البحرية الإسرائيلية وحقيقة الحظر الألماني الجزئي لتصدير الأسلحة
تعدّ ألمانيا ثاني أكبر مورّد للأسلحة الرئيسية لـ "إسرائيل" بعد الولايات المتحدة، حيث أصدرت برلين عام 2023، تراخيص تصدير أسلحة بقيمة نحو 326 مليون يورو لـ "إسرائيل".
-
سلاح الغوّاصات الإسرائيلي ودفعة ألمانية جديدة.
بعد 22 شهراً بالضبط من بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرز، في الثامن من آب/أغسطس الجاري، أنّ ألمانيا "لن توافق بعد الآن على أيّ تصدير لمعدات عسكرية إلى "إسرائيل" يمكن استخدامها في قطاع غزة". ورغم أهمية هذا الموقف ـــــ كون برلين تعتبر من أهمّ الأطراف الدولية التي ترتبط بعلاقات عسكرية مع "تل أبيب" ـــــ إلا أنه بالتدقيق في هذه الموقف، سرعان ما يتضح أنّ هذا ليس وقفاً شاملاً لشحنات الأسلحة الألمانية إلى "إسرائيل".
فالأسلحة المخصّصة للعمليات العسكرية في الضفة الغربية وجنوب لبنان وسوريا لم تتأثّر عملياً بهذا القرار، كما أنّ الذخيرة وتكنولوجيا الدفاع الجوي مستثناة.
ورغم تصنيفها رسمياً على أنها "دفاعية"، إلّا أنّ هذه الأنظمة تُستخدم لاعتراض الصواريخ والطائرات المسيّرة من المقاومة في غزة وإيران وحركة أنصار الله في اليمن، وحتى أواخر العام الماضي، من حزب الله في لبنان. لذا، في الواقع، لا تقتصر هذه الأسلحة على الدفاع فحسب، بل تُسهم أيضاً في دعم سياسة "إسرائيل" الأوسع نطاقاً المتمثّلة في العدوان والإبادة الجماعية.
النقطة الأكثر أهمية في هذا الصدد، ترتبط بأنّ هذا القرار لا يمسّ جانباً هو الأهمّ في العلاقات العسكرية بين ألمانيا و"إسرائيل"، ألا وهو الجانب المرتبط بالتسليح البحري، حيث من المرجّح ألّا ينطبق الحظر الألماني، على معّدات البحرية الإسرائيلية، رغم دورها المحوري في فرض الحصار على ساحل قطاع غزة، ومشاركتها بشكل مباشر في العمليات العسكرية هناك، وهو أمر يرتبط بشكل وثيق أيضاً بتوجّهات إسرائيلية طرأت خلال السنوات الأخيرة، بدا منها اهتمام متزايد بتطوير السلاح البحري الإسرائيلي، وتعزيز دوره بعد عقود من وضعه في مرتبة ثانية أو حتى ثالثة، خلف سلاح الجو وسلاح المدرّعات.
سلاح الغوّاصات الإسرائيلي ودفعة ألمانية جديدة
لعلّ من المفارقات المعبّرة، أن يأتي القرار الألماني الأخير بشأن الصادرات العسكرية لـ "إسرائيل"، بعد أيام قليلة من إتمام أول عملية إبحار تجريبية للغوّاصة الإسرائيلية الثالثة من الفئة "دولفين-2"، المسماة "دراكون"، وهي عملية تمّت قرب ميناء كيل الألماني، واستمرّت لمدة عشر ساعات. يعتبر مشروع غوّاصات "دولفين-2"، من أهمّ المشروعات التي تمّ تنفيذها في إطار العلاقات العسكرية بين برلين و"تل أبيب"، وتعتبر عملياً أكبر غوّاصات بُنيت في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
صُمّمت هذه الفئة خصيصاً للعمليات في البحر الأبيض المتوسط، مع التركيز على المراقبة تحت الماء والعمليات الخاصة، وهي عاملة بالديزل والكهرباء، وتمتلك البحرية الإسرائيلية بالفعل غوّاصتين من هذه الفئة، إلى جانب ثلاث غوّاصات من الفئة الأقدم "دولفين-1"، ويعتبر الفارق الجوهري بين الفئتين "1" و"2"، أنّ الفئة الثانية تستخدم نظام الدفع الهوائي المستقل "AIP"، ما يمنحها مدىً وسرعةً ومرونةً تشغيليةً أكبر من دون الحاجة إلى الصعود للسطح لإعادة شحن بطارياتها، ناهيك عن البصمة الصوتية المنخفضة التي تتمتّع بها هذه الفئة من الغوّاصات.
من النقاط المهمّة فيما يتعلّق تحديداً بالغوّاصة الجديدة "دراكون"، فيمكن القول إنها تعتبر "جسراً" يربط بين الفئة "دولفين" والفئة "داكار" الجديدة التي تعتبر مستقبل سلاح الغوّاصات الإسرائيلي، وحقيقة الأمر أنّ الغوّاصة "دراكون" تختلف بشكل كبير في تسليحها عن الغوّاصتين العاملتين من الفئة نفسها في البحرية الإسرائيلية حالياً، نظراً لأنّ البرج الأساس الخاصّ بها أكبر حجماً من الفئة السابقة، وهو أضاف مزيداً من الغموض على قدراتها التسليحية، نظراً لأنّ هذا الأمر قد يعني امتلاكها نظام إطلاق عمودي للصواريخ، يمكن استخدامه لإطلاق صواريخ كروز جوّالة، لزيادة السعة الإجمالية، حيث كانت الفئة السابقة تستخدم فقط أنابيب الطوربيد لإطلاق الصواريخ الجوّالة.
التعاون العسكري في مجال التسليح البحريّ بين "إسرائيل" وألمانيا، سيتلقّى في المدى المنظور دفعات أكبر، حيث من المقرّر أن تبدأ شركة "تيسين كروب" الألمانية، في عمليات بناء ثلاث غوّاصات من الفئة الجديدة "داكار"، لصالح البحرية الإسرائيلية، كي تحلّ محلّ الغوّاصات الثلاث الأقدم في الترسانة الإسرائيلية حالياً، من الفئة "دولفين-1". الصفقة المرتبطة بهذه الغوّاصات، تمّ توقيعها عام 2022، بعد أن تمّ إبرام مذكّرة تفاهم حولها عام 2017، لكنها ظلت معطّلة بسبب الشبهات التي طالت صفقة الغوّاصات السابقة من الفئة "دولفين-2".
توقيع هذه الصفقة وضع قوة الغوّاصات الإسرائيلية على طريق التطوّر النوعي، نظراً لأنّ غوّاصات الفئة "داكار"، ستكون مزوّدة بتقنية الدفع الهوائي المستقلّ، وهو ما يتيح لها مدى عملياتياً أكبر، وحاجة أقلّ للصعود إلى سطح الماء. يضاف إلى ذلك تزوّدها بتقنية الإطلاق العمودي للصواريخ المختلفة، بما في ذلك الصاروخ الجوّال "بوب أي توربو"، الذي يصل مداه إلى 1500 كيلومتر، وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية تزويده برأس حربي نووي تصل قدرته إلى نحو 200 طن، ما يوفّر للبحرية الإسرائيلية القدرة على تنفيذ ضربات استراتيجية.
تعاون عسكري تاريخي بين برلين و"تل أبيب"
تُعدّ ألمانيا ثاني أكبر مورّد للأسلحة الرئيسية لـ "إسرائيل" بعد الولايات المتحدة، حيث أصدرت برلين عام 2023، تراخيص تصدير أسلحة بقيمة نحو 326 مليون يورو لـ "إسرائيل" ـــــ أي ما يُقارب عشرة أضعاف قيمة العام السابق ـــــ كما تمّت الموافقة على 161 مليون يورو أخرى في عام 2024.
أما في النصف الأول من عام 2025، فصدّرت ألمانيا أسلحة إلى "إسرائيل" بقيمة نحو 90 مليون يورو، وشملت الشحنات المصدّرة أسلحة نارية، وذخيرة، وقطع غيار أسلحة، ومعدات خاصة للجيش والبحرية، وأجهزة إلكترونية، ومركبات مدرّعة خاصة، وهي تفاصيل نشرها حزب "دي لينكه" اليساري الألماني، بالنظر إلى حقيقة أنّ تفاصيل صادرات الأسلحة الألمانية، تحاط عادة بسرية تامّة، حيث يُوافق مجلس الأمن القومي الألماني على تراخيص التصدير سرّاً. وباستثناء الأرقام نصف السنوية لإجمالي قيمة صادرات المنتجات الدفاعية، لا يُفصح رسمياً إلا عن القليل.
التعاون بين الجانبين في الإطار العسكري، كان متركّزاً بشكل ملحوظ على التسليح البحري، خاصة أنّ القوة التكتيكية الضاربة في سلاح البحرية الإسرائيلي منذ تأسيسه، كانت ترتكز على الزوارق الصاروخية ألمانية الصنع، وبشكل محدّد الزوارق الصاروخية من الفئة "ساعر"، التي بدأت مسيرتها في التشكيلات البحرية الإسرائيلية منذ خمسينيات القرن الماضي، بزوارق "ساعر-1"، مروراً بزوارق "ساعر-2"، ثم "ساعر-3" التي شاركت في حرب تشرين 1973، وصولاً إلى مرحلة توطين عمليات تصنيع هذه العائلة من الزوارق، في الترسانة البحرية الإسرائيلية، في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً الفئة "ساعر-4"، ثم "ساعر-4.5"، التي لا تزال في الخدمة، وصولاً إلى زوارق "ساعر-5"، التي تمّ تصنيعها في الولايات المتحدة الأميركية.
من ثم تمّت العودة مرة أخرى لتصنيع هذه الفئة من الزوارق في ألمانيا، وهي الزوارق الأكثر تطوّراً حالياً في البحرية الإسرائيلية "ساعر-6"، التي جرى تصنيعها في ألمانيا بتصميم إسرائيلي، بمواصفات فائقة السرية، وبدأ تسليمها عام 2020، وتعتبر أكبر وأحدث سفن السطح في البحرية الإسرائيلية، وتمّ تصميمها بشكل أساسي، لحماية المنطقة الاقتصادية الخالصة قبالة ساحل فلسطين المحتلة، والتي تشمل حقول الغاز، وتتزوّد بنحو 18 نظاماً قتالياً متطوّراً، وتبلغ إزاحتها الكلية 1900 طن، وتتسلّح بست عشرة خلية إطلاق عمودي لصواريخ الدفاع الجوي "باراك-8"، و40 خلية إطلاق النسخة البحرية من منظومة الدفاع الجوي "القبة الحديدية"، و16 صاروخاً مضاداً للسفن من نوع "جابرييل-5".
مشاركة الأسلحة ألمانية المنشأ في الحرب على غزة
بشكل عامّ، تمّ إثبات مشاركة هذه الفئة من الزوارق ألمانية المنشأ، في الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، حيث نفّذت البحرية الإسرائيلية عمليات قتالية من البحر باتجاه قطاع غزة، استخدمت خلالها بشكل رئيسي الكورفيتات الصاروخية "ساعر-5" و"ساعر-4.5"، لكنها أدخلت للمرة الأولى على المستوى العملياتي، زوارق "ساعر-6" الحديثة، إلى الميدان البحري في قطاع غزة، بداية من كانون الأول/ديسمبر 2023، حيث تمتلك أربعة زوارق من هذا النوع، اكتمل تجهيز ثلاثة منها بالأنظمة القتالية الكاملة، حيث تمّ الدفع باثنين منها للمشاركة في العمليات قبالة ساحل قطاع غزة، في حين تمّ الدفع بالزورق الثالث ليكون موجوداً قبالة ساحل فلسطين الجنوبي في البحر الأحمر.
استخدام هذه الفئة من الزوارق، تضمّن أسلوباً بات يعتبر من ملامح التغيّرات الأساسية التي طرأت على التكتيكات الميدانية لـ "الجيش" الإسرائيلي، ألا وهو توسيع مظلة الدفاع الجوي لتشمل مشاركة القطع البحرية الإسرائيلية في شبكة الدفاعات الجوية التي تحمي أجواء فلسطين المحتلة، ففي نيسان/أبريل 2024، استخدمت "إسرائيل" النسخة البحرية من نظام الدفاع الجوي "القبة الحديدية" ـــــ التي تعرف باسم "القبة C" ـــــ لاعتراض طائرة مسيّرة فوق البحر الأحمر، وهو ما تكرّر في عدّة مناسبات.
هذا الملف يتضمّن بين ثناياه توجّهات لافتة في المنظومة العسكرية الإسرائيلية، لتعظيم دور القوة البحرية في أية عمليات قتالية، وهو أمر يمكن اعتباره في حدّ ذاته، تغيّراً مهماً في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي كانت تعتمد خلال العقود الماضية بشكل شبه حصري، على التفوّق الجوي، والقوة المدرّعة.
هذا يمكن ملاحظته في الهجوم البحري "الأول" للبحرية الإسرائيلية في نطاق البحر الأحمر، منذ سبعينيات القرن الماضي، حين أعلنت "تل أبيب" في حزيران/يونيو الماضي، عن مهاجمتها أهدافاً في ميناء الحديدة اليمني، باستخدام زوارق الصواريخ. وهو تطوّر لافت يضاف إلى عمليات تحديث نوعية تستهدف تحقيقها البحرية الإسرائيلية خلال المدى المنظور، بعد إعلان بدء بناء أول زورق صاروخي من الفئة "ساعر-7.5" أوائل العام الجاري، وهو من ضمن خمسة زوارق صاروخية سيتمّ بناؤها في ميناء حيفا.
عمليات التحديث هذه، تتضمّن توسّعاً لافتاً في استخدام "الزوارق المسيّرة"، ففي أيار/مايو الماضي، بدأت البحرية الإسرائيلية، في نشر زوارق مسيّرة، في المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة، بهدف جمع المعلومات المستمدة من السفن وتوثيقها، واستخدامها لتحليل التهديدات ونشر القوات في الساحة البحرية.
يضاف إلى ما سبق، قيام "تل أبيب" بسد ثغرة مهمة كانت تشوب المنظومة البحرية الإسرائيلية، ألا وهي غياب "سفن الإنزال البرمائي"، حيث لم يتمّ استبدال سفن الإنزال التي خرجت من الخدمة، بسفن جديدة، لكن تمّ تعديل هذا الوضع، عبر تسلّم البحرية الإسرائيلية عام 2024، سفينتي إنزال برمائي، تمّ بناؤهما في أحواض بناء السفن بالولايات المتحدة، تمّت تسمية الأولى "Nahshon"، وتمّ استلامها في تشرين الأول/أكتوبر 2023، والثانية تمّت تسميتها "komemiyut". وقد تمّ شراء كلا السفينتين، باستخدام أموال من المساعدات العسكرية الأميركية لـ "إسرائيل".
بالعودة إلى ملف الأسلحة الألمانية المصدّرة لـ "إسرائيل"، يمكن القول إنّ أسلحة ألمانية الصنع، تشكّل إلى جانب زوارق الفئة "ساعر"، أسلحة خفيفة ومتوسّطة ومضادة للدبابات، وشاحنات متنوّعة وذخائر متخصصة، تمّ إثبات استخدامها في قطاع غزة، وبالنظر إلى أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة مستمرة منذ أواخر عام 2023، فإنّ "واقعيّة" الحظر الألماني الجزئي على تصدير الأسلحة لـ "إسرائيل"، تبقى محلّ شكوك جدّية، لكن على الجانب الآخر، يمكن اعتبار هذا التعليق الجزئي، تحوّلاً سياسياً مهماً، في دولة تعتبر حالياً ثاني أكبر مورد للأسلحة لـ "إسرائيل"، بعد الولايات المتحدة فقط.