"الحرب على المخدّرات" مجدداً: ترامب يفتح باب التدخّل العسكري المباشر في أميركا اللاتينية
منح ترامب البنتاغون الضوء الأخضر لاستخدام القوة العسكرية ضدّ عدد من عصابات المخدّرات في أميركا اللاتينية، قد يكون محاولة لابتزاز سياسي أو صرف الأنظار عن أزمات داخلية متفاقمة، وفي كلتا الحالتين يعدّ خطوة محفوفة بالمخاطر.
-
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (أرشيفية)
في خطوة تُعيد إلى الأذهان أكثر الصفحات سواداً في سجل التدخّلات الأميركية، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب توجيهاً سرياً يمنح البنتاغون الضوء الأخضر لاستخدام القوة العسكرية ضد عدد من عصابات المخدّرات في أميركا اللاتينية، بعد أن صنّفتها واشنطن رسمياً "منظّمات إرهابية أجنبية".
هذا القرار الذي كشفته مصادر إعلامية أميركية كبرى يوفّر الأساس القانوني المزعوم لتنفيذ عمليات عسكرية مباشرة في بحار أو أراضي دول أخرى، متجاوزاً الأطر القانونية الدولية، ومتجاهلاً مبدأ السيادة الوطنية للدول المستهدفة، وعلى رأسها المكسيك وفنزويلا. ولعلّ الأخطر أنّ هذه الخطوة تفتح الباب لتكرار نماذج الغزو والاغتيال التي لطالما لجأت إليها واشنطن تحت لافتات مختلفة، من "الحرب على الإرهاب" إلى "مكافحة المخدرات".
توقيت هذا الإعلان ليس بريئاً، إذ جاء بعد يوم واحد فقط من مضاعفة وزارة العدل الأميركية المكافأة المرصودة للقبض على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى 50 مليون دولار، بزعم قيادته ما تُسمّيه واشنطن "كارتل دي لوس سوليس" المرتبط، بحسب اتهاماتها، بجماعات إجرامية مكسيكية مثل "سينالوا" و"ترين دي أراغوا". ومن جهتها، نَفَت كاراكاس هذه المزاعم بشكل قاطع ووصفتها بأنها "اختلاق سياسي" يهدف إلى شيطنة القيادة الفنزويلية وتبرير أي عمل عدائي لاحق. وسخر وزير الداخلية الفنزويلي، ديوسدادو كابيلو، من الرواية الأميركية، مشيراً إلى أن هذا الكارتل المزعوم "تتبدّل قادته مئات المرات بحسب مزاج واشنطن، وكلّ من يزعجها يوماً يصبح فجأة زعيماً له".
وفي كولومبيا، جاء موقف الرئيس غوستافو بيترو منسجماً مع خط الدفاع الإقليمي عن السيادة، إذ دعا القوات المسلحة في بلاده وفي فنزويلا إلى "التعامل مع الشعبين ككيان واحد يرتبط بوحدة التاريخ والثقافة"، ورفض صراحة أي عمليات عسكرية لا تحظى بموافقة الحكومتين، معتبراً إياها "اعتداءً على أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي". ودافع بيترو عن الرئيس مادورو في مواجهة الاتهامات الأميركية، معتبراً إياها "سياسية ومكرّرة"، ومؤكداً جهود كراكاس في مكافحة المخدرات والإرهاب على الحدود المشتركة، ومشدّداً على أنّ حلّ أزمات فنزويلا يجب أن يكون "عبر الحوار والانتخابات الحرة"، وليس "العنف أو التدخّل الخارجي".
وفي المكسيك، كان ردّ الفعل على قدر كبير من الحدة. الرئيسة كلوديا شينباوم أكدت في مؤتمرها الصحفي الدوري أنّ "الولايات المتحدة لن تدخل المكسيك بجيشها"، وأنّ التعاون الأمني بين البلدين لا يعني القبول بانتهاك السيادة أو السماح بوجود قوات أجنبية على الأرض المكسيكية. أعاد ذلك الموقف التذكير بخطوط حمراء تاريخية في السياسة المكسيكية تجاه الشمال، تعود جذورها إلى قرن ونصف قرن من المواجهات مع "الجار العملاق". وشدّدت وزارة الخارجية المكسيكية من جانبها على أنّ أيّ تحرّك عسكري أميركي في أراضيها "غير مقبول تماماً" وسيُعتبر "خرقاً للاتفاقات الثنائية والقانون الدولي".
القرار الأميركي يعيد إلى الواجهة نماذج التدخّل السابقة التي اتخذت من "الحرب على المخدّرات" ذريعة لفرض السيطرة السياسية والعسكرية. ويظلّ المثال الأبرز هو غزو بنما في عام 1989 لاعتقال مانويل نورييغا، والذي أدانته الأمم المتحدة لاحقاً كخرق صارخ للقانون الدولي. وقبل ذلك، تورّطت واشنطن في انقلابات وصراعات دامية في تشيلي وغواتيمالا وكوبا، تحت شعارات "محاربة الشيوعية" أو حماية الأمن القومي. واليوم، يُعاد إنتاج هذه الذرائع في سياق "الحرب على الكارتلات"، مع فارق أنّ التصعيد الحالي يدمج أدوات الحرب على الإرهاب بتكتيكات مكافحة الجريمة المنظّمة، ما يوسّع هامش التحرّك العسكري خارج الرقابة البرلمانية والقضائية.
وينسجم قرار ترامب من الناحية الإدارية مع توجّه أوسع لإعادة تعريف التهديدات الخارجية على نحو يسمح بتجاوز الأطر القانونية. فتصنيف الكارتلات بصفتها "منظّمات إرهابية" يتيح فرض عقوبات مالية واسعة، لكنه لا يمنح تلقائياً صلاحية القيام بعمليات عسكرية، ما يفتح الباب لتأويلات تستند إلى "سلطات الرئيس الدستورية" في الدفاع عن النفس. ولقد جرى استخدام هذه الصيغة سابقاً لتبرير اغتيال الشهيد قاسم سليماني في بغداد عام 2020، رغم غياب أيّ تفويض من الكونغرس. واللافت أنّ البيت الأبيض والبنتاغون تجنّبا تقديم توضيحات حول الأساس القانوني لهذه الخطوة، ما يعكس إدراكهما لحساسيتها وخطورتها.
ومن الناحية الدبلوماسية، أثار الإعلان موجة قلق في العواصم اللاتينية. فإلى جانب المكسيك وفنزويلا، ترى حكومات يسارية أخرى مثل كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا وهندوراس أنّ واشنطن تمهّد لمرحلة جديدة من التدخّلات المباشرة، تتجاوز الحصار الاقتصادي وحروب الوكالة إلى "ضربات جراحية" تنفّذها قوات خاصة أو طائرات مسيّرة. وفي السياق نفسه، يحذّر خبراء من أنّ العمل العسكري ضد عصابات متشعّبة البنية ومرتبطة بقطاعات اقتصادية محلية قد يؤدي إلى تفكّك شبكات السيطرة واندلاع حروب داخلية بين الفصائل، ما يفاقم العنف والفوضى بدلاً من احتوائهما.
الخطاب الأميركي يربط بين الكارتلات وتجارة الفنتانيل (مخدّر اصطناعي) التي تحصد آلاف الأرواح سنوياً في الولايات المتحدة، لكنّ هذا الربط يتجاهل أنّ هذه التجارة تعتمد على مسارات تهريب متعدّدة الأطراف، وأنّ الطلب الأميركي على المخدّرات هو المحرّك الرئيسي لها. وبدلاً من الاعتراف بفشل السياسات الداخلية في خفض الاستهلاك والجريمة المرتبطة بالمخدّرات، تلجأ واشنطن إلى تصدير أزمتها نحو الجنوب، محمّلة الدول المنتجة أو تلك التي تعبر المخدّرات من على أراضيها كامل المسؤولية. وهذا المنطق يعيد إنتاج معادلة "لوم الضحية" التي حكمت العلاقة في الأميركيتين بين الشمال والجنوب منذ عقود.
ومن الناحية العسكرية، يكشف القرار عن تحوّل في دور القوات الأميركية من دعم العمليات الأمنية إلى الانخراط المباشر في القتل أو الاعتقال خارج أراضيها. فالتجارب السابقة في كولومبيا والمكسيك جرت تحت إشراف الأجهزة الأمنية المحلية، وبمشاركة رمزية من الجيش الأميركي لتجنّب خرق قوانين مثل "بوسي كوماتيتوس"، الذي يقيّد استخدام القوات العسكرية الاتحادية لأغراض داخلية. أما الآن، فيبدو أنّ الهدف هو تجاوز هذه القيود، وفرض واقع جديد يُعطي البنتاغون حرية أوسع في استهداف الأفراد والمجموعات بذريعة الانتماء إلى منظّمات إرهابية.
إقحام البعد الفنزويلي في هذا الملف لم يكن عرضياً، وإنما يأتي في إطار حملة أوسع لعزل كراكاس وإسقاط حكومتها المنتخبة. فاتهام مادورو بقيادة كارتل دولي يهدف إلى شيطنته داخلياً وخارجياً، وتهيئة الرأي العامّ لأيّ خطوة تصعيدية ضدّه، سواء كانت عملية خاصة أو تدخّلاً عسكرياً محدوداً، أو حتّى محاولة اغتياله شخصياً. ومن اللافت أنّ هذه الاتهامات تتزامن مع إحباط محاولة تفجير في وسط كراكاس، تتهم السلطات الفنزويلية المعارضة اليمينية والولايات المتحدة بالوقوف وراءها، ما يضيف بعداً أمنياً يبرّر تشديد الإجراءات الدفاعية في البلاد.
وفي خلفيّة هذه التطوّرات، يلوح شبح الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة بين واشنطن ومحور من الحكومات اللاتينية التي ترفض الانصياع لهيمنتها. فإلى جانب فنزويلا والمكسيك، تبدي دول أخرى تحفّظات عميقة على عسكرة "الحرب على المخدرات"، خشية أن تتحوّل إلى أداة لتصفية حسابات سياسية أو فرض سياسات اقتصادية مجحفة. وداخل الولايات المتحدة نفسها، يثير القرار جدلاً قانونياً وأخلاقياً، إذ يحذّر خبراء القانون الدولي من أنّ قتل مدنيين خارج سياق نزاع مسلّح معترف به قد يرقى إلى جريمة قتل بموجب القانون الأميركي.
السوابق التاريخية تؤكّد أنّ التدخّلات العسكرية الأميركية في أميركا اللاتينية لم تحقّق يوماً الأهداف المعلنة، وإنما خلّفت أنظمة قمعية، وأزمات اجتماعية واقتصادية عميقة، وتدهوراً في مستويات الأمن وارتفاعاً في معدلات الجريمة. ومع ذلك، تواصل واشنطن تكرار الأسلوب ذاته، مستندة إلى تفوّقها العسكري وتواطؤ بعض النخب المحلية. وفي المقابل، تراهن الحكومات المستهدفة على التضامن الإقليمي وتوظيف أدوات القانون الدولي لصدّ هذه الموجة العدوانية الجديدة.
وعلى أيّ حال، قد يكون قرار ترامب محاولة لابتزاز سياسي أو صرف الأنظار عن أزمات داخلية متفاقمة، لكنه يبقى خطوة محفوفة بالمخاطر، ليس على العلاقات الثنائية مع دول الجوار الجنوبي فحسب، وإنما على صورة الولايات المتحدة في مجمل القارة. فإذا ما أقدمت واشنطن على تنفيذ تهديداتها، فإنها ستعيد عقارب الساعة إلى الوراء عقوداً، إلى زمن كانت فيه أميركا اللاتينية "حظيرة خلفيّة" تُدار من مكاتب في واشنطن، وليس من عواصمها المستقلة. وحينها، سيكون الثمن باهظاً على الجميع، لكنّ الأشدّ خسارة ستكون سمعة "الديمقراطية الأميركية" التي تدّعي الدفاع عن القانون وهي أول من ينتهكه.