء لا أفهمه.
لا أفهم أن تتعامل مع الجنوب اللبناني وكأنه قطعة خارجة عن الجغرافيا اللبنانية، وكأن شعبه مثل "الهنود الحمر" في الولايات المتحدة، فقط لأن أكثريّته من الطائفة الشيعية، وهذا ظلم، وحرام. واليوم، دعينا نقولها بكل صراحة: الاستهداف هو استهداف للطائفة الشيعية في لبنان. وهذا شيء مؤلم، مؤلم جدًا.
ونحن، كلبنانيين، يجب أن نقف إلى جانب هذه الطائفة الكريمة، التي كانت في مقدّمة الدفاع عن لبنان، والتي معظمها موجود في الجنوب، وهي أكثر المتضرّرين مما يجري اليوم في جنوب لبنان. تقولين لي لو كان الرئيس الحص موجودًا اليوم.
آلاء ترشيشي:
كيف كان، برأيك، سيكون موقف سليم الحص لو كان موجودًا اليوم، وتحصل كل هذه الانتهاكات الإسرائيلية والاعتداءات؟
رفعت بدوي:
على الأقل، لم يكن سلوكه أو ممارسته ستكون مثل ما يجري اليوم، لأن ما نراه الآن هو انبطاح تام للإرادة الأميركية، إلى درجة أن الجميع يقول إننا أصبحنا في زمن الأميركي والإسرائيلي في المنطقة. وأنا أقول: لا، ليس كذلك.
الرئيس الحص لم يكن ليستسلم. كان يمكن أن يجول العالم، أو يوجّه نداءات إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ليُبيّن ما يُرتَكب بحقّنا. ولم يكن ليقبل بأي من الشروط التي تُطرَح علينا اليوم.
كان صوته سيكون عاليًا جدًا. وأنا أعتقد أننا، لو كان موجودًا، لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
آلاء ترشيشي:
قبل أن نكمل، إسمح لي أن نتابع سويًا هذا المقطع.
(مقطع مصوّر للرئيس سليم الحص)
آلاء ترشيشي:
فلسطين قضية العرب المركزية. إلى أي مدى يُثبت ذلك اليوم أيضًا؟
رفعت بدوي:
آه، هذا سؤال جميل جدًا. أنتِ تلاحظين اليوم، إذا أخذتِ الوطن العربي – ليس بالضرورة لبنان، فلبنان ربما هو الأفضل بينهم – إذا نظرتِ إلى الوطن العربي اليوم، تجدينه فارغًا من الداخل. أصبح المواطن لا يهتمّ إلا بشراء فيلا، أو سيارة، أو تأمين وظيفة لإبنه يعيش منها. شركات، وزارات ترفيه، برامج ترفيه، وسعادة… لا أكثر.
لكن، ما هي قضيّتك في الحياة؟ هل لديك وطن؟ هل هناك جزء من جسدك محتلّ؟ طبعًا نعم. الأموال التي تدخل إلى الدول الخليجية، لا يستطيعون التحكّم بها، لأن الولايات المتحدة هي التي تتحكّم بها، عبر مصارفها. هذا أوّلًا.
وثانيًا، التنمية الموجودة عندنا مُعطَّلة بسبب إسرائيل. لا توجد في الوطن العربي تنمية حقيقية تكنولوجية. لا يوجد تطوّر تكنولوجي. لا مصانع طائرات، لا مصانع ذخيرة محلية، لا تسليح ذاتي. كل شيء مستورَد من الخارج، مع العلم أن قُدرات العرب، من حيث المال والعدد، أكبر من قُدرات الولايات المتحدة، وأكبر من قُدرات إسرائيل في كثير من النواحي.
وهذا شيء يؤخّرنا، لأن العرب اليوم أصبحوا – لا أريد أن أقول "تخلّوا" – لكنهم ابتعدوا عن درب فلسطين.
آلاء ترشيشي:
ورغم ذلك، الخطر يطرق أبواب هذه الدول العربية.
رفعت بدوي:
بالتأكيد. وآخر مثال هو ما يحصل الآن مع مصر، التي أبرمت اتفاق سلام مع العدو الإسرائيلي. اليوم، عين الإسرائيلي على الجيش المصري. هناك حديث كثير، بأن الجيش المصري بدأ يتعاظم، ويمكن أن يُشكّل خطرًا علينا. بل إن أحد الكتّاب الإسرائيليين، هيرتزوغ، يقول: "الصِدام مع الجيش المصري قادم، عاجلًا أم آجلًا".
وهذا دليل أنه، حتى لو أبرمت سلامًا مع إسرائيل، فإسرائيل لا تعنيها اتفاقات السلام. هي تريد فقط أن تكفّ شرّك عنها، لا أكثر. لكنها، في الوقت ذاته، تريد تعطيل مسارك التنموي، كي تبقى هي الأقوى. تُعطّل وعيك، تعلّمك، ثقافتك، تطوّرك، فقط لتبقى هي في مأمن. ليس لأنها تريد أن =تُشاركك في التنمية أو التكنولوجيا أو التقدّم، بل فقط لتُبقيك متأخّرًا، وهي الأقوى.
آلاء ترشيشي:
ما نعيشه اليوم في لبنان، في سوريا، في فلسطين...
رفعت بدوي:
فقط دعيني أكمل هذه الفكرة، لأنها مهمّة. كل الوطن العربي اليوم أصبح فارغًا، لأنه تخلّى، ولم يعُد لديه قضية.
آلاء ترشيشي:
هذا كلّه هو من إرهاصات "الشرق الأوسط الجديد".
رفعت بدوي:
بالضبط. وأنا أقول إن كل =من يتحدّث عن "الشرق الأوسط الجديد"، هو فعليًا يتحدّث عن مشروع "إسرائيل الكبرى"، من النيل إلى الفرات. لا يوجد شيء اسمه "شرق أوسط جديد".
ما يُنفّذ اليوم هو مشروع "إسرائيل الكبرى". هو قَيْد التنفيذ، والبعض يُسهّل له الطريق، بقصد أو من دون قصد.
انظري، انظري ماذا حصل في سوريا، ماذا حصل على بُعد عشرة كيلومترات من دمشق. هذا لم نكن نحلم أن نراه. كل ما يجري هو من إرهاصات التخلّي عن القضية الفلسطينية.
الرئيس الحص، رحمه الله، كان يقول: "عندما تنزل درجة واحدة في التسوية، فإنك تبدأ سلسلة من التنازلات". وكان لديه قناعة بأن فلسطين: إما أن تكون من البحر إلى النهر، أو أن الإرهاصات ستبقى تتساقط علينا في هذا الوطن العربي.
آلاء ترشيشي:
لكن ما يحصل اليوم، يحدث بخطى مُتسارِعة.
رفعت بدوي:
لأنه لم تعُد هناك مواجهات، وحتى ما يُسمّى "الوساطات" لوقف إطلاق النار... معقول هناك مجازر تُرتَكب في غزّة، مجازر تُرتَكب في جنوب لبنان، مجازر في كل مكان يستبيحه هذا العدو الإسرائيلي: في اليمن، في أية بقعة في العالم، من دون محاسبة، من دون وازِع، من دون رادع.
وهناك من يقول في الداخل اللبناني: سنحرّر الأرض بالدبلوماسية. لا، لا. الأرض لا تُحرَّر بالدبلوماسية. لأن العدو الإسرائيلي، منذ عام 1947 حتى اليوم، لم يلتزم مرة واحدة بأي قرار صادر عن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن. وكل هذه القرارات لم تُحرّر شبرًا واحدًا، لا من فلسطين، ولا من أي وطن عربي.
آلاء ترشيشي:
برأيك، هل نحتاج اليوم إلى رجال دولة ورجال مقاومة كالرئيس سليم الحص والسيّد حسن نصر الله؟
رفعت بدوي
أضيفي إليهما أيضًا فخامة الرئيس إميل لحود.
أنا أقول إنني، كل يوم، أتحدّث مع الرئيس الحص، وأقول له: "كم نحن بحاجة إليك". واليوم أيضًا، أتحدّث مع سماحة السيّد – السيّد حسن نصر الله – وأقول له: "بكّرت علينا، كنا بحاجة إليك كثيرًا".
ثم أقول: فخامة الرئيس إميل لحود، أطال الله عمره، بكل أمانة، لبنان عرف في عهده الكرامة والوطنية والإباء وعزّة النفس، لأنّ الرئيس إميل لحود، وكذلك الرئيس سليم الحص، الإثنان لم يكونا يطلبان شيئًا لأنفسهما، كانا يريدان بناء وطن. كانا يريدان بناء بلد حصين في مواجهة العدو الإسرائيلي.
ولعلّ الرئيس إميل لحود، معروفة تلك القصة التي حصلت معه، حين اتصل به الأميركيون. رفض، وأقفل الخط في وجههم، عندما حاولوا المساس بكرامة لبنان. وأنا آسف جدًا أننا وصلنا إلى مرحلة نرى فيها بعض المسؤولين في لبنان منبطحين للإرادة الأميركية، ويقولون: "لا يوجد لدينا بديل".
كلا، لدينا بديل. وحدتنا هي البديل. إن توحّدنا، ننتصر. وإن لم نكن موحّدين، فلن ننتصر على العدو الإسرائيلي. هذا أمر في غاية الأهمية.
وأنا، كما قلت لكِ، آسف جدًا أن أرى بعض اللبنانيين يتماهى مع مواقف العدو الإسرائيلي، انتقامًا من خصمه السياسي في الداخل اللبناني. هذا شيء لا أستطيع أن أفهمه. لا أستطيع أن أتحمّله شخصيًا.
أنا إنسان عروبي، هويّتي عربية. اليوم، قولي لي: ما هي هويّة لبنان؟ ما هي هويّة العراق؟ ما هي هويّة السودان؟ أو ليبيا؟
ضاعَت هويتنا. لماذا؟ لأننا تخلّينا عن القضية الأمّ، التي هي القضية الفلسطينية.
هذه المجازر التي تحصل في غزّة، لا تصيب غزّة فقط، بل تصيب كل وطن عربي، كل إنسان عربي لديه إنسانية.
الإنسانية ماتت في هذا العالم، في رأيي، والقوّة اليوم أصبحت "حق القوّة"، وليس "قوّة الحق".
آلاء ترشيشي:
في الختام، أريد منك، أستاذ رفعت بدوي، أن تنظر إلى هذه الكاميرا، وتوجّه رسالة مباشرة إلى شخصية تختارها.
رفعت بدوي:
سأوجّه أولًا رسالتي إلى دولة الرئيس سليم الحص.
أقول: سأبقى، وعدًا، وفيًا لكل المبادئ، ولكل التربية التي ربيّتني عليها، ولكل الالتزام بالقضية الفلسطينية. وسيبقى موقفي، طالما أن لبنان عاجز عن الدفاع عن نفسه بقواه الذاتية، أن أناصِر المقاومة وأؤيّدها، في مواجهة هذا العدو الإسرائيلي، حفاظًا على بلدنا. هذا أولًا.
ثانيًا، كلامي لفخامة الرئيس إميل لحود: أنت الرئيس الذي حفظ كرامة لبنان. وفعلًا، كنّا فخامة في عهد فخامتك. أحسسنا أننا فخامة في عهد فخامة الرئيس.
أمّا لسماحة السيّد حسن نصر الله، أقول: ما زلت أحتفظ بالشال الذي أهديتني إيّاه. كنتُ أشعر بالبرد عندك، خلال اجتماع، فخلعت الشال عن رقبتك وأعطيتني إيّاه. ولا زلت أشتمّ رائحتك فيه، وأحتفظ به. ونحن بحاجة إليك، كنت البركة. والبركة الآن في الشيخ نعيم قاسم، الله يكون بعونه. هو يحمل عبئًا كبيرًا.
وإن شاء الله، لا يُهوّل أحدٌ، ولا يُعلن أحد أن لبنان أو المقاومة قد انكسرت. لا، المقاومة لم تُهزم. هي جُرِحَت، لكنها لم تنكسر. ولن ترفع الراية البيضاء.
وأعد الشخصيات التي ذكرتها، بأننا سنعمل جميعًا من أجل النصر، ومن أجل تحرير فلسطين، حتى آخر رمق في حياتنا.
آلاء ترشيشي:
أستاذ رفعت بدوي، شكرًا جزيلًا لك على مشاركتك معنا كل هذه الآراء، هذه المبادئ، وهذه الذكريات.
رفعت بدوي:
شكرًا جزيلًا.
آلاء ترشيشي:
مشاهدينا، شكرًا لكم لحُسن المتابعة. في أمان الله.