أصوات من الضاحية الجنوبية: مبادرات لتوثيق الحياة وذاكرة المنطقة
الضاحية الجنوبية لبيروت ليست مجرد منطقة سكنية، بل مساحة ثقافية وسياسية حية. من خلال مشاريع شبابية مثل "history of dahieh" و"Humans of Dahieh"، يتم توثيق حياة الضاحية، كاشفين عن جوانبها الإنسانية والثقافية بعيداً من الروايات النمطية.
-
أصوات من الضاحية الجنوبية: مبادرات لتوثيق الحياة وذاكرة المنطقة
ليست الضاحية الجنوبية لبيروت مجرد منطقة سكنية شعبية على هامش العاصمة. هي اليوم، كما كانت دوماً، مساحة جغرافية إضافية لفهم لبنان بعمقه الاجتماعي والثقافي والسياسي. ويرفض أهلها اختزالها بعنوان أمني، أو ادعاءات بأنها بقعة مغلقة على ذاتها.
في الضاحية، لا يعيش الناس على الهامش بل يصنعون حياة كاملة بكل تفاصيلها، في المهن، المؤسسات، المدارس، الجامعات، الشوارع، الأزقة، المساجد، المكتبات، وفي البيوت التي هُدمت ثم أعيد بناؤها أو ترميمها مرات كثيرة.
وبرغم كل ما شهدته المنطقة من قصف ودمار ونزوح، بقي أهلها أوفياء لها.
توثيق يوميات الضاحية
في ظل الركام وسرديات التشويه، برزت أصوات شبابية قررت أن تنقل الصورة الواضحة عن الضاحية الجنوبية. من بينها الشاب علي زيتون، الذي اختار توثيق يوميات الضاحية بعين ابنها، محوّلاً محاولاته الفردية إلى مشروع متكامل عبر صفحة "historyofdahieh" في مواقع التواصل، إذ يقدم صورة مركبة تجمع بين تاريخ الضاحية، أحيائها، معالمها، وحتى تحوّلاتها الطوبوغرافية.
يقول زيتون: "لم تكن فكرة التوثيق مشروعاً جاهزاً، بل وُلدت من تجربة شخصية ومن وجعٍ عميق. كلّ شيء بدأ بعدما تهجرنا خلال الحرب الأخيرة. شعرت بأنّ الصواريخ تطمس ذاكرتنا. أنا ابن الضاحية، نشأت فيها، مشيت في شوارعها، أعرف بيوتها. وعدا عن الحرب كانت هناك فكرة نمطية عن المنطقة من بعض اللبنانيين. لهذا قررت أن أبدأ بالتوثيق. لم أكن أملك خلفية إعلامية، ولم تكن لديّ كاميرا احترافية، لكنني كنت مؤمناً بأن عليّ أن أبدأ، وهاتفي القديم كان كافياً".
بأدوات بسيطة انطلق علي في جولات ميدانية شملت المريجة، الغبيري، حي السلم، حارة حريك، الحدث، الأوزاعي، برج البراجنة، دير قوبل، كفرشيما، خلدة، الناعمة، عين الرمانة... وفي كل حيّ دخله، كان يشعر بأنه يسير فوق طبقات متراكمة من الزمن.
يصوّر علي البيوت القديمة، يستمع إلى كبار السن، يجمع الروايات الشفوية، ويغوص في الكتب والأرشيفات والخرائط والبلديات. شيئاً فشيئاً، بدأ الناس يتفاعلون معه: يرسلون له صوراً قديمة، ويكتبون له: "كنت أعيش هنا ولم أكن أعلم أن لهذا البيت حكاية".
ويضيف: "حينها فهمت، ليس المطلوب فقط الردّ على الروايات المغلوطة، بل علينا أن نكتب الرواية الحقيقية، التي تُظهر الضاحية كما يعرفها أهلها: حيّة، نابضة، مليئة بالذاكرة والصمود".
أما حسين المهدي زعيتر وسارة رمال، وهما شابان من سكان الضاحية، فقد اختارا أن يرويا حكايتها من الداخل، كما يعرفانها ويعيشانها كل يوم. وسط زحمة الأخبار المضلّلة والصور المكرّرة، أطلقا معاً صفحة "Humans of Dahieh" في مواقع التواصل، مستلهمين من نبض الضاحية ومن فكرة بسيطة، أن "الإنسان هو مرآة المكان، وأن كل وجه يحمل رواية تستحق أن تُسمع".
في كل منشور وفيديو قصير، يتجاوزان التصنيفات الجاهزة. يسألان أصحاب البسطات عن يومهم، يدخلان الأزقة القديمة، ويسلطان الضوء على مبانٍ مهدمة وواجهات ملوّنة، ويتحدثان عن تفاصيل عاشوراء ومعاني العطاء المرتبطة بها. يصنعان محتوى توثيقياً بصريا وإنسانياً يعكس الضاحية كمساحة حياة نابضة، فتتحول الشوارع إلى سرديات والبيوت إلى روايات مصورة.
بعد الحرب، حتى الأجانب الذين أبدوا رغبة في زيارة الضاحية، يرافقانهم في الجولات، يشرحان لهم كيف تنبض الضاحية بحياةٍ تختلف كلياً عن تلك التي تسردها وسائل الإعلام، ويعرّفانهم على الناس. تحوّل المشروع إلى فعل مقاومة ناعمة ضد المحو والتهميش. فكل لقطة وسؤال وتعليق مثل: "ما كنت بعرف إنو الضاحية هيك"، تمثل خطوة صغيرة تعيد للضاحية وجهها الحقيقي.
منطقة خرجت من حرب، تعيد لملمة شتاتها، وتزرع بين ركامها أملاً. أبناؤها ينهضون من تحت الغبار، يحملون صورهم وذكرياتهم وأملهم، ويعودون دائماً.