أهالي جنوب لبنان يواصلون تحرير بلداتهم: أن تُضيء البيوت تحت "الدرون"
برغم التحليق الإسرائيلي المستمر والاستهدافات المتواصلة، يعود أهالي جنوب لبنان إلى قرى الحافّة متمسّكين بالحياة كمقاومة. مبادرات فردية مثل مشروع "تحرير الأرض" تعيد النور إلى البيوت تحت سماء التهديد.
-
أهالي جنوب لبنان يواصلون تحرير بلداتهم: أن تُضيء البيوت تحت "الدرون"
لا تبرح المسيّرات الإسرائيلية سماء القرى والبلدات في جنوب لبنان، ولا سيما البلدات الحدودية مع فلسطين المحتلّة. كان "الاستعراض" الأخير الذي نفّذه الاحتلال في سماء كفركلا تحليقَ طائرة "درون" إسرائيلية على علوّ منخفض جداً، حتى كادت تُلامس الأيدي الممدودة. بدا المشهد، من الجانب الإسرائيلي، استفزازاً متعمّداً للأهالي الصامدين، لكنّ شاباً واجه الطائرة رافعاً شارة النصر، مصوّراً الموقف من مسافة أمتار معدودة، في لقطة تختصر العلاقة بين المحتلّ وصاحب الأرض.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل واحد من مئات القصص التي يعيشها أهالي الجنوب يومياً في قرى الحافّة؛ المدمّر بعضها بالكامل، أو بنسبة تتراوح بين 80 و90%. تمتد هذه القرى من الناقورة غرباً حتى شبعا على المثلّث الحدودي اللبناني - الفلسطيني - السوري، مروراً بالضهيرة، عيتا الشعب، مارون الراس، مركبا، وعديسة. ومنذ وقف إطلاق النار، عادت بعض العائلات إلى بلداتها، لكنّ الاحتلال ما زال يواجه هذه العودة بالتدمير الممنهج، من خلال الطائرات الحربية، والمسيّرات، والقصف المدفعي، أو حتى تفخيخ المنازل والمراكز التجارية. وتجاوزت نسب التدمير في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار ما نُفّذ خلال العدوان نفسه.
وبالرغم من أنّ عودة الأهالي لا تزال خجولة، فإنهم يحرصون على تأمين مقوّمات حياة بسيطة للبقاء أو التردّد الدائم، مدفوعين بمبادرات فردية، آخرها "مشروع تحرير الأرض" الذي أطلقه حسين صالح من بلدة راميا الحدودية، ويعتمد على التبرّعات بدءاً من دولار واحد. "الشعور الأجمل في هذه الحياة أننا استطعنا أن نضيء لمبة لعائلة في عيتا الشعب كانت تعيش في الظلمة"، يقول صالح، الذي تمكّن من تنفيذ عدّة مشاريع، منها تركيب ألواح طاقة شمسية، ترميم بيوت متضررة، إصلاح جرّافات زراعية، توفير مواد غذائية، وافتتاح مهن صغيرة.
"تحرير الأرض"، كما يشرح صالح، لا يعني فقط طرد الاحتلال، بل حماية مقوّمات الحياة من محاولات المحو والترهيب: "تحرير الأرض يعني أن يعيش الناس بأمان، وأن يذهب الشاب إلى عمله ويعود حيّاً، أن نحصد محاصيلنا بلا قنابل، ونبني بلا خوف".
وتجري هذه الأنشطة تحت تحليق طائرات التجسس، وفي ظل شمس حارقة لا تقي منها الأسقف، بعدما باتت قرى الحافة مكشوفة تماماً. وهنا يتقاطع مفهوما الحياة والموت: ففي وقت يلاحق الموت النّفَس وكلّ يد تمتدّ إلى الزرع وكلّ حجر يُرفع للبناء، يصبح السعي إلى الحياة فعل مقاومة بحدّ ذاته في وجه الإبادة. حتى عندما تلقي الطائرات قنابل صوتية أو دخانية على محيط الحقول، والتي تتسبّب بحرائق للمحاصيل والأحراج. يقول المزارع إبراهيم ناصر من عيتا الشعب: "كلّ ما زتّو قنبلة بدنا نخاف؟ شو هالحكي؟ بدنا نشتغل، بدنا نعيش، هاي أرضنا، شو إلو معنا هو؟". وهكذا، يغدو الترهيب فعل تحدٍّ، ويصبح الموت مألوفاً، بينما الحياة بالخوف عبث لا طائل منه.
وفي ظلّ هذا الواقع، تواصل "إسرائيل" سياسة إعدام الحياة، مستهدفة حتى البيوت الجاهزة في بلدات مثل الناقورة وطير حرفا. لكنّ الجنوبيين لا يستسلمون، بل يعاودون تثبيت البيوت من جديد. عشرات البيوت استُهدفت، وتقابلها آلاف المحاولات للبقاء. فجنوب لبنان مدمن على أهله، وأهله مدمنون على ترابه.
يشمل ذلك أيضاً صيّادي البحر في الناقورة. فبعد انتهاء الحرب، استأنفوا عملهم، برغم استمرار ملاحقتهم من قبل الاحتلال، سواء عبر الاستهدافات أو الخطف. إذ تُعدّ مهنة الصيد ركيزة اقتصادية لأبناء القرى الساحلية.
ليست القذائف ولا الطائرات ما يمنع أهالي القرى الحدودية من العودة، وهنا المفارقة بين ما يحاول الاحتلال ترسيخه بالقتل والترهيب، وبين من يُخلص لبلاده. إذ يحاول الأهالي تأمين الحياة على نحو تعينهم على المبيت حتى تحت الطائرات، فيما الطائرات تغيظها الندّية.