فاطمة الطرطوسي "تطرب" بطَرق ونقش النحاس

تتحدث فاطمة الطرطوسي عن رغبتها الشديدة بالعمل في طَرق ونقش الأواني، وشغفها بمهنة عايشتها منذ الطفولة، وتتساءل "أين العيب في عمل أنثى بالنحاس؟"، راويةً إن الوالد لم يكن متعاطفاً معها في خيارها المضني.

0:00
  • فاطمة الطرطوسي
    فاطة الطرطوسي تعمل بالمطرقة والسندان في محلها  

من الصباح حتى المساء، لا تكفّ فاطمة الطرطوسي عن طَرق ونقش النحاس، المهنة التي توارثتها عن أجدادها، حتى احترافها، وأمست مصدر حياتها المادية والروحية.

وفاطمة مواليد 1977، من عائلة معروفة بتراث إنتاج النحاس، طَرقاً، وتصنيعاً، وتسويقاً، ويمكن اعتبارها عمود من أعمدة سوق النحاسين في طرابلس، قبل أن تتفرق عائلة صانعي النحاس كل في اتجاه، بحثاً عن أماكن أكثر هدوءاً، وتلاؤماً مع مهنتهم، لذلك انتشروا في عدد من أحياء المدينة، مثل منطقة الخناق حيث يقع فيها محترف فاطمة، أو في مدينة القلمون حيث كانت تعبر طريق طرابلس-بيروت، فوجد كثيرون بإقامة أعمال عليها فرصة جيدة للتسويق، فآلاف الناس كانوا يعبرون الطريق ذهاباً وإياباً إلى بيروت.

وعلى الرغم من تحوّل الطريق القديمة إلى أوتستراد دولي يعبر منطقة أعلى من القلمون، إلّا أن العديد من المهنيين، ومنهم مهنيو النحاس، لا يزالون يتّخذون من محلات القلمون على الطريق العام، مشاغل لهم، وعادت تتردّد في أنحائها بعض أصداء سوق النحاسين القديم في طرابلس، مُذَكِّرة بعصر الأسواق المتخصصة التقليدية، كسوق الحدادين، والنجارين، و"الكندرجية"، والخياطين الذين كان لهم خان خاص بهم لا يزال لليوم قِبلة آثار المدينة، وأجمل تشكيلاتها الأثرية.

 ظاهرة فريدة.. وشغف بالتراث

وبالعودة إلى فاطمة التي تشكّل ظاهرة فريدة لأنثى تمتهن مهنة خاصة بالرجال، إلّا إنها لا تجد عيباً في ذلك، خصوصاً بعد أن أحبّت المهنة منذ طفولتها وهي في الثامنة من العمر، يوم كانت تقصد مشغل والدها حيث تعمل حالياً، وكان يلفتها جمال التشكيل النحاسي، وفنونه، وتقنيات صناعته المتنوّعة، وكانت تطلب من والدها السماح لها بتجربة  الطَرق على نحاسيات بسيطة، فازدادت وَجْداً بالمهنة، وظلّت تقصد المشغل في فصل الصيف، حيث العطلة المدرسية.

تتحدث فاطمة لـ "الميادين نت" عن رغبتها الشديدة بالعمل في هذه المهنة، وشغفها بمهنة عايشتها منذ الطفولة، وتتساءل "أين العيب في عمل أنثى بالنحاس؟"، راويةً إن الوالد لم يكن متعاطفاً معها في خيارها المضني، وكان يريد لها استكمال دراستها إلى جانب شقيقاتها الثلاث.

فاطمة "تتحدى" وتنزل إلى العمل!

الطرطوسيون (نسبة إلى عائلة الطرطوسي)، نحاسّون منذ القدم، وكان الأخوة، وأبناء العمومة، يتوارثون محترفات آبائهم بالشراكة، ويعملون معاً، يتقاسمون العمل والأرباح، لكن ذلك لم يَحُلْ دون وقوع اختلافات في وجهات النظر بين الشركاء، كما في أغلب الاحيان، فكانوا ينقسمون، ويختلفون، ويحاول كل منهم شدّ الحبل لصوبه.

هذا ما حصل مع والد فاطمة وأخيه، كما تفيد، وجرت بعض تجاذبات بينهما، كلٌّ يريد المحترف له ووفق شروطه، وذات مرّةٍ، سمعت فاطمة والدها يُخبر زوجته أن "أخوه، وأبناؤه يراهنون أن لا أستطيع القيام بالمهمة، حيث إنه ليس لي أبناء ذكور، بينما هم يشكّلون فريق عمل متعاون من شأنه درّ الكثير من الأرباح، وتخفيف أجور المعلمين"، كما روت فاطمة.

  • شغل يد فاطمة: منتجات من نحاس وألمنيوم ..
    شغل يد فاطمة: منتجات من نحاس وألمنيوم ..

"عندما سمعت ذلك، قرّرت النزول إلى العمل، وطلبت من والدي قبول الفكرة، لكنّه تمنّع، وكنت أجدّ في العمل الدائم معه،هوايةً لا بل شغفاً، ، إضافة إلى مساعدته في التحدي مع عمي وأبنائه"، تقول فاطمة، مضيفة: "كان عليّ أن أقنع والدتي بالفكرة لكي تقنع والدي، وأكّدت لها إن هذا قراري، ولا أريد متابعة دراستي كما فعلت شقيقاتي".

كان للحِرفية المحترِفة ما أرادت..

في المحصلة، كان لفاطمة ما أرادت، وقبِل والدها بدخولها العمل معه بصورة احترافية، فكانت مُتعتها أن تجلس خلف السندان (كُتلة حديد صُلب مُركَّزة فوق قاعدة يطرُق الحدّاد عليها الحديد)، تثبت عليها قالباً حديدياً يعطي شكلَ الوعاء الذي تريد، تحمل مطرقة، وتختار من وعاء قريبٍ منها، سُنْبُكاً حاداً ( استخدام أداة تستخدم لتوسيع الثقوب أو لضبط مواضعها بدقة قبل عمليات أخرى كالثقب أو البرشمة)،يُلائم النقش الذي تريده، وتبدأ بالطَرق غارقة في متاهاته، وتاركةً خلفها كل ما هو مقلق أو مزعج في الحياة.

وساعد طرقُ النحاس الذي أحبته منذ صغرها، فاطمة في أزمات مرّت بها، وكأنها كانت تُعِدُّ العدّة لما ينتظرها في المستقبل- أي الراهن. فقد تزوجت، وأنجبت صبيين وفتاتين، لكن الخلاف وقع في عائلتها، وانفصلت عن زوجها، وعادت تعيش، وتعمل مع أهلها.

شكّلت مع شقيقاتي نصف الفريق.. 

لم يمضِ وقت طويل، حتى لمسَ الوالد أن فاطمة تعطي بشكلٍ جيد، لكنه غير كافٍ، وتقول فاطمة: "مهما كانت مهاراتي متقدّمةً، فأنا لم أصل إلى مرحلة العطاء التي يصلها معلّم النحاس المحترف، وبعد أن كان الوالد معارضاً لعملي معه، أصبح مقتنعاً بأن شقيقاتي الباقيات يمكن أن يساعدنه لإتمام تخرجهن إلى الحياة، فطلب من إحداهن الالتحاق بي في المشغل، وكان ذلك، وبات عملنا نحن الاثنتين يجني بمقدار معلّم محترف وأكثر". 

ومع مرور الوقت، وحاجة العائلة، التحقت بقية الشقيقات بالمشغل، وصرن يساعدن الوالد، ما أعطى قدرة للمشغل على الاستمرارية، والتطور، فـ"نحن بتنا نشكّل نصف الفريق الذي يحتاجه مشغل "طرطوسيُّ" العنوان"، بحسب فاطمة.

انطلق الوالد بمشغله، ونجح نجاحاً باهراً، وبعد أن كانت رفوف المشغل وخزائنه تضم عشرات القطع المصنّعة، بات المحل مليئاً بالنحاسيات الجاهزة للسوق، أو المُنْجَزة بناء على طلب زبون.

  • حرصت الطرطوسي على تعلّم مهنة الأجداد
    حرصت الطرطوسي على تعلّم مهنة الأجداد

ومع تنامي العمل، ومدخوله المادي، "كان على الوالد أن يستعين بالمزيد من المعلمين علاوة على بناته الأربع، وصار يعمل في المشغل ما بين 8 و 10 معلّم وعامل، و"هنا بدأت شقيقاتي بالتفكير بالعودة إلى مدارسهن،و جامعاتهن، فتركن المشغل، لكنني بقيت فيه بسبب حبيّ للمهنة"، كما قالت.

يعاون فاطمة ابنها الأصغر بين الفينة والفينة، منتظراً دخول الجامعة لمتابعة دراسته، لكن فاطمة مندمجة في عملها ولن تفارقه.

ما هي المصنوعات النحاسية؟

يتم تسويق النحاس بناء على طلب الزبائن، أو عبر أسواق نحو الدول العربية، وتركيا، وأحياناً إلى الدول الأبعد، وتستغرب فاطمة كيف تمرّ عدة أسابيع أو شهور، فيتوقف الطلب على النحاس، وتقول: "فجأة نجد أن الطلب عاد بزخم، وضغط طلبات ننوء تحت وطأتها لكي نستطيع تلبية طلبات الزبائن".

مصنوعات فاطمة، ككل النحاسين، تتراوح بين الأوعية مثل "الركوات" (غلايّات القهوة)، والطناجر، والأباريق، ومصبات القهوة، ومستوعبات الضيافة، والأراكيل وسواها مما لا يحصى، وتصنع إلى جانب النحاس، الألمنيوم لأنه أقل تكلفة، وأخفّ وزناً، وعليه طلب خاص.

اقرأ أيضاً: حرفة طَرْق النحاس تتراجع في لبنان

تبدو فاطمة سعيدة في عملها، ونجاحها، وتختم: "لن أتوقف عن طرق النحاس، فصناعتها هوايتي، وصوت الطَرق يطربني في كل طرقةٍ من طرقاته". 

اخترنا لك