كردستان – "إسرائيل" (ممر داوود يدخل حيز التنفيذ)
الكيان الصهيوني غير قادر بالفعل على تحقيق طموحاته الكبيرة، وصراعه مع قوى المقاومة وإيران ثبت أنه لا يمكنه الاستغناء عن الحماية الأميركية.
-
يمثل ممر داوود إحدى الخطوات التي ينوي الصهاينة اتخاذها لتحقيق فكرة "إسرائيل الكبرى".
تخضع منطقة الشرق العربي في الفترة الحالية للعديد من التحولات، التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لفرضها على المنطقة مستغلة نفوذها الواسع الذي تمكنت من فرضه على دولها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعه الأنظمة القومية والاشتراكية الرافضة لهيمنتها.
هذه المشروعات التغييرية برزت بوضوح وصراحة وقحة أحيانا وخاصة بعد 7 أكتوبر 2023، ومؤخراً تحدث بصراحة عن مشروع "إسرائيل الكبرى". هذا المشروع كان قد تحدث فيه بطرف خفي المبعوث الأميركي توم باراك عبر انتقاده سياسة الحلفاء بتقسيم المنطقة، وهو تصريح احتفى به بعض المتفائلين، معتبرين أنه دليل على تراجع قيمة الكيان الصهيوني عند الأميركيين، على اعتبار أنه اقترن بتصريحات ترامب عن رفض مشاركة الولايات المتحدة في حروب خارجية، وتراجع قيمة المنطقة لدى السياسة الأميركية في مقابل مناطق أخرى اشتعل حولها الصراع.
ولكن، بالرغم من صحة هذا التصور عن تراجع أهمية منطقة الشرق العربي، إلا أن السياسيين الأميركيين لديهم تصور آخر في هذا الشأن، برز مؤخراً مع ظهور الهند كقوة منافسة محتملة للصين. وهنا يبدو أن الأميركيين قرروا أنّ تراجع أهمية المنطقة لا يعني التخلي عنها، وإنما ترتيب الأوضاع فيها بين قوى غير معادية، وفي المناطق الأكثر أهمية ستكون بين قوى غير عربية كذلك.
يبرز هذا التصور فيما يتعلق بظهور فكرة ممر داوود الصهيوــ أميركي مع تصريحات نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى"؛ وعلى الرغم من أن ممر داوود هو مجرد فكرة غير رسمية حتى الآن، لكن يجري تنفيذها فعلياً على أرض الواقع.
ممر داوود
يمثل ممر داوود إحدى أهم الخطوات التي ينوي الصهاينة اتخاذها كمقدمة لتحقيق فكرة "إسرائيل الكبرى" كما يتصورها نتنياهو، وهو يعتمد على ممر بري ينطلق من الجولان المحتل، عبر السويداء ودرعا، والصحراء السورية مروراً بقاعدة التنف الأميركية عند المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن، حتى نهر الفرات، حيث تلتقي القوة الصهيونية بالمناطق المسيطر عليها من قبل كرد سوريا.
هناك أكثر من عنصر فاعل في هذا المشروع يجب مناقشة أوضاعه، سواء كان مستفيداً أم متضرراً، وردود أفعاله، لعل أولهم الكيان الصهيوني ومخططه المعلن بتأسيس "إسرائيل الكبرى"، والولايات المتحدة الأميركية، ثم المجموعات الكردية والأقليات في العالم العربي، تركيا، إيران، وأخيراً الصين وروسيا والهند.
الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية
في 12 آب/أغسطس الجاري، أطلق رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو تصريحات خلال لقائه مع قناة i24 الصهيونية، أكد فيها أنه يرى نفسه في مهمة "تاريخية وروحية" لتحقيق ما يسميه الصهاينة الأرض الموعودة، وبالرغم من أن نتنياهو لم يُحدّد ما هي الأراضي العربية التي يسعى إلى ضمها ضمن ما يُسمّى "إسرائيل الكبرى"، فإن هذه الرؤية معروفة بتضمّنها مناطق عربية هي جزء من الدولة الفلسطينية المنتظرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب أراضٍ تقع شرقاً وغرباً من نهر الأردن، ومناطق من سوريا ومصر، ويُضاف إليها مناطق من شمال المملكة العربية السعودية .
لم يكن هذا التصريح الواضح هو الأول، فقد سبق لبنيامين نتنياهو أن أعلن في كتابه " مكان تحت الشمس " عن أن مساحة الكيان الصهيوني الحالية لا تساوي 20% من أراضي " إسرائيل الانتدابية "، متهماً بريطانيا بالمسؤولية عن هذا الاقتطاع " لقد جرى في فرساي، التعهد لليهود بإقامة دولة في فلسطين. وشمل الوطن القومي آنذاك ضفتي نهر الأردن. هذه المنطقة التي تسمى " أرض إسرائيل الانتدابية " (المنطقة التي كلفت بريطانيا عام 1920 أن تقيم فيها وطناً لليهود)، شملت أراضي دولتي الأردن وإسرائيل اليوم، غير أن الكثيرين يدعون اليوم، أن اليهود لا يستحقون حتى 20% من هذه الأراضي (أي، إسرائيل بما فيها الضفة الغربية وغزة)، ويطالبون بأن يكتفي الشعب اليهودي بـ15% فقط من منطقة الانتداب الأصلية (إسرائيل، من دون الضفة الغربية وغزة) "، ويعقّب نتنياهو على هذه النتيجة " إن خطوة كهذه، ستبقي لليهود دولة يبلغ عرضها حوالى 19 كم، تزدحم مدنها ومستوطناتها على طول شواطئ البحر المتوسط، في حين يظل العرب الذين يقودهم زعماء كارهون لليهود، يسيطرون عليهم من على جبال الضفة الغربية التي تشرف على الدولة برمتها " (ص 73، 74) .
ومنذ أحداث 7 أكتوبر 2023، صرح بنيامين نتنياهو أكثر من مرة بأن كيانه يرغب في تغيير خارطة الشرق العربي (الأوسط)، وبالتأكيد ما يقصده بالتغيير هو توسعة مساحات الكيان الصهيوني، والتي سبق أن صرّح بها دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية.
إذاً، مشروع ضم مساحات جديدة للكيان الصهيوني، ليس مجرد رؤى تآمرية، وإنما هو خطة حقيقية يجري العمل على فرضها تدريجياً، وفي إطار هذه الخطة يأتي مشروع ممر داوود المشار إليه كخطوة أساسية ضمن البرنامج التنفيذي لهذا المشروع. وبعيداً من النبوءات التوراتية المتخيلة من الصهاينة، فالواقع أن هذه التوسعة لأراضي الكيان الصهيوني، تأتي بناءً على المصالح الأميركية التي ترغب في تحقيق عدد من المشروعات المشتركة مع الكيان الصهيوني ضمن محاولات إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة.
تتوسع المكاسب الصهيوــ أميركية من هذا الممر، فهو يصل بين مناطق الدروز والكرد، ما يؤدي إلى تطويق دمشق، وعدم قدرتها على النهوض كدولة سورية موحدة مرة أخرى، كما سيؤدي إلى تفتيت وحدة أراضي العراق وتهميش مجال حركة إيران على دعم المقاومة في لبنان وفلسطين، وحتى في العراق ذاتها، إضافة إلى تحجيم المشروعات التركية المرتبطة بالذكريات العثمانية. لكن الأهم هو أن يكون الكيان الصهيوني على تماسٍ عسكري مباشر مع شمال شبه الجزيرة العربية والعراق، بما يمهد لتغييرات في الواقع الإيراني، سواء عبر الكرد وغيرهم من الأقليات الإيرانية، أم عبر توجيه ضربات مباشرة. إضافة إلى الإشراف على ثروات الطاقة في المنطقة، خاصة في الخليج.
الخسائر العربية لن تتوقف عند هذا الحد، فسيطرة الكيان الصهيوني على منابع نهر الأردن في سوريا، ووجوده المكثف من الناحية العسكرية على الحدود الأردنية/السورية/العراقية، يمثل تهديداً مباشراً للأردن وعزلاً لها عن سوريا والعراق. كما أن تأسيس كيان درزي في سوريا، يهدد الأردن، الذي تعيش فيه أقلية درزية على امتداد جبل العرب من الناحية الأردنية. وبحسب تصريحات نتنياهو فإنه يؤمن بأن الأردن جزء من أرض الكيان الصهيوني، ليس بناء على التوراة فقط، وإنما بناء على ما أقره مؤتمر فرساي كذلك.
من الناحية الاقتصادية، سوف يتمكن الكيان الصهيوني من التأثير على الموارد المائية في نهري دجلة والفرات ونهر الأردن وروافده التي تنبع من سوريا، إضافة إلى نسبة 90% من النفط والغاز الطبيعي السوري المتركز في مناطق تمركز وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، وإعادة رسم خطوط وممرات التجارة، بحيث تمر على الكيان الصهيوني ومنه إلى أوروبا، وبالتالي محاولة تجنب مضيقي هرمز وباب المندب وقناة السويس، ما يضعف أهمية موانئ الخليج (سلطنة عمان خصوصاً) ومصر واليمن وحتى الشام وتركيا، وينقل مركز الثقل اللوجستي إلى الكيان الصهيوني .
لكن المكسب الحقيقي للأميركيين والكيان الصهيوني سيتمثل في محاولة ربط ممر داوود بممر زانجيزور الذي يربط آذربيجان بإقليمها ذي الحكم الذاتي نختشيوان، وهذا يعتمد على تأسيس مشروعين كبيرين: 1-الدولة الكردية الكبرى المستقلة. 2-آذربيجان الكبرى. ومن المؤكد أن تأسيس ممر داوود يأتي في إطار محاولة الضغط على الدول المحيطة من أجل التحريض على الهويات العرقية والطائفية التفتيتية، والتي امتدحها بنيامين نتنياهو في كتابه سالف الذكر، وإضعاف مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث يتحرك مشروع ممر داوود في نفس توقيت التحركات الأميركية في البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية لإضعاف النفوذ الصيني هناك.
المجموعات الكردية والأقليات
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يحلم الزعماء الكرد بتأسيس دولة كردية، وقد حصلوا بالفعل على وعود بتأسيس دولة كردية من قبل الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى خلال معاهدة سيفر 1920، لكن بعد ثلاث سنوات من المعاهدة تم توقيع معاهدة لوزان مع تركيا والتضحية بفكرة الدولة الكردية.
إذاً، ففكرة تأسيس دولة كردية هي فكرة قديمة لدى الغرب، ليس عطفاً على طموحات الشعب الكردي، بل تأسيساً لكيان عازل ما بين إيران والعراق وتركيا وسوريا، ومهدداً من هذه الدول ومهدداً لها في ذات الوقت، ويبدو أن هذه الفكرة تعاود طرح نفسها بقوة في الوقت الحالي.
بالتأكيد ستحصل المجموعات الكردية من خلال هذا الممر على دعم كبير من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وأوروبا، كما أن الربط بين السويداء ومناطق الكرد سيضعف موقف الحكومة المركزية في دمشق، ويؤدي إلى تحويل سوريا إلى كانتونات طائفية وعرقية صغيرة، وقد برزت هذه النوايا في إعلان حكمت الهجري، وهو أحد المرجعيات الدينية الدرزية، مطالبته بإقليم درزي منفصل بهدف حماية الطائفة من محاولات الإبادة بعد الأحداث التي شهدتها السويداء مؤخراً، وقد سبق أن أطلق الهجري نداء إلى الكرد يطلب منهم مساعدة الدروز والتواصل عبر هذا الممر الصحراوي .
إن إقامة دولة كردية في المناطق التي يقطنها الكرد في العراق وسوريا، حتى في إطار الحكم الذاتي، وإقامة إقليم خاص للدروز، يعنيان بالضرورة انتشار الحالات التقسيمية (الطائفية والعرقية) في مناطق الهلال الخصيب، وبالتالي ترسيخ وضع الكيان الصهيوني، بصفته كياناً قائماً بالأساس على وضع طائفي، ولن تبقى قوة حقيقية في المنطقة سوى كل من الكيان الصهيوني والكيان الكردي المتوقع، مع السيطرة الصهيونية على الصحراء السورية، وهنا يجب الإشارة إلى أن هناك دعاوى صهيونية فيما يتعلق بمنطقة درعا (أذرعات سابقاً) والتي كانت حتى الفتح الإسلامي تشهد كثافة الوجود اليهودي فيها، كما ذكرتها التوراة بسفر التثنية باسم أذرعي، وتشير إلى استيلاء العبرانيين على هذه الأرض ومنحها لنصف سبط منسي.
الموقف التركي
من الواضح أن الأتراك يدركون تماماً خطورة هذا المشروع على أمنهم القومي، ففي لقاء على قناة أخبار GZT، حذر الأميرال التركي جهاد ياييجي من مشروع ممر داوود الذي سيسمح للكيان الصهيوني بالتأثير على تركيا عبر وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، مؤكداً أن من أهداف الكيان الصهيوني إضعاف تركيا وتمزيق وحدتها، والسيطرة على موارد المياه والطاقة، كما حذر من أن الكيان الصهيوني يستهدف الوصول إلى نفط كركوك والموصل في شمال العراق، حيث توجد القاعدة العسكرية البريطانية بين المدينتين، والتي أنشئت بصمت في أبريل الماضي. وقد أشار الأميرال التركي إلى إعادة إحياء خط النفط والغاز الطبيعي ما بين كركوك وحيفا والذي كان موجوداً في عشرينيات القرن الماضي، وهو يمر من نفس مناطق ممر داوود.
ثمة مخاطر اقتصادية في هذا التمدد للكيان الصهيوني، فهو يسعى هنا إلى أن يكون الممر الرئيسي لسلاسل التوريد والتجارة بين آسيا وأوروبا والقارة الأميركية، ومثل هذا الدور يعتمد عليه الأتراك ويرغبون في احتكاره، وفي حال نجح المخطط الصهيوني في إقامة دولة كردية تمتد من شمال إيران مروراً بشمال العراق وشمال شرق سوريا، فإن وحدتهم السياسية لن تكون مهددة فقط، وإنما مكانتهم الاقتصادية كذلك، فمثل هذه الدولة الكردية سوف تكون على تواصل جغرافي مباشر مع ممر زانجيزور، وهنا سيتمكن الصهاينة من تهميش الدور التركي تماماً وإنهاء الأحلام العثمانية، وهذا ما سبق لبنيامين نتنياهو التصريح به علناً .
الموقف الإيراني
ربما كان الوضع الإيراني هو الأكثر تعرضاً للتهديد في حال تمت بالفعل إقامة هذا الممر، فالنتيجة النهائية هي اقتراب الجيش الصهيوني من إيران عبر كردستان العراقية، وبالتالي قدرة كل من الأميركيين والصهاينة على دعم المجموعات الكردية والآذرية الانفصالية، وهو دعم علني إلى درجة مطالبة رئيس وزراء الكيان الصهيوني لهم بالتحرك أثناء الاعتداءات الأخيرة على إيران.
إن الدعم الأمريكوــ صهيوني للمجموعات الانفصالية لن يتوقف على هذه المناطق فقط، فهناك دعم قديم للمجموعات السلفية في بلوشستان، وهذا الدعم يجري في أحيان كثيرة عبر الهند ذات العلاقات الوثيقة بالكيان الصهيوني. وهنا يدرك الإيرانيون أنه رغم ضعف المجموعات الانفصالية، فإنها قد تستغل الضغوط الغربية على النظام الإسلامي في إيران، من أجل تحريك الأوضاع في الشارع ونشر الأفكار التقسيمية بناءً على العرق والطائفة، في حال تمكن الكيان الصهيوني من تفتيت وحدة سوريا والعراق. خاصة أن قيام الدولتين الكردية والآذرية الكبرى، سيعني امتداد ممرات التجارة وسلاسل التوريد إلى الكيان الصهيوني من دون وجود عائق عربي أو إيراني أو حتى تركي معاد لوجود الكيان.
إن تهديد الوحدة السياسية لأراضي إيران، سيحمل تهديداً لوضعها الاقتصادي، فانفصال كردستان وآذربيجان يعني تهميش أي دور لإيران في المنطقة، كما يعني استبعادها من مسارات وممرات التجارة، حيث ستذهب هذه الميزات بشكل أساسي للدول الجديدة (آذربيجان، كردستان وبلوشستان)، إضافة إلى عزل إيران عن أوروبا. وإذا لم يؤدِّ كل ذلك إلى إسقاط النظام المعادي للغرب والصهيونية في إيران، فإن قدراته على التحرك في المنطقة سوف تنتهي تماماً.
مواقف الهند، روسيا والصين
تتباين مواقف القوى الثلاث، فمن المؤكد أن فكرة إنشاء ممر داوود سوف تؤثر على وضع كل من روسيا والصين في الشرق العربي عموماً، وسوف يكون بمقدور الكيان الصهيوني السيطرة السياسية والعسكرية على الأوضاع في كل من الهلال الخصيب والخليج، ما سيعني إيقاف مبادرة الحزام والطريق الصينية وتحجيم الوجود الصيني والروسي في المنطقة، وإيقاف المحاولات الروسية للسيطرة على أسواق الغاز.
لكن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، فعلى الرغم من أن إنشاء الممر قد يؤثر بشكل مباشر على الخارطة السياسية للعالم العربي وإيران وتركيا، وهو بعيد التأثير بالنسبة للصين وروسيا حالياً، فإن احتمالية الربط بين ممر داوود وممر زانجيزور (الترامبي)، تعني أن هذه المؤثرات التفتيتية سوف تمتد إلى كلا الدولتين الكبيرتين، حيث تتنوع العرقيات في كلتيهما. وليس سراً أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم الميول الانفصالية للمجموعات المعارضة في كل من هضبة التيبت وسينكيانج ومنغوليا الداخلية، وقد تقوم بذات التحريض بالنسبة للأقليات في الاتحاد الروسي.
أما الهند فمثل هذه المشروعات، وخاصة مشروع ممر داوود، تفيدها مرحلياً، حيث يرفع من شأن طريق التوابل الجديد المنطلق من أراضيها إلى الكيان الصهيوني، عبر إيجاد امتداد بري يربط بينها وبين البحر المتوسط، من دون المرور في الصين أو باكستان، ولهذا السبب تجاهر الهند بتأييد الدعوات الانفصالية لدى التيبتيين في الصين والبلوش في باكستان وإيران. كما تسمح لها هذه المخططات بإزاحة النفوذ الصيني من شرق أفريقيا، ولعب دور أساسي في الشرق العربي، سواء الخليج أو دول الهلال الخصيب.
إن هذه المخططات والمشروعات الصهيوــ أميركية يوجد فيها العديد من الثغرات التي تسمح للدول المتضررة بشكل مباشر: روسيا، إيران، تركيا أو غير مباشر حالياً كالصين وباكستان بتعطيلها أو إيقافها تماماً. لعل أهمها الموقف التركي من محاولة الكيان الصهيوني إقامة هذا الممر والتواصل مع الكرد، وإمكانية إجبار كرد سوريا على إقامة علاقات مع تركيا بهدف تجنيب مناطقهم حرباً تركية واضطرابات داخلية يمكن أن يقوم بها التركمان والعرب. إضافة إلى احتمالية أن تتعاون تركيا مع إيران في إيقاف أي مشروعات تفتيتية في العراق.
من ناحية إيران، فإن فكرة إقامة آذربيجان الكبرى تبدو ضعيفة للغاية، فالشعب الآذري في إيران يعد مؤسساً للدولة الإيرانية، وينتمي إليه كل من قائد الثورة الإسلامية السيد الخامنئي، ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان، وغيرهما من الشخصيات الفاعلة في الدولة، ويحظى الدين في آذربيجان الإيرانية بمكانة كبرى مقابل علمانية الدولة الآذرية المستقلة، وهو ما يجعل الدولة في إيران أقرب إليهم، خاصة وأنها، نتيجة تعدد اللغات والأعراق، لم تقم على القومية الفارسية، وإنما على المذهب الشيعي الذي يجمع الغالبية العظمى من هذه الأعراق.
ومن هذا الأساس يمكن لإيران أن تتسبب في العديد من المشكلات التي تجبر الحكومة الآذرية على مراجعة مواقفها الداعمة للكيان الصهيوني، كما أنها يمكن أن تستغل علاقاتها القوية بأرمينيا وجورجيا وبيلاروسيا في الضغط لإيقاف مشروع ممر زانجيزور، ومن الواضح أن الجولة التي قام بها الرئيس الإيراني مؤخراً تصب في هذا الاتجاه. وفي حال نجحت إيران في تفريغ هذا المشروع من محتواه، فإن مشروع ممر داوود الصهيوني سيصبح بلا قيمة حقيقية مع وجود الرفض التركي والروسي والعربي له، ووجود قوات مقاومة للأميركيين والصهاينة في العراق وسوريا ولبنان.
وربما كان الخطر الحقيقي يتمثل في محاولة فصل كردستان الإيرانية وضمها لكردستان العراقية، وكذلك بالنسبة لبلوشستان، وهذه المحاولة أثبتت الاعتداءات الصهيوــ أميركية الأخيرة أنها لا تجد صدى حقيقياً لدى الكرد والبلوش في إيران، بالرغم من كل الضجيج الإعلامي الذي تحظى به في الغرب.
ثمة مشكلة أخرى ستواجه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني فيما يتعلق بالدروز والكرد، فالرأي العام العربي الدرزي غير متفق حول فكرة العلاقة مع الكيان الصهيوني، وقد ظهر هذا بوضوح في بيان مشيخة عقل الطائفة الدرزية رداً على الأحداث الطائفية في السويداء " نؤكد على مواقفنا الوطنية الثابتة ومبادئنا الوطنية العروبية وهويتنا السورية وقيمنا الإسلامية ".
كما أن المجموعات الكردية في سوريا والعراق غير متشابهة من ناحية الموقف السياسي. فالمجموعات الكردية في سوريا التي تعتبر نفسها امتداداً لحزب العمال الكردستاني، ذي التاريخ الصدامي مع كردستان العراق. ورغم أن كل هذه المجموعات تجمعها علاقات قوية مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، إلا أنها مختلفة من ناحية التوجهات، وسيكون على الأميركيين الضغط بهدف جمعهم في إطار واحد.
على الجانب الهندي، يدرك قادته أن لديهم ذات نقاط الضعف الموجودة لدى الصين وروسيا، من حيث تنوع الأعراق والطوائف، ويبدو أن الهند، حتى الآن، غير متحمسة كثيراً للاندفاع في حصار الثلاثي الرافض للهيمنة (الصين، روسيا وإيران)، بالرغم من مكانتها كحليف عند الأميركيين، وربما تأتي اللقاءات المتبادلة أخيراً بين الهند والصين، وارتفاع التجارة الثنائية بين الدولتين إلى 136 مليار دولار في هذا الإطار، خاصة بعد تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية على البضائع الهندية في حال لم تمتنع عن شراء النفط الروسي.
من ناحية أخرى يبدو الكيان الصهيوني غير قادر بالفعل على تحقيق هذه الطموحات الكبيرة، وصراعه مع قوى المقاومة وإيران ثبت أنه لا يمكنه الاستغناء عن الحماية الأميركية، كما أنه يبدو غير قادر على مواجهة فصائل مقاومة في الصحراء العربية السورية، وهي مشكلة يجب أن يتغلب عليها في حال سعى لإضعاف الدولة السورية ومركزيتها.