"فورين أفيرز": هل تنجو الشراكة بين الهند والولايات المتحدة من ترامب؟
منذ مطلع القرن الجاري تشهد العلاقات بين الهند والولايات المتحدة تقارباً غير مسبوق، عزّز تعاونهما الاقتصادي والاستراتيجي، لكن في الأشهر الماضية، انحرفت علاقات البلدين في إثر عودة ترامب.
-
هل تنجو الشراكة بين الهند والولايات المتحدة من ترامب؟
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تدهور العلاقات بين الهند والولايات المتحدة في عهد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بعد فترة طويلة من التقارب الاستراتيجي والاقتصادي بين البلدين منذ مطلع القرن.
يشرح المقال كيف أنّ سياسات ترامب، مثل فرض رسوم جمركية مرتفعة، والتقارب مع باكستان، والسعي لعقد صفقة مع الصين، قوّضت الشراكة التي بنتها نيودلهي وواشنطن على مدار 25 عاماً.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
منذ مطلع القرن الجاري تشهد العلاقات بين الهند والولايات المتحدة تقارباً غير مسبوق، عزّز تعاونهما الاقتصادي والاستراتيجي. وقد ارتكزت شراكتهما على قيم ومصالح مشتركة، كأكبر "ديمقراطيتين" في العالم من حيث عدد السكان متعدّدي الثقافات، وكلا البلدين يقلقهما صعود الصين، الجارة الشمالية للهند.
لكن في الأشهر الماضية، انحرفت علاقات نيودلهي بواشنطن التي بنيت بعناية فائقة عن مسارها فجأة، بينما يتكشّف أنّ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تهدّد بإلغاء إنجازات ربع قرن.
ولقد تجاهلت تصرّفات ترامب العديد من المخاوف الجوهرية للسياسة الخارجية الهندية، متجاوزة الخطوط الحمر الحسّاسة التي كانت الإدارات الأميركية السابقة تميل إلى احترامها، حين كانت الولايات المتحدة تعامل الهند ذات يوم كشريك مهم في آسيا.
حالياً تواجه الهند أعلى معدل تعريفة جمركية أميركية بلغت 50%، وهي عقوبة أميركية لشراء الهند للنفط الروسي بعد غزو أوكرانيا عام 2022، حيث تجد الهند نفسها مع معدل تعريفة جمركية أعلى من الصين، الدولة التي أرادت واشنطن على نحو دائم من نيودلهي المساعدة على احتوائها.
حقيقة يبدو ترامب أكثر حرصاً على إبرام صفقة مع الصين من التراجع عن موقفه المتشدّد تجاه الهند. وممّا زاد الطين بلة، إعلان ترامب عن صفقة مؤخراً مع باكستان خصم الهند التقليدي، تتضمّن عمل الولايات المتحدة على تطوير احتياطيات النفط الباكستانية.
وقد جاءت مشكلات الرسوم الجمركية عقب صدمة أخرى للنظام الهندي، حين تدخّل ترامب في أيار/مايو الماضي لفضّ اشتباك ناري بين الهند وباكستان، وأعلن الرئيس الأميركي من جانب واحد أنّه توسّط في وقف إطلاق النار بين البلدين، بينما نفت الهند زعم ترامب بشدة، إذ لطالما قاومت نيودلهي أيّ وساطة خارجية في نزاعاتها مع إسلام آباد، وحرص المسؤولون الأميركيون على عدم الإساءة إلى الحساسيات الهندية في هذا المجال.
لكنّ ترامب عزّز موقفه، ربّما بعد أن شعر بالإهانة من ردّ الفعل الهندي، تماماً كما غمرته السعادة من قبول باكستان الفوري وقف إطلاق النار، وترشيحها له لجائزة نوبل للسلام.
كلّ ذلك يغضب المسؤولين الهنود بشدة، لكنّهم يدركون أنّ الغضب لن يجدي نفعاً حيثما يفشل المنطق. وحالياً، قرّرت نيودلهي انتظار زوال العاصفة، ودرس ردودها بعناية لتجنّب تأجيج الوضع أكثر، موحية للجمهور المحلي بأنّها لا تذعن ببساطة للبيت الأبيض.
لا شكّ في أنّ تداعيات تنمّر ترامب يؤثّر بعمق على الاستراتيجية الهندية، فقد قلبت سياسة ترامب الخارجية الافتراضات الجيوسياسية الرئيسية لنيودلهي رأساً على عقب، وهزّت أسس الشراكة الأميركية الهندية، بينما أثبتت سياسة الهند المفضّلة في إقامة تحالفات متعدّدة عدم فعّاليتها.
مع ذلك، لن تشجّع تصرّفات ترامب على مراجعة جذرية للسياسة الخارجية الهندية. بدلاً من ذلك، ستجري نيودلهي مسحاً للمشهد الجيوسياسي المتغيّر، ومن المرجّح أن تقرّر أنّ ما تحتاجه هو علاقات أكثر إنتاجية، لا علاقات أقل. ولحماية نفسها من تقلّبات إدارة ترامب، لن تتخلى الهند عن التحالفات المتعددة، بل ستسعى إليها بقوة أكبر.
منذ استقلالها عام 1947، اتّبعت الهند في الغالب سياسة عدم الانحياز، متجنّبة التحالفات الرسمية والانجرار إلى التكتلات المتنافسة. وقد حدّدت هذا الموقف إلى حدّ كبير عبر دبلوماسيتها خلال الحرب الباردة، ولكن بدأ يتغيّر بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، حينها فتحت الهند اقتصادها وسعت لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة. أمّا الآن، فيؤكد مجتمع السياسة الخارجية الهندية الالتزام بتعددية التحالفات، التي تشمل تنويع الشراكات، ورفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية، وتعزيز نظام عالمي متعدّد الأقطاب لا تهيمن فيه قوة عظمى واحدة.
هذه السياسة مدفوعة بالبراغماتية والأمل في أن تكون الهند قطباً في النظام المقبل. ويعتقد صانعو السياسات الهنود أنّه لا يمكن تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية للبلاد من خلال شريك أو تحالف واحد، ويفترضون أنّ الهند يمكنها الحفاظ على علاقاتها، على سبيل المثال، مع دول مثل إيران وروسيا مع الاستمرار في العمل بشكل وثيق مع "إسرائيل" والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه بناء تحالفات في الجنوب العالمي مع دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا.
لقد تصوّرت نيودلهي أنّ واشنطن ستتسامح مع هذا السلوك، لأن لا غنى عنها بالنسبة للولايات المتحدة خاصة في ظل المنافسة الأميركية مع الصين والصراع الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ترامب لا يرى الهند لاعباً محورياً آسيوياً
لقد هزّت عودة ترامب إلى البيت الأبيض أسس استراتيجية الهند، وتحدّت افتراضات نيودلهي الراسخة. ومع دخول الرسوم الجمركية الأميركية حيّز التنفيذ، سيواجه الاقتصاد الهندي رياحاً معاكسة متزايدة، من المرجّح أن تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي. ويبدو أنّ العلاقات الأميركية مع باكستان تزداد قوة، بينما تشعر الهند الآن بأنّها مهمّشة بشكل متزايد في مشهد جيوسياسي صعب.
لقد افترضت الهند أنّها أدّت دوراً حاسماً في منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، في حين بدت باكستان هامشية في هذه المنافسة الأوسع، خاصة بعد أن سهّلت مؤسستها الأمنية عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021. على الرغم من رفضها إدانة روسيا لمهاجمتها أوكرانيا، ظلت الهند شريكاً مفضّلاً لكلّ من الولايات المتحدة وأوروبا. ففي النهاية، عزّزت رؤية واشنطن لنيودلهي كثقل إقليمي محتمل بمواجهة بكين.
كذلك أتاحت حرب روسيا على أوكرانيا للهند فرصة فريدة لإثبات سياستها القائمة على تعدّد التحالفات وتعزيز مكانتها في الجغرافيا السياسية العالمية. وفي هذه العملية تمكّنت الهند من الحفاظ على علاقاتها مع كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا، حتى مع شرائها النفط الروسي بأسعار مناسبة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تصرّفت أحياناً في جنوب آسيا بطرق أغضبت الهند، على سبيل المثال عندما لم تفعل شيئاً لمنع الإطاحة بزعيم موالٍ للهند في بنغلاديش عام 2024، فإنّ المسؤولين الهنود ما زالوا يعتبرون التدخّل الأميركي في المنطقة مفيداً إلى حد كبير، وتأكيداً بأنّ الولايات المتحدة تعتبر شبه القارّة الهندية جبهة رئيسية في منافستها الأكبر مع الصين.
لقد عقّدت عودة ترامب إلى البيت الأبيض جميع افتراضات نيودلهي. فبدلاً من الاستعداد لمنافسة القوى العظمى، يجوب الرئيس الأميركي العالم بحثاً عن مكاسب قصيرة الأجل. ومن هذا المنظور، تجني الولايات المتحدة من الصين مكاسب أكبر بكثير ممّا تجنيه من الهند، وفي ظل هذا يتقلّص الدور الجيوسياسي للهند.
لطالما حافظت الحكومات الهندية على هيكل تعريفات جمركية مرتفع لحماية التصنيع والزراعة المحليين، وتوليد الإيرادات، وإدارة الموازين التجارية. وبرّرت تلك التعريفات بأنّها ضرورية لاقتصادها النامي، لكنّ الولايات المتحدة غير راضية عن العجز التجاري المستمر في تبادل السلع مع الهند، والدعم الزراعي الذي يحدّ من وصول الولايات المتحدة إلى السوق الهندية، والمناورات الجيوسياسية الشرهة لنيودلهي، من ضمنها انضمامها إلى مجموعة "بريكس"، واعتمادها المستمر على النفط والمعدات الدفاعية الروسية.
ولقد كانت الحكومات الأميركية تتغاضى عن هذه الصعوبات، ممّا سمح للهند بتحرير اقتصادها وفكّ الارتباط عن روسيا بوتيرتها الخاصة، لكنّ إدارة ترامب ليست صبورة إلى هذا الحدّ مع نيودلهي.
وبينما يستعدّ ترامب لاجتماع قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأسبوع، يسعى إلى معاقبة الهند على شرائها النفط الروسي، وهي سياسة شجّعتها الولايات المتحدة سابقاً. كما أنّ وجود ترامب في البيت الأبيض، أصبح لدى روسيا خيارات أكثر وحاجتها للهند أقل.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض ألغت جميع افتراضات نيودلهي. فبدلاً من الاستعداد لمنافسة القوى العظمى، يجوب الرئيس الأميركي العالم بحثاً عن مكاسب قصيرة الأجل. ومن هذا المنظور، تجني الولايات المتحدة من الصين مكاسب أكبر بكثير ممّا تجنيه من الهند، وفي ظلّ هذا يتقلّص الدور الجيوسياسي للهند.
لطالما حافظت الحكومات الهندية على هيكل تعريفات جمركية مرتفع لحماية التصنيع والزراعة المحليين، وتوليد الإيرادات، وإدارة الموازين التجارية. وبرّرت تلك التعريفات بأنّها ضرورية لاقتصادها النامي، لكنّ الولايات المتحدة غير راضية عن العجز التجاري المستمر في تبادل السلع مع الهند، والدعم الزراعي الذي يحد من وصول الولايات المتحدة إلى السوق الهندية، والمناورات الجيوسياسية الشرهة لنيودلهي، من ضمنها انضمامها إلى مجموعة "بريكس"، واعتمادها المستمر على النفط والمعدات الدفاعية الروسية.
ولقد كانت الحكومات الأميركية تتغاضى عن هذه الصعوبات، ممّا سمح للهند بتحرير اقتصادها وفك الارتباط عن روسيا بوتيرتها الخاصة، لكن إدارة ترامب ليست صبورة إلى هذا الحد مع نيودلهي.
وبينما يستعد ترامب لاجتماع قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأسبوع، يسعى إلى معاقبة الهند على شرائها النفط الروسي، وهي سياسة شجّعتها الولايات المتحدة سابقاً. كما أنّ وجود ترامب في البيت الأبيض، جعل لدى روسيا خيارات أكثر وحاجتها للهند أقل.
أيضا تشعر موسكو بالتزام متضائل تجاه نيودلهي، وهي غير مستعدة لتقديم دعم أكثر مما تتلقّاه، وهو ما يفسّر دعمها الفاتر خلال الاشتباك العسكري الهندي مع باكستان، والتزمت موسكو بالدعوة ببساطة إلى تسوية الخلافات دبلوماسياً. بمعنى ما، ردّدت روسيا رسائل الهند نفسها بعد الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.
ومع ذلك، أثارت التصريحات قلق مراقبي روسيا في نيودلهي، الذين توقّعوا أن يقف الكرملين إلى جانب الهند، ويدين باكستان، ويؤكّد حقّ الهند في الردّ تماماً كما فعلت "إسرائيل" في دعمها الكامل للهند.
ويعتقد المحللون الهنود في أنّ روسيا امتنعت من القيام بذلك لأنّها لا تريد إثارة غضب الصين، التي أصبحت شريكاً استراتيجياً وثيقاً لباكستان، وزوّدتها بقدر كبير من الأسلحة الجديدة.
في المستقبل، من المرجّح أن تعطي روسيا الأولوية لعلاقاتها الوثيقة مع الصين على علاقتها المتدهورة مع الهند. بعد أن استشعرت موسكو انتصارها في أوكرانيا، باتت لديها أولويات جديدة، وهي تبحث الآن عن شركاء قادرين ومستعدين لتحدّي الولايات المتحدة وأوروبا، لا مجرّد عرض علاقات تجارية.
والصين قادرة على ذلك، لكنّ الهند مهتمة بالتجارة فقط. لذلك، قد تتردّد روسيا في دعم الهند في أيّ صراع هندي باكستاني مستقبلي، نظراً لعلاقاتها الجيدة مع باكستان أيضاً. وكلّ ذلك يشي بأنّ روسيا لن تقدّم الكثير لمساعدة الهند في أيّ صراع مستقبلي مع الصين.
إنّ لا مبالاة ترامب النسبية تجاه جنوب آسيا ستعني حتماً إعفاء للصين، التي ستحاول ترجيح كفّة ميزان القوى الإقليمي من خلال تنمية العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دول جنوب آسيا. وكانت المعدات والخبرات العسكرية الصينية قد عزّزت القدرات التقليدية لباكستان التي ساعدت قواتها على تخطّي الدفاعات الهندية.
كما أنّ الصين تنخرط اليوم بشكل مباشر في شؤون جنوب آسيا أكثر من أيّ وقت مضى، وسيكون لصناعتها الدفاعية دور متزايد في الصراعات العسكرية المستقبلية في المنطقة. وإذا استطاعت الصين التوغّل بشكل أعمق في جنوب آسيا، فسيكون ذلك بفضل ترامب الذي يسعى لإبرام صفقة تجارية مع الصين، بينما يحاول إخضاع الهند، ولا يبدي اهتماماً يذكر بالمصير الجيوسياسي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بشكل عام، وجنوب آسيا بشكل خاص، ممّا يعزّز من نفوذ بكين على حساب الهند دائماً.
تصوّرت الهند أنّها ستستفيد من منافسة القوى العظمى، فحاولت أن تناور بين الصين وروسيا والولايات المتحدة لمصلحتها الخاصة. وقد نجحت هذه الخدعة حتّى تغيّرت ديناميكيّات تلك المنافسة بشكل جذري. وفي حين ترى نيودلهي دورها كلاعب رئيسي محوري في آسيا، حرّر ترامب المسؤولين الهنود من هذه الفكرة الوهمية لأنّه لا يرى ذلك.
في عالم كهذا، تتراجع أهمّية الهند الجيوسياسية بشكل كبير. وهذه ليست محنة الهند فحسب، بل إنّ الوضع في أوروبا وبين حلفاء أميركا في آسيا مشابه. ومن المؤكّد أنّ نيودلهي تنظر بقلق بالغ إلى نهج واشنطن التصالحي تجاه بكين. وقد بدأت بالفعل في التفكير في كيفية تعزيز دفاعاتها، وتأمين منصات أسلحتها، وإقامة شراكات وسلاسل توريد موثوقة.
سيدفع تواصل ترامب وموسكو مع بكين نيودلهي إلى أن تحذو حذوهما، مما يعكس سياسة الهند السابقة المتمثلة في النأي بنفسها تدريجياً عن الصين وروسيا. لقد خضعت سياسة الهند في تعدّد التحالفات لاختبار ضغط جيوسياسي، وخرجت منه منهكة إلى حدّ ما، بينما المسؤولون الهنود لا يزالون مخلصين لنهجهم القديم.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.