التعليم في قرى الحافّة جنوب لبنان: صمود أمام الحرب وإعدام الحياة
برغم الدمار والاعتداءات الإسرائيلية والظروف الاقتصادية القاسية، يتمسك أهالي القرى الحدودية حنوبي لبنان بتعليم أبنائهم كخيار صمود. وتتكامل جهود الأهالي والمدارس والبلديات لضمان استمرار العملية التعليمية.
-
التعليم في قرى الحافّة جنوب لبنان: صمود أمام الحرب وإعدام الحياة
مع بداية العام الدراسي الجديد، يعيش طلاب القرى الحدودية الجنوبية واقعاً استثنائياً، إذ لا تقتصر العودة إلى المدارس على تأمين المستلزمات التربوية، بل تتحوّل إلى مواجهة مفتوحة مع الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة والتقاعس الرسمي. وبرغم كل ذلك، يصرّ الأهالي والمعلّمون والبلديات على إبقاء التعليم حيّاً، باعتباره شاهداً على عزيمة أبناء هذه القرى ورمزاً لصمودهم في وجه الحرب والعدوان.
الأهالي: التعليم فعل مقاومة وصمود
الأهالي لم يتخلّوا عن التعليم كأولوية، حتى وسط دمار المنازل وضيق الأحوال المعيشية. سماح عطوي، التي نزحت من الناقورة بعد تهدم منزلها، سجّلت ولديها في مدرسة البلدة الرسمية، واعتبرت أن التعليم هو "فعل مقاومة وصمود". مثلها وفيقة حرب من بنت جبيل التي اضطرت لإرسال ولديها إلى مدرسة مجاورة لغياب صفوف اللغة الفرنسية في بلدتها، مؤكدة أن الأهالي لا يتراجعون عن مسيرة التعليم برغم التحليق اليومي للطائرات المسيّرة والاعتداءات الإسرائيلية.
أما فاطمة جواد من عيتا الشعب، فتروي كيف تسعى يومياً لإيصال أولادها الأربعة مع عشرات من أبناء البلدة إلى مدارس بنت جبيل، متحدية صعوبة النقل وارتفاع تكاليف القرطاسية والكتب، وغياب مبادرات الدعم، ونقص الأساتذة الخصوصيين لتعويض الفاقد التعليمي بعد سنوات من التعلم عن بُعد. وبرغم كل هذه العراقيل، تؤكد أنها ستبذل كل ما تستطيع حتى لا ينقطع أولادها عن الدراسة.
المدارس: بين العجز المالي والفاقد التعليمي
المدارس بدورها تواجه تحديات جمّة. فقد تضررت أبنيتها جزئياً أو كلياً واضطرت إلى إعادة الترميم وتأمين المستلزمات الأساسية بقدرات محدودة. في مدرسة الهداية – القليلة الخاصة ما زالت البنى التحتية بحاجة إلى صيانة والوسائل التعليمية شحيحة، بينما تعاني مدرسة بنت جبيل الرسمية الثانية المختلطة من عجز مالي برغم عمليات الترميم. مديرة المدرسة رنا حمود أوضحت أن إفلاس صندوق المدرسة وارتفاع الكلفة التشغيلية جعلا من الصعب تغطية النفقات، وأن الطلاب يعانون من فجوة تعليمية كبيرة بعد عامين من التعليم عن بُعد، ما دفع وزارة التربية إلى وضع خطة تستمر شهرين لردم هذا النقص.
من جهته، يؤكد مدير مدرسة الهداية علي أبو خليل أن طبيعة المنطقة البعيدة والظروف الأمنية القاسية تحول دون استقطاب أساتذة متخصصين، برغم استقرار أعداد الطلاب. أما مدرسة بنت جبيل، فتشهد نقصاً في الكادر التعليمي بسبب نزوح بعض المعلمين، في وقت بلغ عدد الطلاب نحو مئتي طالب، وهو رقم قريب من مستويات ما قبل الحرب. الاعتداءات المتكررة تضيف صعوبات إضافية، إذ يتأثر الحضور اليومي في القليلة بشكل مباشر، فيما يتعايش أهالي بنت جبيل مع الوضع الأمني بقلق دائم.
المبادرات المحلية: تعويض غياب الدولة
غياب الدعم الحكومي جعل المدارس تعتمد على مبادرات محلية وأهلية لتعويض النقص. فمدرسة الهداية قدّمت إعفاءات جزئية من الأقساط، وساعدت الأهالي في تأمين القرطاسية والتجهيزات، إضافة إلى برامج دعم نفسي واجتماعي للطلاب. أما مدرسة بنت جبيل، فاستفادت من مبادرات الجمعيات المحلية التي ساعدت في إزالة الركام وتنظيف المبنى وتقديم مساعدات غذائية، كما حصلت على دعم من البلديات والاتحاد لتأمين الكهرباء والمستلزمات اللوجستية، فضلاً عن مساهمات المغتربين التي خففت جزءاً من الأعباء المتراكمة.
البلديات: التعليم أولوية وسط الدمار
البلديات أدرجت التعليم في صلب أولوياتها. ففي الخيام، دمّرت المدارس الرسمية والثانوية والمتوسطة والمهنية، إضافة إلى مدرستين خاصتين، ما دفع البلدية إلى استئجار مبنى مدرسة خاصة كبديل، فيما فتحت المبرات أبوابها لاستقبال الطلاب. وفي عيترون، تضررت مدرستا الشهيد سعيد مواسي والشهيد حسين عواضة، بينما شهدت ميس الجبل تدميراً واسعاً دفع إلى إنشاء تجمع مدارس مؤقت.
رؤساء البلديات أكدوا أن مجلس الجنوب تكفّل بترميم بعض الأبنية، وأن البلديات لم تقتصر جهودها على الترميم، بل أطلقت أيضاً مبادرات لدعم الطلاب. ففي الخيام جرى تأمين 350 طاولة وكرسي عبر جمعيات محلية، وتغطية أقساط نحو ألف طالب، إضافة إلى توفير تكاليف النقل والقرطاسية. وفي عيترون نُظمت دورة تأهيلية لـ180 طالباً على مدى ثمانية أسابيع، ومحاضرات للمعلمين للتعامل مع الطلاب بعد الأزمة، فضلاً عن تغطية 75% من أقساط طلاب المرحلة الثانوية، ومشروع خاص لدعم طلاب الجامعات المتنقلين بين صور والنبطية. أما في ميس الجبل، فأُنجز 80% من مشروع المدارس المؤقتة بغرف جاهزة تستوعب 300 طالب.
غياب الدولة: العائق الأكبر
وبرغم هذه الجهود، يشدد رؤساء البلديات على أن غياب الدولة يبقى العائق الأكبر أمام إعادة النهوض بالقطاع التربوي. رئيس بلدية الخيام عباس السيد علي أكد أن ما تحقق يعود بدرجة أساسية لمجلس الجنوب وجمعية العمل البلدي، فيما دعا رئيس بلدية عيترون سليم مراد وزارة التربية إلى وضع سياسة وطنية شاملة تراعي خصوصية المنطقة الحدودية وتلبي حاجات طلابها الذين عانوا من التهجير والاعتداءات الإسرائيلية.
التعليم خيار حياة في وجه العدوان
في النهاية، يلتقي الأهالي والمدارس والبلديات عند قناعة راسخة بأن التعليم في القرى الحدودية ليس مجرد حق أساسي، بل خيار صمود ومقاومة. فبرغم النزوح والدمار وارتفاع الكلفة الاقتصادية والاعتداءات اليومية، تبقى مقاعد الدراسة رمزاً للأمل ومستقبل الأبناء، وتستمر المسيرة التعليمية بإرادة جماعية وجهود فردية ومحلية، لتؤكد أن المعرفة هنا فعل حياة في وجه العدوان.