انهيار القدرة الإنتاجية في غزة: المجاعة تفتك بالأجساد.. والعقول

تُهدّد المجاعة المتفاقمة في غزة بطمس ما تبقّى من قدرة اقتصادية، إذ تهاوت إنتاجية الشركات بفعل الجوع والإنهاك، وتحوّل العمل إلى عبء جسدي ونفسي يفوق طاقة الموظفين.

0:00
  • انهيار القدرة الإنتاجية في غزة: المجاعة تفتك بالأجساد.. والعقول
    انهيار القدرة الإنتاجية في غزة: المجاعة تفتك بالأجساد.. والعقول

الجوع في غزة لم يعد صامتاً... بل ناطقاً بانهيار الأعمال، وانطفاء الأحلام، وانكسار الأجساد. هنا، حيث الخبز حلم، والماء رجاء، والكهرباء ذكرى، تترنّح الأعمال والمصالح في مهبّ الجوع، وتتساقط كما تهوي الأجساد على الأرصفة.

تعطّلت العقول من فرط الإرهاق، وتوقفت عجلة الإنتاج تحت سطوة الإنهاك، فلا غذاء يُقوّي، ولا راحة تُنقذ، ولا أفق يُبشّر، في غزة اليوم، لا ترف في العمل، ولا طاقة في الجسد، ولا شرارة في الفكر.

المصانع تئن، والمكاتب تذبل، والموظفون يكافحون بأجساد خاوية، وعيون ساهرة، وأذهان غائرة في متاهة الجوع والتعب. ليس الأمر أزمة مؤقتة، بل انهيار متواصل، ليس غياب إنتاج، بل غياب قدرة، ليس فشلاً في الإدارة، بل فشلاً في البقاء حيّاً وسط حصار الجوع وانعدام الضروريات.

هنا، لا صوت يعلو فوق أنين المعدة، ولا عمل يصمد في وجه الوجع، ولا فكرة تولد من عقل أنهكه الضياع.

مديرو الشركات لم يعودوا يُحصون الأرباح والخسائر، بل يُحصون أيام القدرة على البقاء، وعدد الموظفين القادرين على الصمود في وجه الجوع.

كشف مدير شركة "بداية" للتسويق في حديثه للميادين نت، أن الشركة تشهد تدهوراً كبيراً في قدرتها التشغيلية نتيجة تداعيات المجاعة المتفاقمة التي تضرب قطاع غزة، مشيراً إلى أن نقص الغذاء وسوء التغذية انعكس بشكل مباشر على طاقة الموظفين وأدائهم، وأدى إلى هزال جسدي عام وضعف حاد في التركيز والإنجاز.

وأوضح أن معدل الإنجاز داخل الشركة انخفض بنسبة تقارب 50%، بفعل الإنهاك الجسدي والنفسي الذي يعاني منه الفريق، مشدداً على أن "الجوع لم يعد مجرد حالة مؤقتة، بل أصبح واقعاً يومياً يهدد استمرارية العمل وقدرة الطواقم البشرية على الصمود".

بحسب تقارير منظمات إنسانية، فإن أكثر من نصف سكان قطاع غزة مهددون بانعدام الأمن الغذائي الحاد، في ظل حصار خانق ونقص مزمن في الإمدادات.

وتشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن المجاعة تقترب من مراحلها الكاملة في بعض مناطق القطاع، حيث يعتمد الناس بشكل شبه كلي على المساعدات الطارئة، التي لا تكفي الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية.

وفي ظل هذا التراجع، أكد مدير الشركة أن "بداية" اضطرت إلى تعليق ما يقارب 90% من خدماتها، وفي مقدمتها حملات إدارة وسائل التواصل الاجتماعي، نتيجة عدم توفر الحد الأدنى من الظروف التي تسمح بالاستمرار، سواء من ناحية الطاقة الجسدية أو الإمكانيات التقنية.

وعن الأجواء الداخلية، قال إن الفريق يبذل جهداً جماعياً في محاولة للبقاء متماسكاً برغم الانهيار المتسارع، موضحاً: "نحاول أن نكون يداً واحدة، نساعد بعضنا البعض، نخفف عن بعض، نحل مشكلاتنا ضمن طاقة جماعية. نحن لا نواجه أزمة سوق فحسب، بل نواجه حالة استنزاف إنساني كامل تتجاوز حدود الاقتصاد والعمل".

القطاع الخاص في غزة، الذي لطالما كان متنفساً للعمال والمبدعين في ظل انسداد الأفق الحكومي، يتعرض حالياً لنكسة غير مسبوقة، مع توقف آلاف الأعمال التجارية والصناعية بسبب الأوضاع المعيشية المتدهورة.

وتشير تقارير اقتصادية إلى أن أكثر من 80% من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تواجه خطر الإغلاق الكامل أو الجزئي.

في زاوية أخرى من المعاناة، يقف عبد الرحمن النواتي، مصمم غرافيك، شاب اعتاد أن تكون الفكرة نبضه اليومي، فإذا بها اليوم تنطفئ في زحام الجوع.

أكد النواتي في حديثه للميادين نت أن العمل في مجال التصميم الإبداعي أصبح شبه مستحيل في ظل الجوع المتواصل والتعب المزمن الذي يضرب الجسد والعقل معاً، موضحاً أن قدرته الذهنية على التركيز والإنتاج تراجعت بشكل كبير، وأن عملية توليد الأفكار أصبحت بطيئة ومُرهقة، وكأن الذهن يعمل في بيئة مغلقة ومطفأة.

وأشار النواتي إلى أن فترات الجمود الذهني أصبحت متكررة، خاصة في ساعات الليل أو عند الصيام الطويل، حيث يجد نفسه جالساً أمام شاشة التصميم بدون أن ينجز شيئاً يُذكر، في ظل انقطاع الخيال وتوقف الذهن عن التفاعل. 

وأوضح أن هذا الانقطاع لا يعود فقط إلى ضعف الجسد، بل إلى حالة من الإنهاك الذهني المتراكم الناتج عن الجوع والضغط النفسي الحاد.

وبيّن أن الجوع بات يشكل عائقاً ذهنياً قبل أن يكون جسدياً، حيث يُضعف القدرة على اتخاذ قرارات بصرية دقيقة، ويجعل الألوان والأفكار والتفاصيل تبدو باهتة وفاقدة للمعنى.

التدهور الصحي في القطاع لا يقتصر على الأطفال فقط، بل يشمل شرائح واسعة من الشباب والمهنيين، الذين أصبحوا يعانون من أعراض سوء تغذية حاد، تشمل ضعف التركيز، والدوخة، والانهيار النفسي.

وهو ما ينعكس بشكل مباشر على الإنتاجية داخل الشركات، خاصة في القطاعات الإبداعية التي تتطلب طاقة ذهنية مستمرة. 

وأضاف أن عمله في كثير من الأحيان يتم بدون توفر الطعام، وأنه يضطر للاستمرار في التصميم برغم الجوع، مما يؤثر سلباً على جودة المنتج النهائي ويضاعف من إنهاكه لاحقاً.

وتحدث النواتي عن أسابيع كاملة لم يتمكن فيها من العمل إطلاقاً، نتيجة غياب الغذاء وتدهور الحالة النفسية، مؤكداً أن التصميم في تلك الفترات لم يعد مساحة إبداع، بل تحوّل إلى عبء ثقيل لا طاقة له على حمله.

في سوق الشيخ رضوان، تتجسّد ملامح الإنهاك على وجوه الباعة كما تتجسد على أرصفة الشوارع.

أبو وسيم الحلو، بائع خضار في العقد السادس من عمره، يقف أمام بسطته مثقلاً بجسد أنهكه الجوع، ويوم عمل لا يرحم.

لم يعد يستطيع احتمال ساعات السوق كما كان من قبل؛ فالجهد الذي يتطلبه حمل الصناديق، وترتيب البضائع، والنداء على الزبائن، أصبح عبئاً يفوق قدرة جسده المُتعب، الذي ما عادت تغذّيه لقمة ولا تُعينه طاقة.

يؤكد أبو وسيم أن يوم العمل لم يعد كما كان، لا من حيث الحركة، ولا من حيث العائد، ولا حتى من حيث القدرة على التحمل.

ويقول الحلو: "سابقاً كنا نتحمل يوم السوق الممتد من الفجر حتى غروب الشمس، أما اليوم، فبعد مرور ساعتين نشعر بالإرهاق الشديد وكأن الجسر على وشك الانهيار"، مؤكداً أن الجوع يثقل كاهله ويعيق صفاء ذهنه.

تشير التقارير إلى أن المجاعة في قطاع غزة لم تعد مجرد تهديد مستقبلي، بل واقع يومي يعيشه آلاف المواطنين، بينهم الباعة في الأسواق الشعبية. فمع تراجع القدرة الشرائية وتزايد نقص الغذاء، بات الكثير من هؤلاء العاملين يعانون من إرهاق جسدي متزايد نتيجة الجوع المزمن، ما يؤثر سلباً على قدرتهم على مواصلة عملهم لساعات طويلة. 

ويضيف البائع الحلو أن حرارة السوق، والازدحام، وشُح الزبائن، باتت تفاصيل إضافية في معادلة مرهقة أصلها الجوع والإنهاك.

أبو وسيم لا يشكو من الركود فقط، بل من تآكل القدرة على الاستمرار، ومن خذلان الجسد في معركة البقاء اليومية، موضحاً أن كل دقيقة تمرّ في السوق باتت أشبه بمعركة بين الرغبة في الصمود وحقيقة الوهن الذي يُطوّقه من كل جانب.

تتداخل المجاعة والحصار لتُحدث انهياراً لا يطال الجسد فقط، بل الحياة الاقتصادية والإنسانية بأكملها. تعطل الأعمال وتراجع القدرات الجسدية والذهنية يشكلان تهديداً وجودياً للمجتمع، وينذرون بمستقبل قاتم ما لم تُبذل جهود عاجلة ومنسقة لإنقاذ القطاع من هذا السقوط. وسط هذه الأزمة التي تعصف بكل تفاصيل الحياة، يبقى الإنسان الحلقة الأضعف، لكنه في الوقت نفسه الأمل الذي لا يجب أن ينطفئ. الصمود ممكن، لكنه يحتاج إلى دعم حقيقي وتدخل عاجل للحفاظ على ما تبقى من حياة وعمل وأحلام. 

اخترنا لك