مناورة نتنياهو على طريقة "واي ريفر".. من عرفات إلى حماس
من "واي ريفر" إلى غزة، لم يتغير نتنياهو. هو نفسه الذي يحترف المسرحيات السياسية: يصنع أزمة، يلوّح بخيار كارثي، ثم يساوم ليحصل على تنازلات إضافية.
-
مناورة نتنياهو على طريقة "واي ريفر".. من عرفات إلى حماس
المكان: واي ريفر، الولايات المتحدة الأميركية. الزمان: تشرين الأول/أكتوبر من العام 1998. الحدث: مفاوضات بين السلطة الفلسطينية، برئاسة ياسر عرفات، والحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو.
في اليوم السابع من المفاوضات وصلت الأطراف إلى طريق مسدود. عرفات رفض المطلب الإسرائيلي بتسليم مطلوبين وتغيير الميثاق الوطني الفلسطيني. نتنياهو تشبّث بمطالبه وهدّد بالانسحاب من المفاوضات. وزيرة الخارجية الأميركية حينها، مادلين أولبرايت، سعت للتقريب بين الجانبين، إلا أنها لم تنجح في ذلك. فجأةً، أوعز نتنياهو لفريقه بحزم حقائب السفر. ولإظهار جديته، أرسل جزءاً منها إلى المطار، وأبقى الآخر أمام مكان إقامته ليراها الجانب الفلسطيني. كما أصدر مكتبه بياناً رسمياً عن قرب مغادرتهم المكان، واتصل برؤساء الجالية اليهودية في الولايات المتحدة لإخبارهم بفشل المفاوضات، وذلك بهدف زيادة الضغط على عرفات.
نجحت المناورة؛ تراجع عرفات لتفادي انهيار المفاوضات، ونال نتنياهو ما أراد، وأصبح أمام جمهوره اليميني، الذي كان يتظاهر رفضاً للمفاوضات، "الرجل الذي لا يوقّع إلا بعد معركة حتى اللحظة الأخيرة".
في يومنا هذا، لا يزال نتنياهو نفسه. يمارس الخدع نفسها، واللعبة ذاتها، لتخدمه في المفاوضات، ويمكن تلخيص مسيرته بأنه "الرجل الذي لا يتغير".
بعد أكثر من ربع قرن على "واي ريفر"، كرّر نتنياهو المشهد ذاته، لكن بحجم أكبر. وما أصبح يُعرف في "إسرائيل" بـ"مناورة حقائب السفر"، تبدّل وصار اليوم مناورة "احتلال غزة". عوضاً من التفاوض وممارسة الضغط على الطرف الفلسطيني بوضع حقائب السفر أمام مكان إقامته، ها هو نتنياهو اليوم ينشر عشرات الآلاف من الجنود في محيط غزة، مهدّداً باحتلال القطاع و"الحسم النهائي" ضد حماس.
يقوم نتنياهو بذلك على الرغم من معرفته و"جيشه" وخبرائه الاقتصاديين أن احتلال كامل القطاع سيجرّ "إسرائيل" إلى مستنقع استنزاف وأزمة اقتصادية ودولية واجتماعية من الصعب الخروج منها وتحمّل تداعياتها. هذه المرة استخدم نتنياهو التكتيك العسكري للضغط في مفاوضات سياسية، رافعاً بذلك تهديداً ضخماً أمام الخصوم والحلفاء لإجبارهم على الضغط على حماس، والوسطاء العرب لتقديم تنازلات وتحقيق مطالبه: تفكيك سلاح المقاومة، إطلاق سراح جميع الأسرى، وإقامة إدارة مدنية صديقة لـ"إسرائيل".
في الأيام الماضية، صادق المستوى السياسي الإسرائيلي على خطط رئيس الأركان إيال زامير، التي سُمّيت "عربات جدعون 2" (عبّر نتنياهو عن كرهه التسمية ويريد تغيير اسم العملية إلى "قبضة حديد")، وتنطلق بحسب المخطط في أيلول/سبتمبر المقبل، عبر محاصرة مدينة غزة من عدة محاور، والسعي لإجلاء نحو مليون فلسطيني إلى جنوبي القطاع.
يدرك الاحتلال صعوبة هذه الخطوة وعدم ضمان نجاحها؛ فالغزيون أثبتوا في التجارب السابقة أنهم لا يتركون أرضهم بسهولة. وعلى الرغم من كل ما جرى من قصف وقتل وتجويع في شمالي قطاع غزة، بقي ما يقارب ربع مليون فلسطيني في مكانه، وهو ما يُتوقَّع أن يحدث هذه المرة أيضاً. وهذا ما يجعل تكلفة أي عملية عسكرية محتملة أعلى على الصعيد البشري (الإسرائيلي والفلسطيني). وقد كشفت صحيفة "معاريف" (20/8/2025) أن تقديرات "الجيش" تقول إن "ثمن احتلال مدينة غزة سيكلّف مقتل 100 جندي"، عدا عن مشاهد المجازر المؤكد حدوثها والتي ستنعكس سلباً على صورة "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، وهو ما بدأت تداعياته تظهر حتى قبل انطلاق الحملة العسكرية من مواقف معارضة لكل من ألمانيا وفرنسا وأستراليا.
كما في "واي ريفر"، حين مارس نتنياهو الضغط على الولايات المتحدة لتضغط بدورها على عرفات، فإن تلويحه حالياً باحتلال قطاع غزة هو ممارسة للفعل نفسه بهدف تسريع عملية التفاوض لتحقيق ما يريد: صفقة تُطلق سراح جميع الأسرى دفعة واحدة. مناورة نتنياهو موجّهة بشكل أساسي إلى الولايات المتحدة، وهي تعتمد على شاغل البيت الأبيض دونالد ترامب لإنجاحها. فوجود ترامب أتاح لنتنياهو هامشاً لتنفيذها، حتى إنه يمكن القول إن الرئيس الأميركي يشارك فيها بتصريحاته المتكررة عن ضرورة احتلال كامل قطاع غزة و"القضاء على حماس". إضافةً إلى ذلك، فإن سعي ترامب لنيل جائزة "نوبل" للسلام يحفّزه للضغط على الوسطاء العرب لانتزاع صفقة تبادل أسرى بأي ثمن، ولا يهمه إن كانت جزئية أو شاملة، المهم تسجيل أنه أوقف الحرب على غزة.
أما الطرف الثاني الذي يريد نتنياهو استهدافه بمناورته هذه فهو الداخل الإسرائيلي، حيث يتحضر لانتخابات "الكنيست" في العام المقبل. لذلك يحتاج إلى إظهار نفسه أمام جمهوره اليميني على أنه قوي لا يخضع لضغوط أحد، وهو مستمر في حملته لما يسميّه "القضاء على الإرهاب". أما بالنسبة لعائلات الأسرى، فيكرّر مقربون من نتنياهو أن الحملة العسكرية الحالية ستعيد أولادهم وستساعد في إخراجهم دفعة واحدة، وستزيد من الضغط على حماس. وعبّر عن ذلك المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" (20/8/2025) عاموس هرئل، إذ رأى أن الضغط الشعبي المتصاعد من عائلات الأسرى، مقروناً بالتهديدات باحتلال غزة، فتح نافذةً نحو صفقة جزئية. وبحسب هرئل، من المشكوك فيه أصلاً أن "الجيش" يسعى إلى اجتياح شامل، معتبراً أن "كثافة الدعاية المسبقة حول العملية الكبرى دليل على أنها قد تكون مجرد ورقة ضغط".
الكاتب في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، بن درور يميني، ذهب أبعد من ذلك، قائلاً إن "إسرائيل" تخدع نفسها إذا اعتقدت أن تهديد غزة هو ما أجبر حماس على المرونة. على العكس، "حماس أذكى من إسرائيل سياسياً. استراتيجيتها تقوم على تحويل كل تهديد إسرائيلي إلى ورقة مكسب دولي، وإلى صورة عزلة متزايدة لإسرائيل".
الشبه بين خديعة "حقائب السفر" عام 1998 والتهديد باجتياح مدينة غزة عام 2025 يكاد يكون متطابقاً. في "واي ريفر" هدد نتنياهو بالانسحاب من المفاوضات؛ والآن التهديد هو بالاجتياح الكامل. في 1998 كان الهدف الضغط على عرفات وكلينتون؛ واليوم الضغط على حماس والوسطاء العرب. الاستهلاك الداخلي الإسرائيلي بين عامي 1998 و2025 متطابق؛ نتنياهو دائماً بحاجة إلى صورة "الزعيم الذي لا يتنازل".
من "واي ريفر" إلى غزة، لم يتغير نتنياهو. هو نفسه الذي يحترف المسرحيات السياسية: يصنع أزمة، يلوّح بخيار كارثي، ثم يساوم ليحصل على تنازلات إضافية. لكن الفارق أنّ "الحقائب الفارغة" عام 1998 لم تكلّف سوى خدعة تفاوضية، بينما "خطة اجتياح غزة" عام 2025 ستكلّف دماء جنوده وتهشيم صورة "إسرائيل" في العالم.