ترامب وبولسونارو والبرازيل: عندما تتشابك السياسة بالاقتصاد
تصطدم الهيمنة الأميركية المتآكلة بإرادة شعوب الجنوب التي قررت ألّا تكون رهينة لابتزازات القوى الكبرى. والبرازيل، بما تمثّله من ثقل سكاني واقتصادي، تتحوّل إلى ساحة مركزية في هذا التحوّل.
-
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس البرازيل السابق جايير بولسونارو في 2020 (رويترز)
في لحظة تبدو فيها العلاقات الدولية أمام نقطة تحوّل حاسمة، وجدت البرازيل نفسها في صدارة مواجهة معقّدة مع الولايات المتحدة، تتقاطع فيها أبعاد قضائية داخلية بأخرى تجارية وجيوسياسية، وتكشف عن وجه جديد من أوجه الهيمنة الأميركية المتراجعة. فالملاحقات القضائية الجارية بحق الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو على خلفية محاولة انقلاب فاشلة لم تعد شأناً داخلياً صرفاً، وإنما تحوّلت إلى بؤرة صراع إقليمي ودولي مع تدخّل علني من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يكتفِ بالدفاع السياسي عن حليفه، وإنما صعّد إلى مستوى العقوبات والرسوم الجمركية، ما يضع سؤال السيادة على طاولة الاختبار من جديد في أكبر دول أميركا اللاتينية.
بداية الخلاف العلني تجسّدت مع إعلان المحكمة العليا البرازيلية عن مباشرة محاكمة بولسونارو بتهم محاولة تقويض النظام الديمقراطي، والتورّط في مخطط انقلابي لإبقاء نفسه في السلطة عقب هزيمته أمام الرئيس الحالي لولا دا سيلفا في انتخابات عام 2022. شملت الاتهامات تحريضاً مباشراً، وتواصلاً مع عسكريين، وتخطيطاً لعمليات اغتيال سياسي طالت أسماء رفيعة كالرئيس لولا ونائبه وبعض القضاة. وفي سياق متزامن، وُجهت إلى بولسونارو، وابنه إدواردو الهارب في الولايات المتحدة، تهم باستخدام أجهزة الاستخبارات للتجسس على الصحافيين والقضاة والمعارضين.
هذه الملاحقات غير مسبوقة في بلدٍ لم يُحاكم فيه رئيس سابق بهذه الجدية منذ نهاية عهد الديكتاتورية، ما جعلها لحظة مؤسساتية للعدالة الانتقالية في البرازيل. لكن الأهم أن هذه المحاكمة تحوّلت إلى مناسبة لتدخل خارجي فجّ من قِبل واشنطن، التي شنّت حملة دعم لبولسونارو تجاوزت التصريحات إلى سياسات فعلية. فقد أعلن ترامب عن سلسلة من الرسوم الجمركية الانتقامية ضد البرازيل، بلغت 50% على منتجات زراعية وصناعية رئيسية، مستبطنة دعوى "الاضطهاد السياسي" لبولسونارو، وهو توصيف لا يتطابق مع أي معايير قضائية، وإنما يعبّر عن محض انتقام أيديولوجي لمصلحة حليف يميني فشل في تنفيذ انقلابه.
الخطوة الأميركية أثارت سخطاً واسعاً في البرازيل، سواء من الحكومة أم من أحزاب اليسار وقطاعات المجتمع المدني والنقابات. فقد رأت فيها السلطة التنفيذية انتهاكاً صارخاً لاستقلال القضاء، ومحاولة لليّ ذراع المؤسسات الديمقراطية البرازيلية. أمّا على المستوى الاقتصادي، فقد بدأت بوادر الأزمة تظهر فعلياً مع تراجع قيمة الريال البرازيلي، وانخفاض في أسهم بعض الشركات المتضرّرة، وارتفاع أسعار بعض السلع التي تعتمد على التصدير إلى السوق الأميركية، ما ينذر بارتدادات اقتصادية واسعة النطاق إذا طال أمد التوتر.
اللافت أن الأزمة لم تبقَ في إطارها الثنائي البرازيلي-الأميركي، وإنما سرعان ما تداخلت فيها ملفات أخرى، منها علاقات البرازيل بالصين ومجموعة "بريكس"، والتوجهات الإقليمية نحو بناء نظام تبادل اقتصادي أكثر استقلالاً عن واشنطن. فقد قرأ مراقبون الرسوم الجمركية الأميركية على أنها أداة لإعادة ترتيب الولاءات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصاً أن البرازيل تمثّل اليوم حجر زاوية في بناء قطب جنوبي يتحدى الأحادية الأميركية.
كثير من التحليلات الاقتصادية تُرجح أن هذه الرسوم الجديدة المفروضة على البضائع البرازيلية التي تدخل السوق الأميركي سوف تَضُر الولايات المتحدة كما ستضر البرازيل. وعلى سبيل المثال، قدّر نائب الرئيس البرازيلي جيرالدو ألكمين أن نحو 35.9% من صادرات البرازيل إلى الولايات المتحدة ستتأثر بالرسوم الجديدة، ورغم استثناء بعض القطاعات كصناعة الطيران والطاقة وعصير البرتقال، فإن سلعاً رئيسية مثل البن واللحوم لم تُعفَ. ألكمين حذّر من أن المستهلك الأميركي سيدفع الثمن في هذه "المعادلة الخاسرة للجميع"، مؤكداً أن الحكومة ستطعن في القرار أمام الهيئات المختصة، وتستعد لإطلاق خطة دعم للقطاعات المتضررة تتضمن حوافز مالية وضريبية، وقد يُستثنى جزء منها من احتساب عجز الموازنة المتوقع إنهاؤه هذا العام.
وجاءت تصريحات لولا في هذا السياق حاملة لهجة غير مسبوقة، إذ وصف الإجراءات الأميركية بـ "الابتزاز الاقتصادي" وأكّد أن بلاده لن تسمح بأي تدخل أجنبي في شؤونها الداخلية أو القضائية. وقد أطلق مرسوماً لتنظيم قانون "المعاملة بالمثل" الذي يسمح بفرض رسوم مضادة على الدول التي تتخذ خطوات تجارية أحادية تضر بالبرازيل. كما أعلن لولا عن تفعيل لجنة خاصة لمتابعة الرد على هذه الإجراءات، وعن استعداد بلاده لرفع النزاع إلى منظمة التجارة العالمية.
الدور المحوري الذي يلعبه القاضي ألكسندر دي مورايس، رئيس المحكمة العليا، في ملف قضية بولسونارو، جعله هدفاً مباشراً لحملة ترامب. إذ فرضت عليه الإدارة الأميركية عقوبات بموجب "قانون ماغنيتسكي"، وجرّدت أسرته من تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، متهمةً إياه بـ "انتهاك حقوق الإنسان" على خلفية قراراته ضد شبكات التضليل التابعة لبولسونارو. لكن هذه العقوبات قوبلت في البرازيل بموجة تضامن شعبي ومؤسساتي واسع، بصفتها سابقة خطيرة في استهداف استقلال القضاء في دولة ديمقراطية.
ومن جهة أخرى، اتضح لاحقاً أن إدواردو بولسونارو، ابن الرئيس السابق، قام بعد هروبه إلى واشنطن بشن حملة ترويج وابتزاز سياسي داخل مراكز القرار الأميركي، حيث التقى شخصيات من الحزب الجمهوري، وشارك في اجتماعات خاصة حشدت لدعم والده عبر فرض عقوبات وضغوط اقتصادية على البرازيل. وقد فتحت النيابة العامة البرازيلية تحقيقاً بهذا الخصوص، بتهمة "إلحاق ضرر بالأمن القومي" والسعي لتقويض استقلال المؤسسات عبر "استدعاء تدخل أجنبي".
وفي الوقت ذاته، بات من الواضح أن هذه الأزمة ليست سوى فصل جديد من فصول الحرب الاقتصادية التي تخوضها إدارة ترامب ضد دول الجنوب العالمي. فالرئيس الأميركي أعاد إحياء سياسة الرسوم العقابية ليس ضد البرازيل فحسب، وإنما ضد عدد من دول أميركا اللاتينية المرتبطة بعلاقات استراتيجية مع الصين أو الساعية للتحرر من هيمنة الدولار. وهكذا، صارت أدوات التجارة تُستخدم بشكل سافر في خدمة اصطفافات سياسية، من دون اعتبار لمعايير منظمة التجارة أو للضرر الذي تُلحِقه بالشعوب.
هذا التوظيف الفجّ للهيمنة الاقتصادية في صراعات سياسية يكشف مدى هشاشة النظام الليبرالي الذي لطالما زعمت واشنطن الدفاع عنه، وجعل من المواجهة الراهنة بين البرازيل والولايات المتحدة أكثر من نزاع ثنائي. إنها مواجهة حول مستقبل النظام الدولي نفسه، وحول قدرة دول الجنوب على الدفاع عن سيادتها واستقلال مؤسساتها أمام ضغوط اقتصادية غير مشروعة. ويبدو أن البرازيل، بقيادة حكومة لولا، قد قررت أن تكون عنصراً حيوياً مقاوماً في هذه المعركة.
وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية الفعلية التي قد تترتب على فرض رسوم بهذا الحجم، فإن الرد البرازيلي لم يكن انفعالياً. فقد عمدت الحكومة إلى إجراءات مدروسة، شملت تنويع الأسواق التصديرية، وتعزيز الشراكة مع الصين وروسيا، وتكثيف المشاورات داخل مجموعة "بريكس" و "ميركوسور" و "سيلاك". كما أنها أطلقت منذ فترة مشاورات لتأسيس آليات دفع إقليمية بالعملات المحلية، بما يخفف من اعتماد الاقتصاد الوطني على الدولار.
وبموازاة ذلك، لعبت التحركات الشعبية دوراً داعماً للحكومة. فقد شهدت كبرى المدن البرازيلية تظاهرات مندّدة بالابتزاز الأميركي، شارك فيها طيف واسع من الحركات العمالية والاجتماعية. ورفعت شعارات تؤكد السيادة الوطنية وترفض رهن القضاء والتجارة لإرادة أجنبية. حتى أن بعض قطاعات رجال الأعمال، التي عادةً ما تتحفّظ على المواقف السياسية الجذرية، أبدت قلقها من استهداف السوق البرازيلية بهذا الشكل، وبدأت تضغط باتجاه إيجاد بدائل لصادراتها إلى الولايات المتحدة.
أمام هذه المعطيات، يظهر أن ترامب لم ينجح حتى الآن في تحقيق الهدف المرجو من هذا التصعيد، وهو حماية بولسونارو. فعلى النقيض من ذلك، عمّقَ التدخل الأميركي من عزلة الرئيس السابق، وأكّد للمجتمع البرازيلي أنه كان جزءاً من مشروع خارجي يسعى لتقويض الديمقراطية من الداخل. كما أن العقوبات على القضاة أثارت تعاطفاً واسعاً مع المؤسسة القضائية، وعززت من سردية لولا بأن معركته هي معركة دفاع عن المؤسسات، لا مجرّد خصومة سياسية تتعلق بالانتخابات.
والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها البرازيل تدخلاً أميركياً فادحاً. فالتاريخ مليء بالشواهد، من دعم الانقلاب العسكري في عام 1964، وصولاً إلى دور واشنطن في الترويج لعملية تضليلية أخرجت لولا نفسه من السباق الرئاسي في عام 2018 وفتحت الطريق أمام بولسونارو. لكن ما يختلف اليوم هو أن البرازيل لم تعد دولة هامشية في المشهد العالمي، وإنما هي طرف فاعل في بناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، تزداد مساهمته في الجنوب العالمي، ويمتلك أدوات مناورة أكبر بكثير مما كان متاحاً في السابق.
تثير هذه الأزمة أسئلة جوهرية عن موقع البرازيل في الصراع الجاري حول النظام العالمي. فهي من جهة دولة صاعدة اقتصادياً وسياسياً، ومن جهة أخرى تتعرض لابتزازات مباشرة بسبب مواقفها السيادية. وإذا كانت لحظة بولسونارو تمثّل اختباراً قضائياً داخلياً، فإن الرد على تهديدات ترامب يمثّل اختباراً دولياً لقدرة البرازيل على صون استقلال قرارها. وكلّما اشتد الضغط الأميركي، بدا أن البرازيل تستجيب بمزيد من الانفتاح على شركاء بديلين، ولا سيما الصين.
قد يُخيَّل للبعض أن الحرب التجارية مجرد نزاع عابر بين رئيسين لديهما شخصية صدامية، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. إنها فصل جديد من فصول التحوّل العالمي، حيث تصطدم الهيمنة الأميركية المتآكلة بإرادة شعوب الجنوب التي قررت ألّا تكون رهينة لابتزازات القوى الكبرى. والبرازيل، بما تمثّله من ثقل سكاني واقتصادي، تتحوّل إلى ساحة مركزية في هذا التحوّل، وربما تتحوّل قريباً إلى نموذج يُحتذى به في معركة الدفاع عن السيادة الوطنية في وجه الإمبريالية.