منابر تآلف لا منابر سلطة: مدرسة السيّد نصر الله القيادية

يبرز السيّد حسن نصر الله كقائد اعتمد "التربية بالحب" منهجًا في علاقته بجمهوره، فخاطبهم بصدق وثقة بعيدًا من الترهيب والشعارات. هذا الأسلوب حوّل الطاعة إلى وعي وشراكة، وجعل حضوره مستمرًا في سلوك الناس ومواقفهم حتى بعد رحيله.

0:00
  • منابر تآلف لا منابر سلطة: مدرسة السيّد نصر الله القيادية
    منابر تآلف لا منابر سلطة: مدرسة السيّد نصر الله القيادية

في زمنٍ تُختَزَل فيه علاقة المواطن بقادته بالشعارات، وتُفهم القيادة كوصاية، ظهر رجل خاطب الناس لا بعصا السلطة، ولا ببرودة الخطاب، بل بحرارة القلب. أحبّهم بصدق، فصدّقوه. رأى فيهم نُبلًا، فصاروا أنبل. منحهم ثقةً، فصاروا أمناء عليها. هذا ليس حديثًا عن شخصية كاريزمية فحسب، بل عن تجربة تربوية كاملة: قائدٌ يربّي بالحب، وجماعةٌ تردّ الحب فعلًا على الأرض، وتُعيد إنتاجه في لحظات الألم والاختبار.

تختلف قيادة السيّد حسن نصر الله جذريًا عن نمط القيادة التقليدية السائد في المنطقة والعالم. فالكثير من الأنظمة تعتمد على أدوات الترهيب المباشر أو على الشعارات الفارغة. في بعض الدول، تُبنى العلاقة مع الناس على الخوف من العقاب، كما في نموذج بعض الأنظمة العربية التي تستخدم السلطة لتكريس الصمت والطاعة. وفي دولٍ أخرى، تتزيّن الخطابات بالكلمات الرنانة، لكنها تبقى بعيدة عن الوجدان الشعبي، لأن الناس لا ترى في هذا النوع من الخطاب حبًا حقيقيًا أو التزامًا صادقًا.

في النموذج التقليدي، حتى القادة الذين يظهرون بصورة "مدنية" أو "ديمقراطية" غالبًا ما يكونون موظفين كبارًا أكثر منهم قادة حقيقيين. يشرحون ويبررون ويتحدثون بلغة مدروسة، لكن من دون دفء، ومن دون أثر. لا يُلهِمون، ولا يُربّون، ولا يزرعون في قلوب الناس.

أما السيّد، فقد اختار طريقًا مختلفًا تمامًا: لم يستخدم الترهيب، ولم يكتفِ بالخطابة، بل اختار التربية بالحب. رأى الناس وأحبّهم، فصدقوه وساروا معه، لا لأنهم مجبرون، بل لأنهم شعروا أنه واحدٌ منهم. فصار له في القلوب موقعٌ لا تهبه المناصب ولا تصنعه الأضواء.

لم يكن السيّد حسن نصر الله يخاطب الناس ليُقنعهم، بل لأنه يحبّهم. كان يصعد المنبر لا ليُصدر أوامر، بل ليشاركهم أفكاره، ويجعلهم جزءًا من فهمه لا أتباعًا له. كان يرى في الشرح حقًّا لهم، وفي الفهم المشترك شرطًا للثقة. وكان يؤمن بأنهم قادرون على التفكّر معه بصوتٍ عالٍ، ليختاروا هم، لا هو، ما يصدقونه ويؤمنون به. هذا الأسلوب خلق مجتمعًا واعيًا وحرًّا يشعر بأنه شريك حقيقي في القرار والنضال.

الخطاب كأداة محبّة

حين كان السيّد نصر الله يتوجّه إلى جمهوره، لم يكن يتحدّث إليهم من فوق، بل من داخلهم. لم يكن يخاطبهم كقائدٍ يصدر تعليماته، بل كأبٍ يرى في أبنائه نورًا يستحق أن يُغذّى. كانت كلماته تنطوي على إيمانٍ حقيقي بالناس، على ثقةٍ عميقة بقدرتهم على التغيير، وعلى محبّة لا تستند إلى حسابات بل إلى معرفة. مناداتُه لهم بـ"أشرف الناس"، و"أوفى الناس"، و"أطهر الناس" لم تكن مجرّد كلمات، بل كانت مرايا. وحين نظروا في تلك المرايا، رأوا ما يستطيعون أن يكونوه.

لقد بنى السيّد علاقةً أبوية مع جمهوره، لم تقم على الخوف من العقوبة، بل على خشية التفريط في هذا الحب. لم يطيعوه خوفًا منه، بل حبًا له، لأنهم شعروا أنه أحبّهم أولًا. هذه هي التربية بالحب: طاعةٌ تنبع من وعي عميق، ومن إيمان بالذات قبل إيمان بالقائد. طاعةٌ تولد من حبّ الأب القائد، لا من رهبة سلطته. وبعد كل خطاب له، كان الناس يختارون أن يطيعوا قراره، بل ويصرّحون من تلقاء أنفسهم بأنهم مستعدون "لخوض البحر معه".

"يا أشرف الناس" لم تكن مجاملة، بل شهادة. و"يا أوفى الناس" كانت تربية على الوفاء، بلغة توقظ الإحساس بالشرف الذاتي، لا بلغة تُصدّر الإدانة أو تفرض الأوامر. جعلهم يرون أنهم قادرون على أن يكونوا صورةً لتلك الكلمات، فاستمروا، بل وازدادوا شرفًا وصدقًا ووفاءً.

امتحان التربية في ميادين الفقد والمواجهة

أعظم الشهادات على نجاح هذه التربية تجلّت في لحظة الاختبار.

ها هم الناس الذين خسروا أبناءهم في الجبهات، وفقدوا أرزاقهم في المعارك، وسُرقت أرضهم تحت الحصار، لا يزالون يقفون من أجل غزة. وها هم أبناء ذلك الرجل الذي لم يحتمل يومًا السكوت على مجازرها، لا يحتملون رؤية طفلٍ جائع، فيبادرون.

من يُربّى بالحب لا يحسب بالعقل وحده، بل بالحسّ. لا يسأل: "ما دخلي؟" بل يسأل: "من أنا إن لم أكن لهذا الجائع؟". هؤلاء الذين صاغهم السيّد بكلماته صاروا اليوم صورته الحيّة. لم ينتظروا مكافأة، ولم يترددوا أمام الخسائر، لأنهم تعلّموا أن الإنسان الحقّ لا يكون إلا في نصرة المظلوم مهما كانت الظروف.

كان السيّد يشبه الناس، وبعد رحيله صارت الناس تشبه السيّد. صاروا يتحركون بروحه، ويجسّدون "أخلاقه" في الساحات كما كان يتصرّف هو في المحن. صار غيابه حضورًا، وصار حبه سلوكًا حيًّا في حياتهم.

الحبّ كقوة قيادية

ليست القيادة كلماتٍ عالية تُلقى من منصّات بعيدة، ولا شعاراتٍ تُعلّق على الجدران ثم تُنسى. القيادة، حين تخلع عن ذاتها سطوة السلطة وتكتسي برداء الحب، تصير فعلًا تربويًا وبناءً داخليًا للأمم لا مجرّد توجيهٍ خارجي.

وليست التربية بالحبّ ضعفًا أو انفعالًا عاطفيًا زائلًا، بل بناءٌ طويل النفس، يصنع إنسانًا لا يتحرّك بالخوف بل بالضمير. لم يُربِّ السيّد الناس ليكونوا أتباعًا، بل ليكونوا أحرارًا. لم يُرِدْ لهم أن يخافوه، بل أن يخجلوا من خذلان ما زرعه فيهم.

في عالمٍ تُبنى فيه السلطات على الهيبة والقيادات على الخطابة، كان هو استثناءً جوهريًا: بنى قيادته على المحبّة، ونقش أثره في القلوب لا في الجدران. فصار غيابه حضورًا، وصار خطابه وعيًا لا يُمحى. لأن الحبّ الذي زرعه لم يكن شعورًا، بل منهجًا. منهجٌ ربّى به جيلًا، وها هو الجيل يربّي به نفسه من بعده. فالقادة الحقيقيون لا يصنعون تاريخًا فحسب، بل يصوغون طبيعة الإنسان في زمنهم.

وهذا هو السيّد.

وها هم أبناء السيّد.

اخترنا لك