المجالات العسكرية والأمنية كمدخل للعلاقات الأفريقية الإسرائيلية
شكلت الحرب العالمية على الإرهاب فرصة لتسهيل عودة "إسرائيل" إلى أفريقيا إذ استغلَت أنشطة الجماعات الإرهابية لمصلحتها حيث عزف كل المسؤولين الإسرائيليين الذين زاروا أفريقيا على هذا الوتر.
-
رئيس الأركان الإسرائيلي السابق أفيف كوخافي يلتقي عسكريين مغاربة (تموز 2022)
بحسب نتنياهو: القوة الأمنية والقوة الاقتصادية تمنحك القوة الدبلوماسية
يعود تاريخ التعاون العسكري بين "إسرائيل" وبعض الدول الأفريقية إلى ستينيات القرن الماضي، والبداية كانت مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا. حيث تم تشكيل وحدات نخبة عسكرية مشتركة، وتوريد الدبابات وتكنولوجيا الطائرات، والسعي المشترك لإنتاج الأسلحة النووية والبيولوجية. وقد كشف الوزير الجنوب أفريقي السابق عزيز باهاد عام 1997، أن "إسرائيل" وجنوب أفريقيا أجريا تجربة نووية مشتركة في المحيط الهندي في 22 سبتمبر/أيلول 1979.
تستهدف "إسرائيل" من بيع الأسلحة والمعدات الاستخباراتية للدول الأفريقية تعزيز تواجدها في هذه الدول ودعم أمنها الاستراتيجي وتهديد الأمن القومي العربي. وقد وصلت مبيعات "إسرائيل" من الأسلحة إلى أفريقيا عام 2018 نحو 450 مليون دولار أغلبها عبارة عن أسلحة خفيفة وأجهزت مراقبة وتجسس.
كما يتضمن التعاون العسكري مع الدول الأفريقية، إعداد وتأهيل "إسرائيل" للكوادر العسكرية الأفريقية، وتنظيم الأجهزة الأمنية، ما مكنها من اختراق المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية لهذه الدول. ويشكل التركيز على الحراسة الخاصة للقيادات الأفريقية وتدريبهم في "إسرائيل" مدخلاً للتقرب من هذه القيادات.
في البلدان الأفريقية التي تشهد حروباً ونزاعات داخلية قد يبيع الكيان الإسرائيلي الأسلحة للأنظمة القائمة وفي نفس الآن يزود المتمردين بالأسلحة عن طريق شركات تعمل مع الموساد، إما لضمان استمرار علاقاته بالدولة في حال وصول المعارضة للحكم أو لإدامة الصراع الداخلي، مما يتيح للشركات الإسرائيلية العاملة في مجالات استغلال المناجم أو التعدين والتربة النادرة والماس والمحروقات استمرار نهبها لثروات الدول. كما كان الشأن على سبيل المثل بالنسبة لرواندا أثناء الإبادة الجماعية عام 1994، وتسليح الجيش والجماعات المسلحة في الكونغو الديمقراطية (زايير سابقاً).
دعم الأمن الاستراتيجي العبري
يعتبر البحر الأحمر المنفذ البحري الذي يصل الأراضي الفلسطينية المحتلة بشرق أفريقيا وبحر العرب والمحيط الهندي، وقد برزت أهميته إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حينما أغلقت مصر بالتعاون مع اليمن باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، وإبان حرب الخليج الثانية (1991)، والثالثة (2003)، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حينما أغلق اليمن البحر الأحمر في وجه السفن المتعاملة مع "إسرائيل" دعماً لغزة.
بين عام 1963 و 1967 سعت "إسرائيل" إلى التواجد العسكري في القرن الأفريقي من خلال علاقتها مع أثيوبيا "هيلاسيلاسي"، التي كانت تحتل أرتيريا. فأنشأت مراكز عسكرية في جزر فاطمة ودهلك وحالب على الساحل الإرتيري. كما احتلت قوات إسرائيلية بين 1971 و1972 جزيرة زقر اليمنية، لكنها انسحبت بعد ذلك.
مع استقلال ارتيريا عام 1993 قامت "إسرائيل" بإبرام اتفاقيات مع الرئيس أسياس أفورقي لاستئجار جزيرتي حالب وفاطمة الواقعتين في الجنوب الغربي للبحر الأحمر وإقامة قاعدة عسكرية في كل منهما، كما تواجدت في جزيرتي سنتيان وديميرا المشرفتين على مضيق باب المندب ورسخت تواجدها في جيبوتي وأوغندا وإثيوبيا وكينيا وتشاد.
وبهذا أصبح لها عمق استراتيجي في القرن الأفريقي ودول حوض النيل يطوق السودان ومصر ويهدد اليمن والسعودية. كما سعت "إسرائيل" إلى توسيع وجودها العسكري والاستخباراتي في غرب أفريقيا، في ساحل العاج وغانا ونيجيريا والكونغو.
تهديد الأمن الاسترتيجي العربي
ينبع "النيل الأزرق" من إثيوبيا و"النيل الأبيض" من بحيرة فكتوريا في أوغندا، ويمر النيلان بثمانية دول أفريقية قبل أن يصبا في السودان ثم مصر، والدول هي: إثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكونغو وجنوب السودان، وكلها دول على علاقة بالكيان الإسرائيلي وطبعاً يمر من السودان، ومصر.
مع حصول دول حوض النيل على استقلالها، وتحت ضغط متزايد من السكان ومتطلبات المشاريع التنموية، سعت هذه الدول المشاطئة بشكل متزايد إلى استغلال مياه النيل والمسطحات المائية مما دفع الكثير من المحللين إلى القول إن مياه النيل قد أصبحت سلاحاً استراتيجياً يدخل في أجندات القوى الكبرى والإقليمية، وإن حروب المستقبل في حوض النيل ستكون على مياهه.
من جهة أخرى يعمل الكيان الإسرائيلي على ابتزاز مصر للحصول على مياه النيل لحل أزمة المياه مستقبلاً، فبعد التوقيع على معاهدة التطبيع بين مصر و"إسرائيل" عام 1979، ظهرت عدة مقالات في الصحافة الإسرائيلية تدعو إلى شراء مياه النيل وتحويلها إلى النقب، وقد كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات قد طرح فكرة مد مياه النيل إلى صحراء النقب في حالة "تحقيق السلام الشامل والكامل مع إسرائيل".
لقد استهدف كيان الاحتلال الإسرائيلي دوماً مصر لإضعافها وابتزازها، والسودان لتقسيمه، وهو الذي يعتبر العمق الاستراتيجي لمصر ويربط الأمة العربية بدول الجـــنوب الأفريقي.
في سياق هذا الابتزاز تقف "إسرائيل" - التي سبق وأن هددت مصر بالغرق عبر تفجير السد العالي الذي تحتوي حقينته على نحو 162 مليار متر مكعب من الماء - اليوم بقوة بجانب أميركا لإتمام بناء سد النهضة على النيل الأزرق الذي يمكن أن يشكل خطراً وجودياً على مصر والسودان سواء أثناء فترات الجفاف الطويلة التي ترافق التحولات المناخية الجارية، أو في حالة انهياره أوتفجيره حيث سيغرق السودان ومصر بنحو 74 مليار متر مكعب من المياه ويتسبب في كارثة خطيرة.
كما أبرمت "إسرائيل" خلال زيارة وزير خارجيتها، ليبرمان، في سبتمبر/أيلول 2011 لعدد من الدول الأفريقية، 5 اتفاقيات لتمويل 5 سدود على نهر النيل الأبيض في تنزانيا ورواندا. وهو ما سيؤثر سلباً على حصة السودان ومصر السنوية من مياه النيل.
خلال حرب الأيام الستة عام 1967 عارض الجنوبيون في السودان مشاركة الجيش السوداني في الحرب ضد "إسرائيل". وبعد الحرب دعمت "إسرائيل" المتمردين ضد الخرطوم، ومولتهم وسلحتهم حتى انفصلوا عن السودان وقد شكل انفصال جنوب السودان ضربة كبيرة للأمن القومي العربي، ولمصر والسودان تحديداً..
وتعد اليوم دولة جنوب السودان جزءاً رئيسياً من الاستراتيجية الإسرائيلية نحو أفريقيا حيث تعمل "إسرائيل" على بناء قاعدة جوية وثكنات لقوات الحدود ومستشفيات عسكرية. كما تزودت استخبارات "الجيش الشعبي" و"وحدة الأمن الرئاسي" في دولة جنوب السودان بأسلحة إسناد حربية وأسلحة مدفعية وعدداً من الراجمات وأجهزة للرصد والاستشعار الحراري.
التعاون الأمني وسيلة للتطبيع
طبّع السودان في أكتوبر/تشرين الأول 2020 والمغرب في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، دافعهما الأول حرصهما على إرضاء واشنطن ومنح الرئيس الأميركي دونالد ترامب هدية تسعده قبل انتهاء مهام في فترته الرئاسية الأولى.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وقع المغرب مع "إسرائيل" اتفاقية للتعاون الأمني الاستخباراتي وكذلك في مجال توريد الأسلحة، حيث حصل المغرب على أسلحة متطورة من "إسرائيل".
في 2 فبراير/شباط 2023 استقبل مسؤولون سودانيون كباراً وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في الخرطوم، حيث تم بحث "تعزيز آفاق التعاون المشترك بين الخرطوم وتل أبيب في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم"، بالإضافة إلى "المجالات الأمنية والعسكرية".
للأسف الشديد كل الدول العربية المطبعة بدون استثناء، لها اتفاقات عسكرية وأمنية واستخباراتية مع "إسرائيل" ارضاءً لمطالب هذا الكيان ولاقتناع المسؤولين في الدول المطبعة أن بناء علاقات مميزة مع "إسرائيل" سيقود إلى تعزيز علاقاتهم مع الولايات المتحدة نفسها.
الحرب على الإرهاب وسلاح التجسس فرصة "إسرائيل" للتغلغل في أفريقيا
شكلت الحرب العالمية على الإرهاب فرصة لتسهيل عودة "إسرائيل" إلى أفريقيا إذ استغلَت أنشطة الجماعات الإرهابية لمصلحتها حيث عزف كل المسؤولين الإسرائيليين الذين زاروا أفريقيا على هذا الوتر. فمنذ عام 2013، عندما تعرض مركز تجاري في نيروبي بكينيا لهجوم نسب لتنظيم القاعدة، تم تعزيز التعاون بين وحدات النخبة لمكافحة الإرهاب الإسرائيلية والحكومة الكينية.
في الغرب الأفريقي جنوب الصحراء الكبرى، تحاول "إسرائيل" التي تُعتبر "رائدة" في مجال معدات التجسس، وبرامج جمع واستغلال المعلومات الاستخباراتية، أن توسع من تعاونها العسكري والأمني مع دول غينيا ونيجيريا وساحل العاج وتشاد.
وهكذ استغلت ظهور القاعدة وداعش في هذه المنطقة لتدشن عودة قوية لدول المنطقة. في عام 2014 عندما قام عناصر بوكو حرام باختطاف 223 فتاة من بولاية بورنو أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن استعداد كيانه العنصري لتقديم الدعم العسكري لنيجيريا لتحرير الفتيات، وبالفعل باع نيجيريا طائرات كوبرا إسرائيلية. كما تقربت "إسرائيل" تحت غطاء "محاربة الإرهاب"، من تشاد ومالي منذ 2017.
سلاح آخر تستعمله "إسرائيل" في سعيها لاستعادة أفريقيا هو برامج التجسس والمراقبة وجمع البيانات والحرب الإلكترونية التي أصبحت تثير اهتمام الدول الأفريقية. وخصوصاً الأنظمة الاستبدادية الأفريقية التي تحرص على الحصول على برامج التجسس الإسرائيلية عالية التقنية، كبرنامج بيغاسوس الذي ملكته لمليشيا الدعم السريع في السودان، والذي استعمل للتضييق والتجسس على المعارضين مما زاد من تضييق حيز الحريات وتعزيز الاستبداد في أفريقيا.
خاتمة
مهما قيل عن قوة "إسرائيل" العسكرية والاقتصادية فهي ليست سوى كيان يبقى قزماً، قياساً إلى قوى عظمى وإقليمية تنشط في أفريقيا. وقد اتضح خلال حرب 12 يوماً مع إيران - التي اتهمت سابقاً باستعمال السودان كمعبر لتمرير السلاح لحماس والجهاد الإسلامي وتخشى "إسرائيل" من نفوذها المتنامي في أفريقيا - أن هذا الكيان ليس سوى نمر من ورق يعيش على حافة انفجار داخلي.
وللأسف الشديد ما زال العرب المطبعين أو الذين ينتظرون الفرصة للتطبيع ينحنون لهذا النمر الورقي، وتراهم يهرولون لفتح المجال لهذا الكيان الوظيفي الذي لم ينجح فقط في تهديد الأمن الاستراتيجي للدول العربية بل يعمل على تهديد الأمن الداخلي لدولها بإثارة النعرات العرقية والطائفية. وهكذا تحول التطبيع المعلن والسري إلى وسيلة لاختراق النسيج المجتمعي العربي واختراق الهياكل الاقتصادية والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية العربية.