"فورين بوليسي": ما هي نقطة التحوّل في غزة؟

 بعد ما يقرب من عامين من الحرب، تشعر "إسرائيل" بثقل متزايد من الاستهجان حكومات العالم.

  • "فورين بوليسي": بعد ما يقرب من عامين من الحرب على غزّة، تشعر "إسرائيل" بثقل متزايد من استهجان حكومات العالم.

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يناقش التحوّل المتزايد في المواقف الدولية والشعبية تجاه "إسرائيل" بسبب حرب غزة، مع التركيز على خطوات سياسية أوروبية جديدة، وتدهور صورة "إسرائيل" عالمياً.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في تموز/يوليو، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ فرنسا تعتزم الاعتراف بدولة فلسطينية، لتنضم بذلك إلى أكثر من 100 دولة عالمية، معظمها غير أوروبية، سبق أن فعلت ذلك. وكان قراره بمنزلة تحذير واضح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن سلوك "إسرائيل" في غزة. وتأكدت هذه النقطة بشكل أكبر في الأيام التالية بإعلان نية المملكة المتحدة الاعتراف بدولة فلسطينية إذا لم يُحرز أي تقدم نحو وقف إطلاق النار قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر.

بالنسبة إلى فرنسا والمملكة المتحدة، فإن قرار الاعتراف بدولة فلسطينية لا ينبع من شعور بأن هذه البادرة الرمزية في الغالب ستنجح، بل من حقيقة أنها ستزيد الضغط على نتنياهو لتغيير مساره. ومع ذلك، فهذه ليست سوى التطورات الرئيسية لفترة استمرت أسابيع عدة، حيث بدا وكأن تيار الرأي العام العالمي والإجراءات الحكومية قد تحوّل من التردد واللامبالاة تجاه غزة، إلى شعور أكثر صراحةً بالاشمئزاز الشعبي والاستعداد لانتقاد "إسرائيل". حتى صحيفة "فري برس" التي أسستها باري فايس، وهي من أشد المدافعين عن الصحافة المؤيدة لـ "إسرائيل"، نشرت مقالاً يجادل بأنه على الرغم من استحالة معرفة ما إذا كانت جرائم ضد الإنسانية تُرتكب في غزة، فإن الاحتمال قائم.

بطريقتها الخاصة، تُعدّ هذه الجهود الرامية إلى تبرئة مواطني "إسرائيل" استباقياً من أفعال يُحتمل أن تُنفّذ باسمهم اعترافاً بمدى تحوّل النقاش العالمي: حتى أشدّ مؤيدي "إسرائيل" في الغرب أعربوا عن قلق متزايد بشأن الضرر طويل الأمد الذي قد يلحق بصورة البلاد العالمية. من الواضح أنّ سمعة "إسرائيل" تعاني عالمياً، حتى بين الدول الغربية التي لطالما كانت أقوى داعميها. في حزيران/يونيو، كانت شعبية "إسرائيل" في كل دولة رئيسية في أوروبا الغربية أكثر من 40 نقطة. في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، أعتقد نحو 15% فقط من المشاركين في الاستطلاع أنّ حملة "إسرائيل" في غزة كانت رداً متناسباً أو معقولاً على هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. حتى في الولايات المتحدة، أقوى معقل للدعم غير المشروط لـ "إسرائيل"، تشير استطلاعات الرأي الجديدة إلى أنّ ما يقرب من ثلثي الأميركيين لا يوافقون على كيفية تعامل "إسرائيل" مع الحرب في غزة (وإن كان ذلك مع وجود انقسام حزبي كبير).

لسوء الحظ، تصعب الإجابة عن سؤال ما إذا كان هذا التحول والتدهور المستمران لسمعة "إسرائيل" عالمياً، سيغيران بالفعل سياسة حكومة نتنياهو أو يفعلان أي شيء لتحسين المعاناة في غزة. ولكن الأهم من الرأي العام، الذي كان في تراجع لفترة طويلة جداً، قد يكون ثقل الاستهجان الحكومي المتزايد. فبالإضافة إلى المملكة المتحدة وفرنسا ودول أخرى ملتزمة بالاعتراف بدولة فلسطينية إذا لم يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار، هناك حالة الحكومة الألمانية. فبعد ستة أشهر فقط من إعلان وجود "إسرائيل" كوظيفة أساسية لألمانيا الحديثة، أعلن المستشار فريدريش ميرز أن البلاد ستوقف صادرات الأسلحة إلى "إسرائيل". أما المفوضية الأوروبية، على الرغم من أنها لا تزال تقاوم التعليق الكامل لاتفاقية شراكة "إسرائيل" مع الاتحاد الأوروبي، فقد شددت من خطابها وتناقش تعليقاً جزئياً.

كل هذا يثير التساؤل: لماذا الآن؟ ففي نهاية المطاف، تستمر المذبحة في غزة منذ ما يقرب من عامين. هناك بعض العوامل التي يمكننا الإشارة إليها، والتي تشير إلى سبب وصولنا أخيراً إلى هذه المرحلة الحرجة.
 
أولاً، تتضاءل الحجج التي تُعارض الاعتقاد بحدوث فظائع، فثمة أدلة كافية الآن تُشير إلى ارتفاع معدل الضحايا في القطاع.

من الأفضل للصحفيين الدوليين أن يذهبوا إلى غزة ويتحققوا من الوقائع بأنفسهم، ومن الحقائق التي لا مفر منها أيضاً أنّ الحكومة الإسرائيلية تمنع ذلك. في الأسبوع الماضي، أفادت التقارير أنه على الرغم من السماح لقناة "سكاي نيوز" بالوجود على متن طائرة أثناء إنزال المساعدات إلى غزة، فقد مُنعت من التصوير وأُبلغت بمنع المساعدات المستقبلية في حال فعلت ذلك.

حتى من دون ذلك، يتضح بشكل متزايد أنّ الوضع الإنساني في غزة أصبح لا يُطاق. أفاد أطباء من جمعيات خيرية دولية عن أطفال تُشير إصاباتهم إلى استهداف مُتعمد ونقص في مسكنات الألم الأساسية في المستشفيات. وتكافح منظمات إنسانية، مثل مطبخ خوسيه أندريس المركزي العالمي، للحصول على ما يكفي من الغذاء بسبب الحصار الإسرائيلي. قد يكون صحيحاً أنّ المساعدات تُسرق وتُحجب عن المحتاجين، كما يُجادل بعض أقوى داعمي "إسرائيل"، لكن هذا ليس انعكاساً لوحشية فلسطينية فريدة من نوعها، بل هو انعكاس لليأس، الذي بات واضحاً للعالم.

سبب آخر للتحوّل في الرأي العام العالمي هو أنّ إنكار الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب العنف المستمر من المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، أصبح أكثر وقاحة. دعا بتسلئيل سموتريتش، أحد أكثر وزراء الحكومة الإسرائيلية تطرفاً، مراراً وتكراراً إلى ضمّ غزة وحتى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية من خلال "الهجرة الطوعية". وقال وزير آخر، عميخاي إلياهو، إنّ "إسرائيل" ليست مسؤولة عن إطعام الفلسطينيين، الذين أشار إلى أنه يجب طردهم من المنطقة. مع تحوّل المؤسسات الدولية المحترمة مثل برنامج الغذاء العالمي من الحديث عن "المعاناة" إلى "الجوع" و "المجاعة الحادة"، أصبح من الصعب التوفيق بين هذه التصريحات والواقع.

السؤال الأهم هو ما إذا كان أيٌّ من هذا يُحدث فرقاً حقيقياً في إنهاء معاناة غزة. هناك بالتأكيد قلق متزايد في "إسرائيل" وبين مؤيديها حول العالم من تدهور صورة البلاد. يعارض المسؤولون الحكوميون والمثقفون الإسرائيليون بشكل متزايد الاحتلال الكامل لغزة. في استطلاع رأي حديث، قال 74% من الإسرائيليين المشاركين إنهم يؤيدون اتفاقاً مع حماس يُطلق سراح جميع الرهائن مقابل إنهاء الحرب. مع ذلك، لم يُغير هذا كثيراً من رغبة نتنياهو في استمرار الصراع واسترضاء شركائه اليمينيين المتطرفين في الائتلاف الحكومي.

يبدو نتنياهو عازماً على المضي قدماً في احتلال مدمر لغزة، وهو احتلال لن يُسهم في إعادة الرهائن إلى ديارهم أو في حل المشكلات الأمنية الكامنة التي تواجهها "إسرائيل". كما أنّ الخطوات التي اتخذتها فرنسا وبريطانيا نحو الاعتراف السياسي بدولة فلسطينية من غير المرجح أن تُحدث تغييراً جذرياً في ظل غياب ضغوط أكبر على "إسرائيل" .

المشكلة الكبرى، بالطبع، هي موقف الولايات المتحدة، ولا سيما موقف الجمهوريين. فالديمقراطيون، على الرغم من خلافاتهم الطويلة حول قضية "إسرائيل"، أصبحوا أكثر صراحةً في انتقاداتهم، بما في ذلك محاولة حديثة في الكونغرس لمنع المزيد من مبيعات الأسلحة لـ "إسرائيل". في المقابل، بدأ الصراع حول "إسرائيل" يبرز للتو في الحزب الجمهوري. ففي مطلع آب/أغسطس، زار رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون الحائط الغربي في القدس، وقال إنّ صلاته هي "أن تقف أميركا دائماً إلى جانب "إسرائيل". في غضون ذلك، شجبت النائبة مارجوري تايلور غرين "الإبادة الجماعية والأزمة الإنسانية والمجاعة التي تحدث في غزة". يصعب تصنيف الانقسام داخل الحزب الجمهوري: فقد ألمح كل من جونسون وغرين إلى إيمانهما الإنجيلي أثناء حديثهما عن "إسرائيل"، على سبيل المثال، وكلاهما من أشد المؤيدين للرئيس الأميركي دونالد ترامب. حتى الآن، كان أكثر المنتمين صراحةً في الحزب هم من غيّروا موقفهم تجاه "إسرائيل"، ولكن هذا التغيير غير المنظم يفتقر إلى التنظيم.
 
لا يزال ترامب نفسه يُمثل لغزاً بالنسبة إلى "إسرائيل". فقد تساءل علناً عن دور الولايات المتحدة في إعادة إعمار غزة، لكنه اشتكى من استعداد نتنياهو لجر الولايات المتحدة إلى المشاكل الإسرائيلية. ووفقاً للتقارير، لا يعارض ترامب استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة، ولكنه حثّ "إسرائيل" أيضاً على السماح بدخول المزيد من المساعدات إلى القطاع بعد أن لفتت صور الفلسطينيين الجائعين انتباهه.

الخطر الأكبر يكمن في احتمال أنّ يخلص ترامب إلى ضرورة انخراط الولايات المتحدة بشكل ملموس في احتلال غزة وإعادة إعمارها، ما قد يؤدي إلى تحملها جزءاً كبيراً من تكلفة حرب "إسرائيل" المدمرة. وقد تبنّى نتنياهو هذه الفكرة علناً في الماضي، وإن لم يتضح بعد ما إذا كان يدعمها حالياً. بغض النظر عن ذلك، سيكون هذا خطأً فادحاً وغير مُجبر عليه من الولايات المتحدة، خطأً قد يُنفر نصف العالم ويُورّطها في جرائم ضد الإنسانية.

النهج الأفضل هو وقف توريد الأسلحة والذخيرة إلى "إسرائيل"، والضغط على الحكومة الإسرائيلية للسماح بدخول المزيد من المواد الغذائية والطبية إلى غزة، واستخدام النفوذ الأميركي للدفع بقوة نحو اتفاق سلام. في الوقت الحالي، يبدو أنّ ترامب غير مستعد للذهاب إلى هذا الحد. ولكن مع تزايد تشكيك قاعدته المؤيدة لـ"لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية، قد يجد الرئيس أنّ الدعم غير المحدود لـ "إسرائيل" ليس بالشعبية التي كان يظنّها.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.