زيارة الرئيس الإيراني إلى باكستان: الاقتصاد واجهة.. والتنسيق الاستراتيجي في العمق
خلف الواجهة الاقتصادية لزيارة الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، إلى باكستان توجد أيضاً أبعاد أمنية واستراتيجية أعمق لهذه الزيارة في ظل موجة التصعيد والضغوط الأميركية الإسرائيلية في المنطقة.
-
زيارة الرئيس الإيراني إلى باكستان: الاقتصاد واجهة.. والتنسيق الاستراتيجي في العمق
في زيارة تستمر ليومين، وصل الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، إلى العاصمة الباكستانية إسلام آباد، مؤكداً قبيل مغادرته أن علاقات إيجابية وبناءة قائمة بين البلدين، ومن خلال الجهود المشتركة، سترتقي هذه العلاقات إلى المستوى المستهدف، أي قرابة 10 مليارات دولار.
الزيارة تبدو ذات طابع اقتصادي، وتركّز تصريحات الرئيس الإيراني ووزير خارجيته على ملفات التجارة الحدودية، وإنشاء الأسواق المشتركة، والاستفادة من الإمكانات الجوية والبحرية، إضافة إلى تطوير مسارات النقل نحو أوروبا عبر باكستان.
لكن خلف هذه الواجهة، تحمل الزيارة أبعاداً أمنية واستراتيجية أعمق، في ظل موجة التصعيد والضغوط الأميركية -الإسرائيلية في المنطقة، ما يجعل التنسيق مع باكستان أولوية إيرانية عاجلة.
الموقف الباكستاني دخل في الآونة الأخيرة منعطفاً لافتاً، فقد دانت إسلام آباد بشكل واضح الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران، واعتبرت أن لطهران حقاً في الرد والدفاع عن نفسها، بخلاف ما فعلته دول أخرى ترتبط بتحالفات مع واشنطن.
هذا التحوّل في الموقف الباكستاني جاء نتيجة تقاطع عوامل عديدة: تصاعد العداء الشعبي والسياسي لـ"إسرائيل"، تزايد التنسيق الأمني مع طهران، الضغوط الشعبية الداخلية، التأثير الصيني في القرار الباكستاني، وأيضاً الموقف الإيراني الداعم لباكستان في صراعها الحدودي مع الهند.
في كانون الثاني/يناير 2024، شهدت الحدود الباكستانية- الإيرانية توتراً عسكرياً غير مسبوق، تبادل فيه الطرفان الضربات على خلفية استهداف جماعات انفصالية ونشطة على جانبي الحدود. ومع ذلك، تم احتواء الأزمة بسرعة، لتتحوّل بعد ذلك إلى نقطة انطلاق لتطوير قنوات اتصال أمني واستخباري بين البلدين، تتوسع اليوم نحو ملفات أعمق تشمل مراقبة التحركات الإسرائيلية في المنطقة.
في الحرب الأخيرة، نظر جزء كبير من الشارع الباكستاني إلى إيران على أنها تقف في مواجهة العدو المشترك أي "إسرائيل"، التي لا تعترف بها باكستان من الأساس. باكستان، تمر اليوم بأزمة اقتصادية خانقة، في وقت يحمل فيه كثيرون السياسات الغربية، خصوصاً الأميركية مسؤولية التدهور المالي في البلاد.
تلعب الصين أيضاً دوراً خفياً في تقارب طهران- إسلام آباد حيث تحرص بكين على حفظ الاستقرار الإقليمي على طول طريق الحرير، خاصة في ظل الشراكة الاقتصادية الثلاثية بين الصين، باكستان، وإيران. وتدرك القيادة الباكستانية أن التعاون مع طهران يشكل عمقاً استراتيجياً لها في ظل مواجهتها مع الهند.
رغم الخطاب العلني الإيراني الذي دعا إلى التهدئة بعد اشتعال الجبهة بين باكستان والهند، فإن مصادر مطلعة تؤكد أن طهران قدمت دعماً لإسلام آباد، انطلاقاً من قناعة ترتكز على المصالح المشتركة التي تجمع الطرفين.
باكستان، التي ما زالت تحتفظ بعلاقات محسوبة مع واشنطن، تحاول لعب دور الوسيط في تهدئة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته ترسل رسائل واضحة بأن خياراتها لم تعد حكراً على المحور الغربي. الموقف من إيران ليس فقط دعماً لحليف إقليمي، بل أيضاً ورقة ضغط تستخدم أمام واشنطن. فالرسالة الباكستانية الآن: نحن لسنا تابعين.. ولدينا خيارات أخرى.
في خلفية هذا التحوّل أيضاً، شعور باكستاني متزايد بأن التحالفات الإسلامية التقليدية، وعلى رأسها منظمة التعاون الإسلامي، عاجزة أو مرتهنة لقرارات فردية. من هنا، قد يبدو التقارب مع إيران خطوة في سبيل تشكيل محور استقلالي جديد، يضم إيران (قوة عسكرية واستراتيجية)، باكستان (قوة نووية وديموغرافية)، إضافة إلى ماليزيا وإندونيسيا (قوتان اقتصاديتان صاعدتان).
هذا التحرك يعكس طموح إسلام آباد في استعادة موقعها كدولة مركزية في قضايا الأمة، خاصة في ظل تراجع أدوار قوى إسلامية كبرى وتزايد موجات التطبيع العلني والضمني مع "إسرائيل".
الزيارة الإيرانية إلى باكستان تأتي في توقيت دقيق إقليمياً، وتجسد انتقال العلاقة من التنسيق التقليدي إلى بناء تحالف متعدد الأوجه.
الملف الاقتصادي حاضر في العناوين، لكن التنسيق الأمني، والاصطفاف ضد الهيمنة الإسرائيلية والغربية، والدفع نحو محور إسلامي جديد، هي العوامل التي تحدد السياق الحقيقي لهذه الزيارة الهامة.
مع تصاعد التوترات الإقليمية وتغيّر التحالفات، يبدو أن إيران وباكستان تقتربان من نوع جديد من التعاون الضروري، قائم على مصالح أمنية مشتركة ورغبة في تقليل الضغوط الغربية.
ورغم أن هذا التعاون لا يعلن كمحور سياسي واضح، فإنه قد يتحوّل إلى شراكة مؤثرة في المنطقة، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية والأمنية بين البلدين في التطور خلال الفترة المقبلة.