تركيا - آذربيجان هل يمكن الاتحاد بينهما؟ ممرّ زانجيزور (الترامبي) مجدّداً!
الخلاف الآذربيجاني ـــــ التركي مقبل لا محالة، خاصة لو تمّ بالفعل تنفيذ المشروع الآذري ـــــ التركي حول ممرّ زانجيزور، والذي تبنّته الولايات المتحدة مؤخّراً.
-
ممرّ زانجيزور الترامبي (تطويق إيران حالياً، والقبض على عنق تركيا مستقبلاً).
يمكن أن تكون اللغة المشتركة عامل اتحاد بالفعل، لكن هل يمكن أن تدفع لنسيان تراث من العداء والاضطهاد المذهبي بين طرفين، من دون مشروع اتحاد حقيقي تقدّمي، وإنما مجرّد مبرّر وصيغة أنيقة لهيمنة دولة على دولة أخرى؟
تثير العلاقات الحالية بين تركيا وآذربيجان استغراب كلّ من قرأ تاريخ العلاقات بين الشعبين، فبالرغم من أنهما يتفقان في اللغة، إلّا أنّ عوامل الاختلاف كبيرة كذلك؟ فاللغة التركية طارئة على الشعب الآذري الذي ينتمي عرقياً لشعوب الهضبة الإيرانية، وتعرّض لتغيير لغته مع هجرة قبائل الأوغوز التركمانية من وسط آسيا إلى أراضيه في موجات متتالية، وبالتالي فمن الملاحظ أنّ الثقافة الآذرية متأثّرة جداً بالثقافة الإيرانية.
ومن الناحية المذهبية كان الولاء الآذري للتشيّع بأنواعه كبيراً، سواء عبر الطرق الصوفية العلوية، كالصفوية والحروفية والنوربخشية وغيرها، أو عبر الانتماء للتشيّع الحوزوي السائد، كبيراً جداً وتسبّب في صدامهم مع أتراك الأناضول حيث تعرّضوا لمذابح من قبلهم، لعلّ أشهرها ما قام به سليم الأول العثماني بقتل 40 ألفاً من الآذريين، قبل صدامه مع الشاه إسماعيل الصفوي في معركة جالديران. ولاحقاً عندما اقتحمت الدبابات السوفياتية مدينة باكو عاصمة آذربيجان، وطُلب من رئيس الوزراء التركي (العلماني) التدخّل، تحجّج بأنّ الآذريين شيعة والأتراك سنة.
وهنا يبرز التساؤل هل مشروع آذربيجان، هو نفسه المشروع التركي؟ يجب أن نتفق أنّ كِلا المشروعين علمانيان بالكامل، لكنّ الوضع الديني في كلا البلدين له تأثيره، المشروع التركي (الإردوغاني) مشروع عرقي يسعى للسيطرة على الشعوب المتحدّثة باللغات التركية، ومن بينها آذربيجان، لكنه كذلك لا يتورّع عن استخدام الدين لتحقيق هذا الهدف، لذلك يتهم بعض الآذريين تركيا بمحاولة تغيير الهوية الدينية في آذربيجان بهدف ترسيخ تبعيّتها لأتراك الأناضول. فما هي طبيعة المشروع الآذري؟
لا يمكن اعتبار المشروع الآذري متوافقاً تماماً مع المشروع التركي، فالمشروع الآذري يرتكز على الثلاثية الآذرية (العلمانية ـــــ اللغة التركية ـــــ التشيّع) وهي الثلاثية التي سعى الرئيس السابق حيدر علييف إلى ترسيخها لتجنّب التبعيّة سواء لإيران من ناحية التشيّع، أو لتركيا من ناحية اللغة التركية. مما يعني أنّ المشروع الآذربيجاني مستقل في طبيعته ويسعى إلى هدف أساسي وهو توحيد آذربيجان التاريخية، وهنا تكمن المشكلة بين المشروع الآذربيجاني والمشروع التركي، فهناك مناطق تركية يعتبرها الآذربيجانيون مناطق ضمن آذربيجان التاريخية ويشكّلون فيها أغلبية أو نسبة كبيرة من السكان كإغدير وقارص، وتتراوح تقديرات الوجود الآذري في تركيا بين 800 ألف بحسب المصادر التركية، و4.5 ملايين (أكثريّتهم العظمى من الشيعة الاثني عشرية) بحسب المصادر الآذرية.
من هذه المقدّمة يمكن أن نتوقّع أنّ الخلاف الآذربيجاني ـــــ التركي مقبل لا محالة، خاصة لو تمّ بالفعل تنفيذ المشروع الآذري ـــــ التركي حول ممرّ زانجيزور، والذي تبنّته الولايات المتحدة مؤخّراً عبر رئيسها دونالد ترامب وحصل على حقّ تشغيله لمصلحة الشركات الأميركية لمدة 99 عاماً، بما فيه شركات الأمن الأميركية، مطلقاً اسمه عليه (ممرّ ترامب للسلام والازدهار الدولي).
ممرّ زانجيزور الترامبي (تطويق إيران حالياً، والقبض على عنق تركيا مستقبلاً)
لا يمكن إنكار ما يوفّره إنشاء ممرّ زانجيزور من مكاسب لكلّ من آذربيجان وأرمينيا وتركيا، وإن كان الرابح الأكبر في هذا المشروع هما الولايات المتحدة وآذربيجان، وهنا نقطة مهمة أثارت قلق المحللين الأتراك، خاصة أنّ هذا المشروع الذي سعت تركيا لتأسيسه، تمّ نقل السيطرة عليه للولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يزعج الأتراك لحدّ كبير.
من ناحية الولايات المتحدة الأميركية، وبعيداً عن المكاسب الشخصية للرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي تداعبه أحلام الحصول على جائزة نوبل للسلام، فإنّ أميركا ستتمكّن من السيطرة على الممرّ الأوسط، أو ممرّ بحر قزوين، والذي تشارك أوروبا في دعمه، عبر مبادرة البوابة العالمية بمبلغ 10 مليارات يورو. كما ستتمكّن من تحجيم النفوذ الصيني الذي يعتمد على مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديد، في مقابل الدعم الأميركي لطريق التوابل الهندي.
لكن المكسب الأكثر أهمية في اللحظة الراهنة هو تحجيم النفوذ الروسي والإيراني في جنوب القوقاز، وتطويق إيران (تطويق الأزمة هو أسلوب أميركي يستهدف عزل الدول المتمرّدة) وروسيا، تمهيداً لعزلهما عن المحيط، وبدأ سياسة الأزمات بين الأقليات والعرقيات المختلفة، وتستهدف هذه السياسة حالياً محاولة فصل كلّ من آذربيجان الإيرانية وانضمامها لآذربيجان المستقلة، إضافة إلى إقليم كردستان الإيراني لضمّه إلى الدولة الكردية التي يسعى الغرب وأميركا لتأسيسها.
بالنسبة لآذربيجان، فمكسبها واضح من هذا الطريق، فمن الناحية الجيوسياسية سيتمّ الربط بينها وبين إقليمها نختشيوان (ينتمي إليه الرئيس علييف)، الذي تفصل أرمينيا بينها وبينه، وستزيد حجم تجارتها إلى 710 ملايين دولار، كما ستصبح مركزاً لوجيستياً مهماً، وربما الأكثر أهمية في التجارة بين آسيا وأوروبا.
موقف تركيا
ثمّة مكاسب مؤكّدة ستحقّقها تركيا، أو هذا ما يتصوّره الأتراك حتى الآن، فتأسيس الممرّ سيوفّر لهم طريقاً مباشراً للدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، لا يمرّ بإيران أو دولة غير تركية أخرى، كما أنّ تطبيع العلاقات بينها وبين أرمينيا سيجلب الكثير من الاستثمارات التركية لأرمينيا بما يفيد الدولتين، وسيجعل من تركيا الممرّ النهائي لإمدادات الطاقة والتجارة إلى أوروبا، لكن كلّ هذه المكتسبات لا تقنع الرئيس التركي إردوغان إذا لم تصبّ في تحقيق مشروعه الإمبراطوري ذي النزعة العثمانية.
إنّ تنفيذ المشروع بإرادة ووجود أميركي يعني تهميش كلّ من روسيا وإيران، وهذا ما يؤدّي لإضعاف موقف تركيا بآذربيجان، حيث سيعني خضوع آذربيجان للسيطرة الأميركية المباشرة وإفلاتها من الإرتهان للمشروع التركي، وهو ما لم يتجاوزه المحللون السياسيون الأتراك، حيث أبدى كلّ من صالح جمعة إيدين، وإلتشين باسول خشيتهما من احتمال تهميش المشروع التركي لاحقاً نتيجة لوجود الأميركي في الممرّ.
إنّ هذه المخاوف تجد صداها في تصريحات نتنياهو خلال استقباله الرئيس الأرجنتيني مؤكداً استحالة إحياء الإمبراطورية العثمانية مرة أخرى، وسبقتها تصريحات السفير الأميركي في تركيا توم برّاك في أيار/مايو الماضي خلال مؤتمر صحافي: "كطريق توابل جديد، يمكن لتركيا أن تصبح مركزاً لتوريد مزيد من الغاز إلى أوروبا، عبر محطات توزيع الغاز. وستوفّر لأوروبا درعاً إضافياً في مواجهة التدخّل الروسي. كما أنّ تركيا من خلال شراكاتها مع شركات الدفاع والطيران الأميركية، تؤدّي دور الواجهة الاستراتيجية الدولية، بل ويمكنها أيضاً أن تبعد الصين ومبادرة الحزام والطريق مؤقتاً عن الساحة".
وقتها احتفى المحللون الأتراك بهذه الكلمات ومنهم الصحافي ندرت أرسانيل، من دون أن يلتفتوا إلى كلمة واحدة قالها السفير الأميركي كان يجب أن تثير قلقهم "بل ويمكنها أيضاً أن تبعد الصين ومبادرة الحزام والطريق مؤقتاً عن الساحة"، فاستخدام كلمة مؤقتاً تشير إلى أنّ الولايات المتحدة تسعى لاستخدام النفوذ التركي في مواجهة كلّ من إيران وروسيا والصين مؤقتاً، قبل أن تجبر تركيا على التقوقع مرة أخرى داخل حدودها وربما مواجهة مصير تقسيمي كالمزمع تطبيقه على سوريا والعراق وإيران.
هذا القلق يبدو أنه بدأ ينتاب المحللون الأتراك، من أن تقوم الولايات المتحدة باستخدام آذربيجان كبديل للدور التركي في نقل سلاسل توريد الطاقة والمعادن الحيوية والتجارة إلى أوروبا، بحيث يتمّ تهميش تركيا لاحقاً، وهو ما يبدو أنه سيتحقّق كنتيجة للتصريحات الصهيو-أميركية بخصوص تركيا، وإصرار ترامب على الوجود الأميركي المباشر في ممرّ زانجيزور، والتهميش الكامل للدورين الروسي والإيراني.
إنّ الوجود الأميركي المباشر بآذربيجان يعني تخفيض سقف الطموحات التركية لإردوغان من الإمبراطورية، إلى مجرّد دولة مؤثّرة لا أكثر، وهو ما لن يقبل به إردوغان خاصة لو تمكّن الثلاثي (الولايات المتحدة، الكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي) من التأسيس لدولة كردية مستقلة عبر الجمع بين كرد العراق وسوريا ومحاصرة كلّ من إيران وتركيا معاً.
لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، يشير المحللان التركيان صالح جمعة إيدين وإليتشين باسول إلى الغضب الروسي والإيراني تجاه الرئيس الآذري إلهامي علييف، واحتمال قيامهما معاً بتخريب هذا المشروع بوسيلة أو بأخرى، خاصة مع التصريحات العدائية التي برزت من علي أكبر ولايتي، مستشار قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، وتهديده بأنّ إيران ستتصدّى لهذا المشروع سواء مع روسيا أو من دونها.
موقف الدول الرافضة للهيمنة الأميركية
تدرك الصين أنّ المخاطر لن تمسّ روسيا وإيران فقط، فالوجود الأميركي جنوب القوقاز يمثّل ضربة لمبادرتها الحزام والطريق، كما يعني أنها ستكون مهدّدة بشكل مباشر، ولا سيما ما يتعلّق بقضيتي التبت وسينكيانج، أو عبر منغوليا التي تطوّرت العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية لمرحلة الشراكة الاستراتيجية في عام 2019، وسعت كلّ من أميركا وتركيا إلى التقارب مع هذه الدولة في محاولة للحدّ من نفوذ كلّ من روسيا والصين بها، وخاصة أنّ هناك بعض المناطق في الصين وروسيا يقطنها سكان من المغول أو ممن لديهم علاقات قرابة مع المغول.
من ناحية روسيا، فبالرغم من الردّ الغامض الذي أبدته الحكومة الروسية تجاه ممرّ ترامب المزمع إقامته، فإنّ بعض الداعمين للكرملين كالمعلّق فلاديمير سولفيوف، اتخذ موقفاً أكثر صرامة، متوعّداً أنه في حال أنشأ حلف الناتو قواعد عسكرية في جنوب القوقاز فإنّ روسيا قد تطلق عملية عسكرية كما فعلت في أوكرانيا، معتبراً أنّ الوجود الأميركي في القوقاز هو جريمة ارتكبتها آذربيجان وليس أرمينيا، مستشهداً بدعم الرئيس الآذري إلهام علييف لأوكرانيا.
على الجانب الإيراني، هناك تحريض واضح ضد إلهام علييف واتهامه بالعمالة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني من جانب قطاعات جماهيرية، خاصة بعد حرب الاثني عشر يوماً في مواجهة الكيان الصهيوني، وفي الوقت الذي سعى فيه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للتقليل من شأن خطورة هذا الممرّ، فقد وجّهت له صحيفة كيهان اتهاماً بالجهل كردّ فعل ساخط على تصريحاته.
وبالرغم من محاولة المحللين السياسيين الأتراك التقليل من ردّ الفعل الإيراني، فإنّ الرئيس الآذربيجاني إلهام علييف يدرك تماماً أنّ لإيران أذرعها داخل بلاده، وأنّ هناك العديد من الآذربيجانيين الذين يتعاطفون مع إيران، وينظرون بعيون مرتابة للوجود التركي الأخير من ناحية محاولات الأخيرة تغيير الديموغرافيا المذهبية في آذربيجان، الأمر الذي استفزّ مفتي آذربيجان شكور باشا زاده ودفعه للردّ على أحد المسؤولين الأتراك، بأنه لولا السيد الخامنئي لما انتصرت آذربيجان على أرمينيا.
لا يمكن التورّط في توقّعات بخصوص الردّ من قبل الثلاثي الرافض للهيمنة الأميركية على خطوة ترامب الأخيرة، لكن من المؤكّد أنه لو كان هناك ردّ ما فسوف يحدث في آذربيجان المتهمة من قبل الجميع بالمسؤولية عن جلب الأميركيين إلى المنطقة. وربما تترك تركيا إلهام علييف لمصيره في حال اكتشفت خطورة تطوّر الوضع الآذري على مكانتها ووحدة أراضيها.